ترجمة وتحرير: نون بوست
بدأ حزب العدالة والتنمية، الذي فاز بجميع الانتخابات التي دخلها منذ عام 2002، عمله للانتخابات العامة الجديدة المقرر إجراؤها في عام 2023 قبل جميع الأحزاب الأخرى؛ حيث إن مشروع قرن تركيا، الذي تم الإعلان عنه للشعب بحفل جماهيري رائع، هو في الواقع أبعد من مجرد حملة انتخابية عادية. مع هذا المشروع، تهدف رؤية القرن الثاني للجمهورية، والتي ستبدأ في عام 2023.
لم يكن أحد يتوقع أن فترة طويلة من الحكم قد بدأت، عندما فاز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات العامة التي أجريت في 3 تشرين الثاني/نوفمبر سنة 2002، حيث كانت أول وأطول تجربة حكومية في حياة التعددية الحزبية، والتي بدأت في عام 1946، هي فترة عشر سنوات للحزب الديمقراطي.
وفي فترة العشرين عامًا بين انقلابات عام 1960 وعام 1980، التقت تركيا بتحالفات قصيرة المدى، وبعد انقلاب 12 أيلول/سبتمبر والانتقال إلى الديمقراطية مرة أخرى في عام 1983، استمرت فترة حكم حزب الوطن الأم لمدة ثماني سنوات، ثم جلبت فترة الانتخابات من عام 1991 إلى عام 2002 حكومات قصيرة الأمد وبالتالي نظام سياسي غير مستقر، لدرجة أنه من عام 1990 إلى عام 2002، خدمت 11 حكومة مختلفة برئاسة ستة رؤساء وزراء مختلفين.
وفي نفس الفترة، أدى المظهر غير المستقر للسياسة إلى إغراق البلاد في حالة من الفوضى. فخلال التسعينيات؛ أصبحت جرائم القتل والإرهاب والأزمات الاقتصادية وعدم الاستقرار التي لم يتم حلها هي القاعدة في البلاد. وأسفرت عملية 28 شباط/فبراير، التي بدأت عام 1997، عن اتساع المسافة بين الدولة والمجتمع؛ حيث كان السياسيون في قاع مؤشرات الثقة الاجتماعية، وكانت الأوليغارشية البيروقراطية تضع نفسها بشكل متزايد في قلب النظام، وربما كانت المؤسسة السياسية في أعمق أزمة سمعة وشرعية في تاريخ البلاد. باختصار؛ كان الانخراط المستمر للأيدي غير السياسية (العسكرية)، وإنشاء التحالفات أو تفككها، ومزاعم الفساد وإضفاء الطابع المؤسسي على الوصاية هي السمات التي ميزت هذه الفترة.
يمكن القول أيضًا أن هذه الصورة للحياة السياسية الحديثة أنتجت العديد من علامات الاستفهام للمستقبل. فبعد انتخابات عام 2002؛ تبين أنه من غير الواضح إلى أي مدى سيحل هذا الحزب – والذي لم يكن قد مر عام واحد فقط على إنشائه – المشاكل المزمنة. علاوة على ذلك؛ أدت العلاقة الإشكالية بين التقليد السياسي الذي ظهر منه حزب العدالة والتنمية والنظام القائم إلى حالة من عدم اليقين فيما يتعلق بمدة السلطة؛ حيث كان من السهل فهم أن مستقبل حزب العدالة والتنمية، الذي جاء من خطٍ كانت أحزابه السابقة مغلقة، سيحدد بعلاقاته مع مراكز الوصاية بقدر نجاحه السياسي.
من الترميم إلى البناء
مرت الفترة الأولى لحكومة حزب العدالة والتنمية بسلسلة من جهود الترميم؛ كان أولها اتباع سياسات نقديّة وماليّة صارمة من أجل ضبط الاقتصاد الغارق في الأزمات، وبُذلت جهود لسداد الديون المستحقة لصندوق النقد الدولي في أقرب وقت ممكن، من أجل اتباع سياسات اقتصادية أكثر استقلالية، وأيضًا استمرت وتوسعت برامج الإصلاح التي بدأتها الحكومات السابقة بما يتماشى مع أهداف العضوية في الاتحاد الأوروبي.
ويمكن القول إنه في هذه الفترة تم اتخاذ خطوات حاسمة ولكن معتدلة في نفس الوقت من أجل التحوّل الديمقراطي وتوسيع الحريات السياسية، وأدى تنفيذ السياسات الصحيحة إلى توسيع القاعدة الاجتماعية لحزب العدالة والتنمية تدريجيًّا. وعندما يتعلق الأمر بانتخابات 2007، فإن فوز حزب العدالة والتنمية بنصف أصوات الناخبين والحفاظ على نفس النسبة في كل انتخابات تقريبًا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحقيقة أنه وضع أهدافًا ملموسة وقابلة للتطبيق، منذ تسلّمه السلطة، وطبّقها. بطريقة ما، كانت حقائق البلد والعالم حاسمة بالنسبة لسياسات حزب العدالة والتنمية.
ربما يمكن النظر إلى الإنجاز الأكبر لحزب العدالة والتنمية خلال فترة حكمه الأولى على أنه زيادة ثقة الشعب في المؤسسة السياسية. لأن السياسيين؛ قبل وبعد فترات الانقلاب في تركيا، فقدوا مصداقيتهم ودمروا ثقة الشعب في السياسة الديمقراطية. من ناحية أخرى؛ استخدم رجب طيب أردوغان، بصفته رئيس حزب العدالة والتنمية، لغةً منذ اليوم الأول مفادها أنه سيقاتل مراكز الوصاية ويجعل الإرادة الوطنية هي السائدة.
علاوة على ذلك؛ لم تكن هذه التصريحات مجرد خطاب سياسي بل انعكست وطبِّقت على الأرض الواقع. ففي نهاية فترة الحكم الأولى؛ كما رأينا في حادثة المذكرة الإلكترونية في 27 نيسان/أبريل عام 2007، لم تتراجع التوترات مع مؤسسات الوصاية. وفي نفس الفترة؛ أقنع أردوغان المجتمع بمحاربة مؤسسات الوصاية حتى يمكن إضفاء الطابع المؤسسي على الديمقراطية. وبذلك عزز حزب العدالة والتنمية أصواته ليغطي نحو نصف الناخبين، وفاز بجميع الانتخابات التي دخلها، وحصل على النتيجة المرجوة في استفتاءات التعديل الدستوري.
قرن تركيا المثالي
بدأ حزب العدالة والتنمية؛ الذي فاز بجميع الانتخابات التي دخلها منذ عام 2002، عمله للانتخابات العامة الجديدة المقرر إجراؤها في عام 2023 قبل جميع الأحزاب الأخرى. إن مشروع قرن تركيا، الذي تم الإعلان عنه للشعب بحفل جماهيري رائع، هو في الواقع أبعد من مجرد حملة انتخابية عادية. من خلال هذا المشروع، يهدف إلى الكشف عن رؤية الجمهوريّة التركيّة للقرن الثاني، والذي سيبدأ في عام 2023.
لقد مرت القرون الثلاثة الماضية مع جهود الدولة للوقوف في وجه الهجمات والتدخلات الخارجيّة، كما حالت المشاكل الملموسة التي واجهتها الدولة دون وضع خطط دائمة للمستقبل. نفس الوضع جعل مظهر البلاد مفتوحًا للتأثيرات الأجنبية؛ حيث كان على تركيا أن تتصرف من خلال النظر في بعض العوامل والتوازنات الخارجية في جميع عمليات صنع القرار. ولكن يُرى الآن أن تركيا قد غيرت مقصها، ويبدو أن مشروع التغيير، الذي استمر بلا انقطاع طيلة عشرين عاما، قد دخل الآن في اتجاه جديد؛ حيث إن وضع رؤية للمستقبل أمام المجتمع، وفهم أنه ليس بالأمر الصعب على الإطلاق، مهم من حيث نقل تجارب الماضي إلى المستقبل.
إن أساس مشروع القرن التركي هو فهم تركيا كونها من بين الدول الأكثر تقدمًا في القرن الثاني للجمهورية؛ حيث لا يوجد سبب يمنع تركيا، التي لا تزال عضوًا في مجموعة العشرين، من الارتقاء إلى مستوى مجموعة الثماني في السنوات المقبلة، والنقطة المهمة هنا هي أن تركيا تحدد القطاعات التي يمكنها أن تفوز فيها وتستثمر في هذا المجال.
أحد الأمثلة الأكثر وضوحًا على هذا الوضع؛ هو النجاح الذي تحقق في صناعة الطائرات بدون طيّار، والتي نالت استحسانًا كبيرًا في الصحافة الأجنبية؛ حيث لم تمنح تركيا ميزة جدية في مجال الأمن فحسب، بل أصبحت أيضًا واحدة من أهم العناصر التصديرية للبلاد في وقت قصير. كما تُظهر المسافة المقطوعة في مجال السيارات المحلية في وقت قصير أن تركيا هي واحدة من الدول الأكثر استفادة من التطورات التكنولوجية من أجل تنمية اقتصادها في القرن المقبل.
في الماضي؛ كانت لتركيا علاقات محدودة مع العديد من الدول التي كانت تربطها بها علاقات تاريخية مع التأثيرات الأجنبية. وخلال فترة حزب العدالة والتنمية، تم التأكد من تطوير علاقات تركيا مع مختلف البلدان
تتمتع تركيا بإمكانيات مهمة للغاية بفضل تقاليدها الحكومية وخبرتها التاريخية وروابطها السابقة وسكانها الديناميكيين؛ حيث ارتبط تراجع وانهيار الإمبراطورية العثمانية، إحدى أعظم الإمبراطوريات في التاريخ، ارتباطًا وثيقًا بعدم قدرتها على متابعة العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي جلبتها الثورة الصناعية. مع القرن الحادي والعشرين؛ بدأ عهد جديد في العلاقات الصناعية، فهذه الفترة – التي توصف بالثورة الصناعية الرابعة – تقوم على فهم تغيير أساليب الإنتاج التقليدية من خلال الاستخدام المكثف للتكنولوجيا الرقمية. ولا شك أن الدول المتقدمة تتمتع بميزة طبيعية في التكيّف مع هذه الفترة الجديدة.
ومع ذلك؛ فإن طبيعة التكنولوجيا الجديدة تسمح للبلدان التي طورت كفاءاتها في مجالات معينة بالتكيّف مع الفترة في وقت قصير وبسهولة مقارنة بالنماذج الصناعية التقليدية؛ حيث قامت تركيا باستثمارات كبيرة في مجالات مثل الطائرات دون طيّار المسلحة وغير المسلحة، والطائرات وتقنيات الأقمار الصناعية، وقطاع الصحة وإنتاج السيارات الكهربائية محليًا. وكما يمكن فهمه من هنا؛ فقد تم بالفعل إعداد البنية التحتية لمشروع قرن تركيا لفترة طويلة. بطريقة ما، تعكس هذه الفترة المثالية لرحلة ”تحقيق الحلم إلى حقيقة”.
من ناحية أخرى؛ من الضروري أن نفهم أن رؤية قرن تركيا لا تقوم فقط على الاقتصاد، فقد بذل حزب العدالة والتنمية، منذ الفترة الأولى لسلطته، جهودًا لإعادة تأهيل العلاقة بين الدولة والمجتمع. بدايةً؛ تم بذل جهد هام لإعادة ثقة الشعب في المؤسسة السياسية؛ حيث تم تنفيذ عمليات متعددة الأبعاد والأشكال مثل مكافحة الإرهاب، وكذلك تصفية مؤسسات الوصاية، بدعم من المجتمع.
ويبدو أن المجتمع قد تبنى فكرة أن تركيا سيكون لها مستقبل أفضل بكثير من اليوم، بما يتماشى مع المنظور الذي طرحته الحكومة. كما أن الإنجازات في مختلف المجالات تزيد من ثقة المجتمع بالنفس وإيمانه بالمؤسسة السياسية. والعنصر الأكثر أهمية في هذه الفترة هو تطوير أسلوب سياسي يغطي جميع الشرائح الاجتماعية. وفي واقع الأمر؛ من المعروف أن نقاشات الاستقطاب في تركيا قد ازدادت في السنوات الأخيرة، وفي هذا الصدد؛ كان من المهم جدًا أن يستخدم الرئيس أردوغان لغة تشمل جميع الشرائح الاجتماعية في الاجتماع التعريفي لقرن تركيا.
البعد الآخر للقرن التركي يتعلق بالدبلوماسية. ففي الماضي؛ كانت لتركيا علاقات محدودة مع العديد من الدول التي كانت تربطها بها علاقات تاريخية مع التأثيرات الأجنبية. وخلال فترة حزب العدالة والتنمية، تم التأكد من تطوير علاقات تركيا مع مختلف البلدان، وخاصة القريبة من جغرافيتها، وأخذت زمام المبادرة في مواجهة المشاكل الإقليمية والعالمية.
وفي السنوات العشرين الماضية، لم تراقب تركيا التطورات في العالم ومنطقتها فحسب، بل عملت أيضًا على تشكيلها بما يتماشى مع المثل الإنسانية. وبهذه الطريقة؛ ظهر أيضًا على المستوى الدولي مثال على الثقة بالنفس التي ظهرت في مجال السياسة الداخلية، وأصبحت تركيا جهة فاعلة يتم الاستماع إليها أكثر فأكثر كل يوم، ليس فقط في جغرافيتها الخاصة، ولكن أيضًا في جميع أنحاء العالم. إن حقيقة أن تركيا أصبحت جهة فاعلة يتم الاستماع إليها أكثر فأكثر – كما تجلى في الحرب الروسية الأوكرانية الأخيرة – تُظهر أن حجمها وتأثيرها الدولي يتزايد يومًا بعد يوم، وتأثيرها ليس فقط على المستوى الدول بل على المستوى الشعوب أيضًا، فأصبح يُرى الآن أردوغان كزعيم مشترك في عيون الشعوب في جميع أنحاء العالم.
التفاح الأحمر (الحلم) المثالي
لمدة عشرين عامًا؛ اتبع حزب العدالة والتنمية سياسة نفذت التنمية الاقتصادية بالتزامن مع تعزيز السياسة الديمقراطية. وحقيقة أنه حقق أغلبية تمكنه من الوصول إلى السلطة بمفرده في جميع الانتخابات العامة الخمس التي شارك فيها منذ عام 2002، تظهر أن السياسات المتبعة لها قبول في المجتمع.
علاوة على ذلك، وبمناسبة هذا المشروع؛ اكتسب حزب العدالة والتنمية ميزة نفسية على المعارضة؛ حيث إن هذا المشروع الذي تم الإعلان عنه في مرحلة مبكرة قدم رؤية لا يمكن لأحد أن يعترض عليها، وضيق مجال عمل المعارضة. وبطريقة ما؛ ظهر تأثير مفهوم “المحلي والوطني” الذي استخدمه أردوغان أيضًا من قبل، وحتى هذا الموقف له معنى من حيث إظهار القبول الاجتماعي لمشروع القرن التركي. فمن خلال هذا المشروع؛ لوحظ أن حزب العدالة والتنمية اكتسب زخمًا شعبيًا، وأن مرشح المعارضة للرئاسة الذي لا يزال غير معلن عنه، يجعل موقف حزب العدالة والتنمية أقوى في هذه الفترة. فخلال فترة حكمه بأكملها؛ قام أردوغان وحزب العدالة والتنمية بتوجيه أجندة البلاد، بل إنه شكل موقف المعارضة؛ حيث يُظهر مشروع قرن تركيا مرحلة السياسات المتبعة على مدى عشرين عامًا، وتتجلى قوة المشروع في حقيقة أنه لا يمكن لأحد أن يجادل في نطاقه ومنظوره.
الاستخدام الصحيح للإمكانيات الحالية للبلاد سيمكن تركيا من الصعود بسرعة في عصبة الدول في القرن الثاني للجمهورية
إن قرن تركيا هو مشروع يتصور مستقبلًا أفضل لكل من يعيش على هذه الأرض، وكما أكد أردوغان في خطابه، فهو تفاحة حمراء (حلم) جديدة. إن الاستخدام الصحيح للإمكانيات الحالية للبلاد سيمكن تركيا من الصعود بسرعة في عصبة الدول في القرن الثاني للجمهورية، والحماس الذي يشعر به المجتمع منذ اليوم الأول هو أهم عامل يزيد من نجاح المشروع. أخيرًا؛ يجب التأكيد على أن مثل هذا المشروع لا يأتي من المعارضة، بل من حزب أكمل عامه العشرين في السلطة، وهو أمر جدير بالملاحظة أيضًا، فبينما يواجه الحزب الحاكم الناخبين بمثل هذا المشروع الشامل، فإن حقيقة أن حلف الطاولة السداسية المعارض يواجه عددًا من المشاكل، بما في ذلك قضية المرشح، له مغزى أيضًا من حيث إظهار حالة المعارضة المشتتة.
المصدر: مجلة كريتر