ترجمة وتحرير: نون بوست
علم أسامة الساحلي بشأن حطام القارب أولًا من مقطع فيديو تم إرساله على “واتساب”. كان جالسًا في غرفة معيشته في فنلندا يوم عيد الميلاد في سنة 2021 عندما تلقى رسالةً على هاتفه المحمول فيها مقطع فيديو تم تصويره الليلة السابقة يظهر قاربا صغيرًا يغرق قبالة جزيرة باروس اليونانية في بحر إيجة وعلى متنه 77 شخصًا كان بينهم شقيقه خيرالدين باديًا بين الركاب بلحية سوداء وعيون غائرة متعبة.
بعد عدة دقائق مؤلمة، تلقى مقطع فيديو جديد يظهر فيه الركاب وهم ينزلون من قارب صيد أنقذ بعض الناجين وبينهم خير الدين مرتجفًا في قميص كاكي اللون. قال أسامة لـ “نيو لاينز”: “هكذا عرفت أنه على قيد الحياة”. فرّ أسامة وخير الدين الساحلي من مسقط رأسيهما في بانياس سوريا في الأيام الأولى للحرب. شقّ أسامة طريقه من تركيا شمالًا عبر البلقان ليصل في النهاية إلى فنلندا حيث حصل على حق اللجوء، بينما ظل خيرالدين عالقًا في تركيا. حيال ذلك، يقول أسامة: “أعاده حرس الحدود اليونانيون إلى تركيا ثلاث مرات بعد عبوره نهر إيفروس إلى اليونان”.
كانت ابنة خير الدين البالغة من العمر 3 سنوات تعاني تدهورًا في حالة القلب يتطلب علاجها في أوروبا. وبعد أن أحبطه فشل محاولات عبور الحدود سيرًا على الأقدام، اتصل في النهاية بمهرب على أمل ترتيب رحلة بالقارب تتجاوز اليونان إلى إيطاليا لمسافة تزيد عن 1000 كيلومتر. يؤكد أسامة “قرر المخاطرة بحياته لإنقاذ ابنته لكن حدث ما هو مؤسف”.
بعد فيديو حطام القارب، لم تصل إلى أسامة أخبار أخرى عن شقيقه حتى تلقى بعد أيام مكالمات هاتفية من سجن يوناني. على الطرف الآخر من الخط، أوضح خيرالدين أنه قبِل عرضًا لتوجيه القارب بنفسه لأنه لم يكن لديه ما يكفي من المال لدفع ثمن الرحلة. والآن تتهمه الشرطة اليونانية بأنه المهرب المنظم للرحلة التي أدت إلى غرق 18 راكبًا، وهو يواجه عقوبة بالسجن مدى الحياة عن كل الضحايا 18 الذين غرقوا.
بدأ الضغط لمحاكمة المهاجرين بصفتهم مهربين بشكل جدي خلال العقد الماضي
إن أحكام السجن مثلما هو حال خيرالدين ليست نادرة. يُسجن آلاف المهاجرين في جميع أنحاء أوروبا بتهمة الارتباط بالمهربين، وفي أغلب الأحيان لا يكون الدليل أكثر من أنهم أمسكوا بمقود القارب أو قاموا بتقديم سترة نجاة إلى راكب آخر. وبالنظر إلى الأنظمة والإجراءات القضائية المتباينة المعمول بها في مختلف البلدان الأوروبية، من المستحيل تقدير العدد الإجمالي للأشخاص المسجونين حاليًا بتهمة تهريب المهاجرين عبر الاتحاد الأوروبي، لكن الأرقام التي حصلت عليها “نيو لاينز” في ثلاث دول تشير إلى أنها تقدر بالآلاف.
في إيطاليا، أشارت تقديرات المنظمة الإيطالية غير الحكومية “بوركو روسو” إلى أن أكثر من 2500 من سائقي القوارب تم سجنهم منذ سنة 2014. وفي اليونان، تمكنت مجلة “نيو لاينز” من معرفة أن أكثر من 2200 شخص مسجونون حاليًا بتهمة تهريب البشر أو “تسهيل الهجرة غير الشرعية” للأشخاص داخل البلاد، بحسب وزارة العدل. ووفقًا للبيانات التي حصلت عليها المجلة في المملكة المتحدة من خلال التماس حرية المعلومات، حُكم على 912 شخصًا بتهمة تسهيل الهجرة بين تشرين الأول/ أكتوبر 2019 وتشرين الأول/ أكتوبر 2021 في مقاطعة كينت وحدها حيث يصل معظم المهاجرين. غالبًا ما تكون الأحكام قاسية وتصل إلى عشرات السنين في السجن ورغم المطالبات في المملكة المتحدة بعدم مقاضاة طالبي اللجوء كما لو كانوا مهربين في سابقة قانونية، إلا أن أولئك الذين يقودون القوارب عبر القناة الإنجليزية مازالوا يتعرضون لإمكانية السجن مدى الحياة.
بدأ الضغط لمحاكمة المهاجرين بصفتهم مهربين بشكل جدي خلال العقد الماضي، حينما وجدت أوروبا نفسها تعاني من تداعيات أزمة نزوح بشرية بلغت ذروتها مع اندلاع الحرب في سوريا. مع ذلك، للهجرة أيضًا جذور أقدم وأعمق تعود إلى الاضطرابات الاقتصادية والسياسية التي أعقبت الركود العالمي سنة 2008 والانتفاضات السياسية سنة 2011 في المناطق الواقعة على طول سواحل جنوب وشرق البحر المتوسط وأفريقيا.
وصلت أوروبا نقطة تحول سياسية بعد غرق أكثر من 800 مهاجر في حادثة حطام سفينة على بعد 60 ميلاً قبالة الساحل الليبي في 19 نيسان/ أبريل 2015، أثناء محاولتهم الوصول إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية. ونظرا لأن معظم الأشخاص على متن السفينة كانوا من اللاجئين والمهاجرين القادمين من إريتريا وسوريا ودول غرب إفريقيا، هزّ حجم المأساة صانعي السياسات ما دفعهم لإيجاد الجاني لهذه الحوادث المتكررة.
أعلن مفوض الاتحاد الأوروبي السابق للهجرة ديميتريس أفراموبولوس، بعد خمسة أيام من غرق السفينة: “لقد أعلنا الحرب على المهربين”. سافر أكثر من مليون شخص إلى أوروبا لطلب اللجوء في تلك السنة، ومنذ ذلك الحين حاولت السلطات الوطنية إيقاف الوافدين من خلال اعتقال آلاف الأشخاص واتهامهم بالانتماء إلى شبكات إجرامية منظمة تهرب المهاجرين إلى أوروبا.
يمكن رؤية التركيز المتزايد على أمن الحدود بوضوح في مخصصات ميزانية الاتحاد الأوروبي. أظهر تقرير نشرته “ستيت واتش” في آذار/ مارس هذه السنة أنه تم تخصيص ميزانية غير مسبوقة لأغراض الدفاع والأمن تبلغ 43.9 مليار يورو للفترة 2021-2027، أي أكثر من ضعف ما تم تخصيصه للفترة 2015-2021 المقدرة بـ 19.7 بليون يورو.
جلسوا مطأطئي الرأس أمام ثلاثة قضاة منتظرين بفارغ الصبر دورهم للإدلاء بشهادتهم
وفي إطار هذه الزيادة الإجمالية في الميزانية الأمنية، مُنحت زيادات محددة تتعلق بمراقبة الحدود ومكافحة التهريب بنسبة 90 بالمئة إلى صندوق الأمن الداخلي، وبنسبة 131 بالمئة إلى الصندوق المتكامل لإدارة الحدود، وكذلك إلى وكالات إنفاذ القانون مثل اليوروبول وفرونتكس التي اكتسب كل منها زيادة في الميزانية بنسبة 129 بالمئة. ولكن لم توقف أي من هذه الجهود حتى الآن الوفيات في البحر، وقد غرق أو اختفى ما يقارب 2000 شخص في البحر المتوسط في سنة 2021 وحدها، فيما وصفته المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة بأنه أخطر حدود العالم للمهاجرين.
كان العديد من طالبي اللجوء مثل خير الدين الساحلي من بين الآلاف الذين تم اعتقالهم نتيجة هذه الحرب المكثفة على تهريب البشر مع عدم وجود صلة واضحة بالجريمة المنظمة. وقد حللت “نيو لاينز” عشرات قضايا المحاكم في جميع أنحاء اليونان وإيطاليا والمملكة المتحدة وإسبانيا، كما أجرت مقابلات مع محامين وسلطات وناشطين وأشخاص متهمين بأنهم مهربو بشر. ومن بين نتائج هذا التحليل اكتشاف تعرض شرطة الحدود على حدود أوروبا على البحر الأبيض المتوسط لضغوط كبيرة من السلطات لتحديد المهربين بين ركاب قوارب المهاجرين.
غالبًا ما تشوب التحقيقات والمحاكمات مخالفات وسرعة الإجراءات في جميع أنحاء اليونان وإيطاليا والمملكة المتحدة. لا يلزم سوى القليل من إفادات الشهود للحصول على إدانة، وفي كثير من الحالات التي نظرت فيها مجلة “نيو لاينز”، كان أحد أفراد الشرطة أو حرس الحدود هو الشاهد الوحيد الذي يدلي بشهادته ضد المتهمين في المحاكمات. هذا الفعل البسيط واليائس المتمثل في توجيه قارب إلى الشواطئ الأوروبية، أو حمل جهاز تحديد المواقع أو حتى إجراء مكالمة استغاثة يمكن أن يؤدي إلى سجن شخص حتى عشرات السنين.
أكّد المحامون الذين تمت مقابلتهم من أجل هذا التحقيق في إيطاليا واليونان والمملكة المتحدة أن المتهمين بأنشطة التهريب في كثير من الحالات لا يفهمون تمامًا التهم الموجهة إليهم بسبب عدم توافر خدمات الترجمة. في النهاية يصبح لدى المحامين، الذين هم في الغالب محامون جنائيون تكلفهم الدولة وليس لديهم خبرة محددة في قانون الهجرة، فرصة ضئيلة أو معدومة لاستخلاص المعلومات بشكل صحيح وتقديم المشورة لعملائهم قبل المحاكمة.
في 5 أيار/ مايو 2022 مثُل خير الدين الساحلي أمام المحكمة في جزيرة سيروس اليونانية بعد 137 يومًا من اعتقاله، إلى جانب متهمين آخرين تم تحديدهما على أنهما مشتركان في قيادة القارب وهما عبد الله ج ومحمد بياسي. واجه الرجال الثلاثة من أصل سوري اتهامات بتشكيل “وِفاق إجرامي”، و”التسبب في غرق القارب” مع 18 ضحية، و”تسهيل الهجرة غير الشرعية” للناجين البالغ عددهم 59 إلى اليونان.
جلسوا مطأطئي الرأس أمام ثلاثة قضاة منتظرين بفارغ الصبر دورهم للإدلاء بشهادتهم. جادل ثلاثتهم بأنهم وافقوا فقط على توجيه القارب لأنهم لم يتمكنوا من دفع ما بين 7000 و10000 يورو مقابل الرحلة، قائلين إنهم عندما رأوا حجم القارب وحالته رفضوا توجيهه وشجعوا الركاب على المغادرة، لكن منعهم المهربون تحت تهديد السلاح. خلال إحدى فترات الراحة في المحاكمة، غلبتهم العاطفة عندما عرض عليهم أفراد أسر الأشخاص الذين سافروا إلى اليونان لحضور المحاكمة مقاطع فيديو لأطفالهم وزوجاتهم وأمهاتهم.
أوصى المدعي العام في مرافعته الختامية ببراءتهم من تهم التورط في تكوين “وفاق إجرامي” و”التسبب في غرق القارب”، وقال إن وفيات ليلة عيد الميلاد تلك ليست مسؤوليتهم. تنفست الغرفة الصعداء عندما حكم القضاة بأن الرجال الثلاثة مذنبون فقط بـ “تسهيل الدخول غير المشروع” لطالبي اللجوء.
في بعض الأحيان، يقبل الناس بقيادة القارب لأنهم لا يملكون المال لدفع ثمن الرحلة. وأحيانا، يجلسون بجوار المحرك، ويقفز المهرب بعد بضع دقائق في البحر
لكن بموجب القانون اليوناني، فإن مساعدة المهاجرين غير الشرعيين على دخول البلاد هي جناية تصل عقوبتها إلى السجن لمدة 15 سنة عن كل شخص يتم نقله. والقوانين من هذا النوع فيما يسمى ببلدان “الوصول الأول” معتمدة لفترة طويلة، وقد صيغت مشاريع قوانين تجرم تسهيل الهجرة غير الشرعية وتم الموافقة عليها في العديد من البلدان الأوروبية وفقًا لتوجيهات الاتحاد الأوروبي المعروفة باسم “حزمة الوسطاء” لسنة 2002، والتي قيمها الباحثون بتكليف من البرلمان الأوروبي في سنة 2018 على أنها “قانون سيئ غير مناسب للغرض”. وخلصت الدراسة إلى أن حزمة الوسطاء “بصيغتها الحالية، تسمح للدول الأعضاء بتوسيع تعريف التهريب إلى حد تجريم أفعال دون أي نية إجرامية”. ومن بين دول الاتحاد الأوروبي، تعد اليونان واحدة من أكثر الدول صرامة عندما يتعلق الأمر بتشريعات مكافحة التهريب.
في قضية خير الدين، قدر القضاة عقوبة أساسية بالسجن لمدة 10 سنوات عن كل شخص تم تهريبه، بالإضافة إلى ثلاث سنوات لكل من الناجين البالغ عددهم 59 الذين كانوا على متن القارب. وقد قرأوا الأحكام: 187 سنة سجن لخير الدين بصفته “قبطان” القارب، و126 سنة لكل من مساعديه عبد الله ومحمد.
بعد المحاكمة، غرد محامي المتهمين ديميتريس تشوليس معلنا أنه سيستأنف الأحكام: “هل تعتبر إدانة موكليك – الأبرياء – في إجمالي 439 سنة في السجن فوزًا؟! هذا هو الجنون في القوانين الصارمة لـ “أوروبا الحصينة”. هكذا دافع تشوليس الذي وُلد في ساموس، وهي جزيرة قريبة جدا من تركيا المجاورة بحيث يمكن رؤية الجبال التركية بوضوح من شواطئها التي تلوح في الأفق، عن عشرات حالات التهريب المماثلة في اليونان.
ويشرح قائلا: “لفترة طويلة، كان معظم سائقي القوارب الأتراك هم الذين يجلبون الناس إلى هنا”. وبعد أن قام بالدفاع عن أول سائق قارب له في سنة 2010، بدأ رقم المحامي بالانتشار في السجون اليونانية، ووجد نفسه يمثل المزيد والمزيد من الأشخاص. ويضيف: “بعد اعتقال العديد من السائقين الأتراك كمهربين، لاحظنا تغييرا في الاستراتيجية؛ في الوقت الحالي، عادة ما يكون الأشخاص المتهمين بالتهريب لاجئين”.
بموجب القانون اليوناني، لا يمكن للسجناء البقاء في السجن إلا لمدة أقصاها 20 سنة، ويمكنهم التقدم بطلب للمراقبة بعد إكمال ثلاثة أخماس تلك الفترة. وهو ما يعني أنه حتى لو حُكم عليهم بالسجن لأكثر من 100 سنة، فقد لا يقضون سوى 12 سنة منها. مع ذلك، يعتقد تشوليس أن هذه الإدانات لا تدمر المتهمين فحسب، بل أيضا عائلاتهم.
يوضح تشوليس: “في بعض الأحيان، يقبل الناس بقيادة القارب لأنهم لا يملكون المال لدفع ثمن الرحلة. وأحيانا، يجلسون بجوار المحرك، ويقفز المهرب بعد بضع دقائق في البحر. وأحيانا أخرى، تختار الشرطة اليونانية شخصا بشكل عشوائي وتعتقله. لم أعتبر أيا من هؤلاء الأشخاص مهربا، بالمعنى الذي نعطيه لكلمة مهرب، كما هو الحال بالنسبة لمن يتاجر بالبشر”.
وبينما كان يرتشف قهوة مثلجة، كانت تصله رسائل على الهاتف كل بضع دقائق؛ ينجح وكلاؤه في السجن أحيانا في الحصول على هاتف وإرسال رسائل إليه على فيسبوك يطلبون فيها المال أو بيانات الهاتف أو يريدون إرسال رسالة إلى أقاربهم. ومن بين عشرات القضايا التي عمل عليها كمحامي دفاع، تم الإفراج المشروط عن القليل فحسب، ولم تتم تبرئة سوى خمسة أشخاص. حيال ذلك، يقول تشوليس: “نحن ندمر حياتهم تماما، ولا أحد يهتم”.
بينما عاد خير الدين الساحلي إلى زنزانته في اليونان ويواجه احتمال قضاء 12 سنه على الأقل خلف القضبان، كان فؤاد كاكائي البالغ من العمر 31 سنة على الجانب الآخر من القارة في المملكة المتحدة يتمتع بالحرية وحياة جديدة بعد قضاء أكثر من سنتين في السجن بتهمة مماثلة.
مهدت قضية كاكائي الطريق لمزيد من الاستئنافات من قبل العديد من الأشخاص الآخرين الذين أُدينوا ظلما في المملكة المتحدة لكونهم مهربين
في 14 نيسان/ أبريل من هذه السنة، أعلن رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون عن خطة لنقل طالبي اللجوء إلى رواندا لمعالجة طلباتهم هناك بدلا من المملكة المتحدة. وقد ادعى في ذلك الوقت أن هذا الترتيب كان ضروريا لوقف “إساءة مهربي البشر الحقيرين … إلى المستضعفين وتحويل القناة الإنجليزية (بحر المانش) إلى مقبرة مائية”. وما بين بداية هذه السنة و31 تشرين الأول/ أكتوبر، عبر حوالي 40 ألف مهاجر البحر الذي يفصل المملكة المتحدة عن قارة أوروبا على متن قوارب صغيرة، بزيادة حادة من 28 ألف وافد في سنة 2021 مقابل 8 آلاف في سنة 2020. وقد فرض مشروع قانون جونسون الجديد المثير للجدل، الذي أصبح قانونا ساريا في نيسان/ أبريل، قيودا على الحق في طلب اللجوء لمن يدخلون المملكة بشكل غير نظامي، بل وأدخل إمكانية فرض عقوبة السجن مدى الحياة على من يقودون قوارب عبر القناة الإنجليزية.
في هذا المكان، تعتقد جماعات حقوق المهاجرين أن الأشخاص المسجونين لا علاقة لهم بعصابات التهريب الفعلية التي تدير المعابر. ويقول كانيل خليل، المحامي المناوب والمحامي الجنائي المقيم في ستراتفورد وكينت: “من الجلي أن المهربين لا يتواجدون أبدا على متن القوارب التي تعبر القناة، وأن من يتم القبض عليهم هم لاجئون غير محظوظين تلقوا تعليمات للإمساك بدفة القارب”.
شأنه شأن تشوليس في اليونان، كان خليل في طليعة المدافعين عن محاكمات السلطات البريطانية للمهربين المزعومين. وقد عمل طوال فترة الوباء كمحامي دفاع عن فؤاد كاكائي، وهو إيراني يبلغ من العمر 31 سنة اعتقلته قوات الحدود البريطانية ليلة رأس السنة 2020 بعد اعتراض طريقه مع مجموعة من طالبي اللجوء الذين كانوا يعبرون القناة على متن قارب مطاطي.
طالب كاكائي، وهو رجل طويل القامة ذو عينين داكنتين ثاقبتين، باللجوء لأول مرة في الدنمارك لكن طلبه قوبل بالرفض. ثم شق طريقه إلى شمال فرنسا، حيث حاول الوصول إلى المملكة المتحدة ثلاث مرات. في محاولته الأولى، دفع للمهربين لإخفائه في شاحنة، وعندما فشل في ذلك أخبره أحد المهربين أنه سيتمكن من تهريبه الليلة إذا ما قام بتوجيه القارب، وقد قبل كاكائي بذلك ولكن عند وصوله إلى المملكة المتحدة، تم اعتقاله وإعادته إلى الدنمارك. وفي محاولته الثانية، دفع مقابل الاختباء على متن سفينة شحن تغادر ميناء دونكيرك الفرنسي، ولكن عثر عليه أفراد السفينة وحبسوه في مقصورة، إذ يقول “عندما رست السفينة في إنجلترا، دخلت قوة الحدود وأخذت بصماتنا، ثم طلبت من الطاقم أن يعيدنا إلى فرنسا”.
وفي المرة الثالثة، في كانون الأول/ ديسمبر 2019، دفع كاكائي المال مقابل ركوب قارب مطاطي صغير مرة أخرى، ولكن هذه المرة بدون توجيه. وسرعان ما وجد الركاب أنفسهم في محنة وسط البحر، حيث كان الأشخاص الآخرون على متن القارب يتناوبون على التوجيه، ولكنهم لم يعرفوا كيف يفعلون ذلك. وقال كاكائي: “لقد كنا في وضع خطير وكنت أعرف كيف أفعل ذلك بشكل أفضل، لذلك أمسكت بدفة القارب”. وقد وُجهت إليه تهمة تسهيل الدخول غير المشروع للآخرين. وبعد أن أمضى سنة في الحبس الاحتياطي، حُكم عليه في كانون الثاني/ يناير 2021 بالسجن 26 شهرا.
عادة ما يُنصح المتهمون بتهريب البشر بالاعتراف بالذنب على أمل الحصول على عقوبة مخففة. ومع ذلك، أصر كاكائي على أنه ليس مهربا، وأنه لم يكن ليحمل دفة القارب لولا الوضع الحرج الذي كان فيه القارب خلال الرحلة: “لم أفعل شيئا آخر سوى محاولة إنقاذ حياتي وحياة الأشخاص الآخرين الموجودين على متن القارب. أي شخص في مكاني كان سيفعل نفس الشيء”.
نظرا لأن المملكة المتحدة تعمل بموجب القانون العام، حيث يكون القضاة مُلزمين بالنظر في سابقة، أدرك محامو كاكائي أن هذه القضية لديها القدرة على تحدي النظام بأكمله لتجريم سائقي القوارب. وأورد كاكائي: “أخبرني المحامي أنني إذا ما استأنفت حكمي وفزت بالقضية، فإن هذا سيساعد العديد من الأبرياء الآخرين في السجن. وبحلول ذلك الوقت، كنت قد قضيت بالفعل سنة ونصف في السجن. وإذا كان البقاء في السجن بضعة أشهر أخرى سيساعد الآخرين في الحصول على محاكمة عادلة، فلماذا لا أحاول؟”.
في 13 أيار/ مايو 2021، أعيدت محاكمة كاكائي وألغيت إدانته في النهاية. وبعد أكثر من سنة، في حزيران/ يونيو 2022، تم قبول طلب اللجوء الذي قدمه في المملكة المتحدة، لكن الفترة التي قضاها في السجن لا تزال تثقل كاهله. وقال لـ نيو لاينز:” لم أجد شيئا هنا. نعم، أنا بأمان – لكنني استبدلت الأمان بكل ما أملك”.
ما نقوم به في الواقع، كدولة واتحاد أوروبي، هو سرقة أثمن شيء يمتلكه أي شخص ألا وهو الوقت. نحن نسرق الوقت بعيدا عن حياتهم
مهدت قضية كاكائي الطريق لمزيد من الاستئنافات من قبل العديد من الأشخاص الآخرين الذين أُدينوا ظلما في المملكة المتحدة لكونهم مهربين. ومنذ ذلك الحين، أُلغيت إدانات سابقة بحق 11 شخصا، وأُسقطت تهم مماثلة ضد عشرة متهمين آخرين على الأقل. وقد اُضطرت دائرة الادعاء الملكية، وهي هيئة حكومية تحدد المبادئ التي يجب أن يتبعها المدعون العامون في المملكة المتحدة، إلى تعديل بروتوكولاتها لتحديد أنه لا ينبغي مقاضاة طالبي اللجوء الذين لا يوجد دليل على تورطهم في جماعات الجريمة المنظمة لقيادتهم قاربًا. ويصر خليل: “إن كل الفضل يعود إلى كاكائي حقا”.
مع ذلك، فإن النجاحات من هذا النوع هي استثناءات للمعايير الأوسع لحرب أوروبا على تهريب البشر. منذ 17 إلى 21 تشرين الأول/ أكتوبر من هذه السنة، عاد ديميتريس كوليس مرة أخرى إلى جزيرة ساموس. وقد حُكم على الرجل السوري جاسم جاويش الذي أُدين بتهمة قيادة زورق إلى الشواطئ اليونانية بالسجن 55 سنة. وفي هذه المرة، أقر قضاة محكمة الاستئناف بأنه قام بتسهيل دخول مهاجرين آخرين فقط من أجل تقديم طلب اللجوء بنفسه، وخففوا عقوبته إلى ثلاث سنوات مع وقف التنفيذ. وبعد أن أمضى بالفعل أكثر من خمس سنوات في السجن، خرج من قاعة المحكمة حُرًا.
قال تشوليس، مسرورا و متفاجئا برأفة المحكمة: “أدرك القضاة هذه المرة العامل البشري، رغم أنهم يتصرفون في معظم الحالات مثل الآلات الحاسبة، حيث يتم احتساب 10 سنوات لكل شخص يتم نقله”. وأضاف: “نحن بحاجة إلى تغيير التشريع، حتى لا نعتمد فقط على وجود قاضٍ جيد. نحن بحاجة إلى أن نكون قادرين على الاعتماد على القانون، حتى لا ينتهي الأمر بطالبي اللجوء الذين قادوا القارب في السجن”.
بعد عشرة أيام، وتحديدا في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر، استيقظت اليونان مرة أخرى على خبر حطام قاربين في بحر إيجه. وقد تم تأكيد مقتل ما لا يقل عن 26 شخصا، ولا يزال 31 في عداد المفقودين. ومن بين عشرات الناجين، تم القبض على رجلين للاشتباه في أنهما قادا القارب الغارق إلى إيطاليا. من جهته، قال تشوليس: “ما نقوم به في الواقع، كدولة واتحاد أوروبي، هو سرقة أثمن شيء يمتلكه أي شخص ألا وهو الوقت. نحن نسرق الوقت بعيدا عن حياتهم”.
المصدر: نيوزلاينز