ترجمة وتحرير: نون بوست
منذ ربع قرن مضى، وجد طالب دراسات عليا إسرائيلي يدرس آثار النكبة على عدة قرى بالقرب من حيفا نفسه يتحدث مع قدامى المحاربين الإسرائيليين الذين شرحوا بشكل واضح الدور الذين اضطلعوا به في المذبحة.
وفي محاولة للوصول إلى حقيقة ما حدث في طنطورة في آيار/مايو 1948، أجرى طالب الدراسات العليا، تيدي كاتس، مقابلات مع حوالي 135 شخصًا، من الفلسطينيين والإسرائيليين، وجمع 140 ساعة من الشهادات في أطروحته في جامعة حيفا؛ حيث وصفت الأطروحة لاحقًا كيف ذبح لواء الإسكندروني، وهو واحد من عشرات الألوية التي أنشأتها المنظمة الصهيونية شبه العسكرية المعروفة باسم الهاغاناه، ما يصل إلى 250 فلسطينيًا بعد سقوط القرية.
وحدد كاتس من خلال الشهادات الشخصية وروايات شهود العيان أن الجنود الإسرائيليين ألقوا جثث الفتلى الفلسطينيين في مقابر جماعية وقد نُشرت أطروحته سنة 1998، وتلقى مراجعات أكاديمية إيجابية.
وفي كانون الثاني/يناير 2000، وجد صحفي أطروحته ونشر مقتطفات في صحيفة معاريف الإسرائيلية، مما أثار حالة من الإنكار والغضب على نطاق واسع؛ حيث اتُّهم كاتس من قبل من الأشخاص الذين أجرى معهم مقابلات بتحريف قصصهم، ورفعوا دعوى قضائية ضده بتهمة التشهير، ووجد كاتس نفسه يتراجع عن النتائج التي توصل إليها. وبعد أيام؛ أخبر كاتس المحكمة أنه شعر بالضغط لفعل ذلك وأراد الدفاع عن أطروحته، ولكن بعد فوات الأوان؛ حيث تم إغلاق القضية، وألغت الجامعة شهادته وغابت أخباره، وتدهورت صحته، لكنه احتفظ بالأشرطة.
ويعتبر كاتس من أحد الشخصيات المركزية في الفيلم الوثائقي الجديد المدهش بعنوان طنطورة للمخرج الإسرائيلي ألون شوارتز، والذي كان يعمل في البداية على فيلم وثائقي مختلف حول نشطاء حقوق الإنسان من المنظمات غير الحكومية الإسرائيلية المناهضة للاحتلال، لكن عندما التقى كاتس؛ قرر الاستماع إلى الشهادات الشخصية لعمليات القتل والهجمات التي نفذّها أعضاء الميليشيات الصهيونية المسجلة على أشرطة كاتس.
ومن بين المقابلات التي كان يمكن أن يسمعها هي شهادة أحد رجال ميليشيا الإسكندروني الذي شارك في مداهمة طنطورة: “أتذكر بعض هؤلاء الجنود الشباب – ليس من اللطيف أن أقول – لقد وضعوا القرويين الفلسطينيين في براميل وأطلقوا النار على البراميل، أتذكر جيدا الدم في البرميل”. على إثر ذلك؛ قرر شوارتز التركيز على طنطورة بدلاً من ذلك.
“أنا لا أتذكر”
تتبع شوارتز قدامى المحاربين الباقين على قيد الحياة – حتى أواخر الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي – للحديث عن أحداث سنة 1948، التي تسميها “إسرائيل” “حرب الاستقلال”، والتي يصفها الفلسطينيون بالنكبة.
ويطلق رجال الميليشيات السابقون على المجزرة اسم “شائعة” و”خرافة”، فيما يؤكد أحد المحاربين القدامى أنه “لم تكن هناك مذبحة”.
تحدث شوارتز أيضًا مع العديد من النساء اليهوديات اللواتي استولينّ على منازل في طنطورة في حزيران/يونيو 1948، وسألهنّ عن القصص التي تذكرنّ سماعها، ولم ينتج عن ذلك إعادة سرد لأحداث الطنطورة، ولكنه إنجاز هائل واستثنائي من الإنكار والمحو الذي يكمن في قلب هوية “إسرائيل”.
يقول كاتس في الفيلم: “حتى يومنا هذا، فإن الغالبية العظمى مما حدث في سنة 1948 لم يتم إسكاته فحسب، بل طمسه”، ويضيف: “لقد أكد سبعة يهود فحسب حدوث مذبحة في طنطورة. لكن في وقت لاحق، أنكروا جميعا ذلك”.
في أحد المشاهد في فيلم طنطورة؛ يلتقي شوارتز بغافرييل كوفمان، جندي سابق في ميليشيا الإسكندروني، ويعرض تسجيلًا لعنصر ميليشيا سابق آخر يخبر كاتس عن قائد سرية “أطلق النار على عربي تلو الآخر بمسدسه لأنهم لم يتخلوا عن أسلحتهم. أطلق عليهم النار واحدا تلو الآخر باستخدام بارابيلوم”، لكن كوفمان يتدخل لإنكار حدوث مثل هذه العملية، ويقول: “لا أعرف ماذا أقول. لا أتذكر، ربما رأيت، لكنني لا أتذكر، هذا لا يعكس هويتنا. إن إطلاق النار في الرأس باستخدام بارابيلوم، هذا من أفعال النازيين. لا أصدق ذلك”.
كشف الحقيقة
مع استمرار المقابلات؛ يواصل شوارتز التحقيق بلطف مع الإسرائيليين القدامى، دون أن يسخر من الأشخاص محل الدراسة المتقدمين في السن، والذين يتوقف الكثير منهم عن الحديث أو يضحكون بعصبية أو يقولون أشياء متناقضة.
وبعد أن أحس شوارتز أن هؤلاء الإسرائيليين يحاولون تقويض الحقيقة من خلال الإنكار المستمر، أدرك أنه يجلس على لغم أرضي من الأسرار الذي سوف يساهم في نجاح الفيلم.
يبدأ شوارتز في إجراء أبحاثه الخاصة، فاطلع على الخرائط القديمة، وأجرى مقابلات مع المؤرخين الذين دعموا كاتس، مثل إيلان بابي؛ وتحدث مع بعض المنتقدين، مثل أستاذ التاريخ يوآف جيلبر، الذين تمسك بإنكار مذبحة طنطورة؛ وقد اكتشف بعد ذلك أن درورا بيلبل، القاضي الذي ترأس دعوى التشهير ضد كاتس، لم يكلف نفسه عناء الاستماع إلى الأشرطة قبل إغلاق القضية.
لم يعد يعرض المجزرة كاحتمال ممكن، إنها حقيقة تتماشى مع الأوامر المباشرة من دافيد بن غوريون
علاوة على ذلك، استخدم شوارتز صور الأقمار الصناعية لإثبات وجود مقبرة جماعية سابقة في طنطورة، حيث دفن الصهاينة الموتى بعد المذبحة، حسب ادعاءات الفلسطينيين.
في شأن ذي صلة، أوضح أحمد صالح زرعة، وهو فلسطيني الأصل من طنطورة، لكاتس في أحد التسجيلات التي أظهرها شوارتز من جديد: “لقد قتلوا الكثير من الناس. لقد أخرجوهم من منازلهم بملابس النوم. جرّوهم مثل الأبقار أمامهم وقتلوهم”.
أجساد مبعثرة كالقمامة
يتضح، في مرحلة ما، أن شوارتز لم يعد يعرض المجزرة كاحتمال ممكن، إنها حقيقة تتماشى مع الأوامر المباشرة من دافيد بن غوريون، الذي ترأس قوات الهاغاناه شبه العسكرية، بطرد الفلسطينيين من قراهم.
وهناك روايات عن مقاتلين من لواء الإسكندروني أمروا سكان طنطورة بالاصطفاف وقتلوهم بالرصاص، ومنهم من اغتصب مراهقة فلسطينية واحدة على الأقل وقتلوا عمها الذي دافع عنها، ومنهم من أطلق النار عشوائيًا على الفلسطينيين أو قام بمطاردتهم بقاذفات اللهب وإحراقهم. وأخبر أحد المقاتلين السابقين – الذي يتميز يشبه شارب الرئيس السوفييتي السابق ستالين – شوارتز أنه لا يتذكر عدد الفلسطينيين الذين قتلهم: “لم أقم بعدهم، لا أعرف حقًا، فقد كان لدي مدفع رشاش به 250 رصاصة”.
يقول يعقوب هاليلي، وهو مقاتل سابق في لواء الإسكندروني، إن جثثهم “كانت متناثرة كالقمامة على الطرقات وبين المنازل”.
وفي مقابلة مع ميدل إيست آي في مدينة نيويورك، قال شوارتز إن معظم الإسرائيليين في الحقيقة لم يكونوا على دراية بتفاصيل قيام الدولة في عام 1948، وأضاف أن “معظم الإسرائيليين لا يعرفون ما حدث في عام 1948، حيث يصدق معظمهم هذه القصة الساذجة التي تفيد بأن الفلسطينيين هربوا عام 1948 من تلقاء أنفسهم.. لأن قادتهم طلبوا منهم ذلك”.
وقال شوارتز: “إنهم لا يعرفون أن الجيش الإسرائيلي [الميليشيات الصهيونية] دخل القرى الواحدة تلو الأخرى وطرد الناس منها، وارتكبوا أحيانًا جرائم حرب، مثل مذبحة طنطورة، التي لم يتم تدريسها في المدرسة.”
حق العودة
يعتبر فيلم “طنطورة” لشوارتز إنجازًا بالغ الأهمية يتطلع إلى سد هذه الفجوة، إذ أن مشاهدة نفس المليشيا الصهيونية، التي ساعدت في بناء “إسرائيل” من خلال أعمال التطهير العرقي، في صراع مع تنافر ولائهم للدولة الصهيونية الحبيبة، يخلق فيلما وثائقيًّا من ذهب. ولكن مع وصول الفيلم إلى ذروته، حيث يتضح أن الطنطورة كانت جزءًا من عمليّة المحو الأكبر للنكبة، فقد الفيلم زخمه.
بعد إثبات واقع أن “إسرائيل” بُنيت على مجموعة من أساطير التأسيس التي تضمنت القتل الجماعي وطرد الفلسطينيين، ومن ثم محو هذه الجرائم، يقترح شوارتز أن حل هذا اللغز يتطلب من “إسرائيل” مناقشة تاريخها بشكل علني بطريقة أكثر ملاءمة لدولة ديمقراطية، على غرار الدول الاستيطانية الأخرى، مثل الولايات المتحدة أو أستراليا. كذلك؛ يسأل شوارتز بعض الإسرائيليين الذين أجرى معهم مقابلة عما إذا كانوا يعتقدون أن الوقت قد حان لإنشاء نصب تذكاري في طنطورة.
في المقابل، لا يريد الفلسطينيون الذين طردوا من قراهم في فلسطين أي نصب تذكاري، ولا يهتمون ما إذا بدأ الإسرائيليون بإقامة حفلات العشاء أو المؤتمرات الأكاديمية مع الاعتراف بأرض فلسطين.
لا يساهم الفيلم في تحرير أو إثبات الألم الذي عاشوه، فقد جاء الفيلم متأخّرا بـ 74 سنة
سألتُ شوارتز: “ما يريده الفلسطينيون هو العودة إلى ديارهم. فلماذا لا تقترح أن لهم الحق في العودة إلى أرضهم؟”، فأجاب قائلًا: “من السذاجة للغاية الاعتقاد بأن الإسرائيليين سوف يتخلون عن هذا الأمر، لأنهم لن يفعلوا ذلك، لا خلال الخمسين ولا المائة عام القادمة. يحتاج الإسرائيليون واليهود إلى منطقتهم الصغيرة في العالم ليكونوا آمنين. ولن نتنازل هذا الأمر، ولن يحدث ذلك”.
وأضاف شوارتز: “سنموت وسنقتل الجميع قبل حدوث ذلك.. فهذا هو الحمض النووي لإسرائيل. وأنا أعرف هذا الحمض النووي لأنني جزء منه. لذلك من الجيد أن تسألني “لماذا لا أريد عودة الفلسطينيين؟”، نحن لا نريدهم لأن عودتهم تهدد حياتنا من منظورنا”.
تأخر لسبعة عقود
هنا تكمن مأساة الفيلم؛ ففي حين كان من الممكن استخدام “طنطورة” كبوابة لمناقشة العدالة والإنصاف، يتشبّث شوارتز بإيمانه الراسخ بالصهيونية باعتبارها جيدة في الأساس وضرورية لليهود. وقال في هذا الشأن: “بالنسبة للإسرائيليين، تمثّل الصهيونية الأساس. وهي ما حوَّلنا من أمة كانت تحبس في القطارات وغرف الغاز إلى أمة يمكنها العيش بأمان في مكان خاص بها في العالم. وبالنسبة للفلسطينيين، الصهيونية كلمة مروعة، وتقود الشعب الذي طردهم من منازلهم”. والفيلم يعاني نتيجة لذلك.
يجد المخرج الذي فضح بشق الأنفس كيف قام المجتمع الإسرائيلي، بدعم كامل من الأكاديمية الإسرائيلية والحكومة والقوات المسلحة، بمحو تاريخ السكان الأصليين بشكل منهجي وخلق أسطورة “إسرائيل” القوية، أنه غير قادر على تخليص نفسه من هذه القصّة، وفي ذلك شهادة على قوة الأسطورة نفسها.
أظن أن الأمر لا يتعلّق بقلة المحاولة، بل بأن شوارتز ضد الاحتلال ويعتبر “إسرائيل” دولة فصل عنصري، لكن “طنطورة” تمثّل ملحمة عن الإنكار المستمر للنكبة بقدر ما هي حول رفض تحقيق العدالة. بالنسبة للفلسطينيين؛ يعزز كل ما كشف عنه فيلم “طنطورة” ما قالوه طوال الوقت عن النكبة، وطنطورة ليست سوى واحدة من بين مئات القرى التي طرد منها أكثر من 700000 فلسطيني.
في النهاية؛ على الرغم من أهميته البالغة، لا يساهم الفيلم في تحرير أو إثبات الألم الذي عاشوه، فقد جاء الفيلم متأخّرا بـ 74 سنة.
المصدر: ميدل إيست آي