سارع نظام الرئيس قيس سعيّد في الأشهر الأخيرة إلى تطبيق شروط صندوق النقد الدولي، رغم قسوتها وأثرها السلبي على المواطن التونسي، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار العديد من المواد على رأسها المواد الطاقية والأساسية، وتراجع المقدرة الشرائية لعموم التونسيين، وتنامى الاحتقان الاجتماعي في البلاد.
سارع سعيّد إلى ذلك ولسان حاله يقول ما هي إلا أسابيع قليلة وأتحصّل على “القرض الموعود” من الصندوق، الذي سيفتح له أبواب الدعم المالي الخارجي، لكن يبدو أن صندوق النقد الدولي والصناديق المالية العالمية عمومًا لها رأي آخر.
تأجيل أو رفض للملف التونسي؟
كان من المنتظر أن يُنظر في القرض الذي تقدّمت به تونس للحصول على تمويل قدره 1.9 مليار دولار، يوم 19 ديسمبر/ كانون الأول، لإعلان القرار النهائي بهذا الخصوص، لكن لصفة مفاجئة تمَّ إرجاء الأمر من قبل صندوق النقد الدولي. بقرار أحادي، حيّن المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي، أول أمس الأربعاء، رزنامة اجتماعاته لدراسة ملفات الدول التي تسعى للحصول على قروض من الصندوق للأيام السبعة المقبلة، المنشور على موقعه الإلكتروني، والذي لم يدرَج ملف تونس ضمنه.
يعني هذا أن ملف تونس لم يعد مدرجًا في جدول أعمال صندوق النقد الدولي لنهاية هذا الأسبوع، وليست هناك أي معلومات رسمية عن الموعد القادم الذي سيتم تحديده للنظر في الملف التونسي، وهو ما شكّل “مفاجأة” كبرى لنظام سعيّد.
سبق أن توصّلت تونس إلى اتفاق على مستوى الخبراء مع صندوق النقد حول برنامج مدّته 48 شهرًا، في إطار “تسهيل الصندوق الممدد” بقيمة تبلغ حوالي 1.9 مليار دولار أمريكي لدعم السياسات الاقتصادية في تونس.
صندوق النقد لا يريد التورُّط في منح قروض لا تحظى بقبول الطرف الاجتماعي في تونس، والمتمثل في المركزية النقابية.
جاء هذا الاتفاق مقابل “إصلاحات” اقتصادية مرفوضة من قبل غالبية الشعب، إذ يشترط صندوق النقد تسريح آلاف الموظفين عبر التشجيع على التقاعد المبكّر وبرامج التسريح الطوعي، للتحكم في نسبة الأجور التي وصلت إلى 14.4% من الناتج المحلي الإجمالي، فضلًا عن تخفيض الإنفاق العام وترشيد النفقات.
كما يشترط الصندوق إلغاء منظومة الدعم الموجَّه للفئات الفقيرة، وبيع عدد من المؤسسات العمومية للخواص على غرار شركة نقل تونس والخطوط التونسية، وشركة الكهرباء والغاز وتوزيع المياه، وشركة التبغ والوقيد، وبعد أن ظلَّ سعيّد يردِّد على مسامع التونسيين أن تونس غنيّة ولا حاجة إلى الاستعانة بالخارج لإصلاح اقتصاد بلادهم المتعثر، استجاب أخيرًا لشروط الصناديق المالية العالمية، رغم أن جميع الحكومات السابقة لم تطبّق هذه الشروط نظرًا إلى كلفتها الكبيرة على الشعب التونسي.
مع ذلك، لم يرَ صندوق النقد الدولي بعد أن نظام قيس سعيّد “يستحقّ” هذا القرض، فالشروط لم تنفَّذ جميعها، وما إرجاء النظر في القرض إلا وسيلة جديدة للضغط على النظام التونسي لتقديم مزيد التنازلات التي سيكون وقعها كبير على الشعب التونسي.
دوافع الإرجاء
لم يأتِ قرار صندوق النقد الدولي محض الصدفة، فلا مكان للصدفة عند هذه الصناديق، بل كل شيء مرتّب ومنظَّم بطريقة مسبقة، ما يعني أن هناك أسبابًا وجيهة لهذا القرار، وأن السلطات التونسية كانت على علم به لكنها خيّرت الصمت كعادتها.
أبرز الأسباب التي دفعت صندوق النقد إلى اتخاذ هذا القرار، هو تواصل الاحتقان السياسي في البلاد، فغياب التوافق والمشهد السياسي المتردي الذي تسبّب فيهما سعّيد منذ انقلابه على مؤسسات الدولة ودستور البلاد في يوليو/ تموز 2021، يمثلان سببًا وجيهًا لعدم منح النظام أي قرض في الوقت الحالي، حتى لا يُتّهم الصندوق بدعم الأنظمة الديكتاتورية.
حتى الانتخابات التشريعية المقررة غدًا السبت ينظَر إليها بعين الريبة، وهو ما يفسّر مقاطعة البرلمان الأوروبي لها، فهذه الانتخابات لا تتّسم بالشفافية والمصداقية، وتقصي الأحزاب وتشرف عليها هيئة انتخابات عيّنها الرئيس بمفرده.
في اخر تحيين لجدول اعمال مجلس ادارة صندوق النقد الدولي
تم سحب تونس من القائمة بعد ان كانت مدرجة يوم 19 ديسمبر 2022 للحسم في الاتفاق النهائي حول تمويل بقيمة 1.9 مليار دولار pic.twitter.com/ozeKijp2AO
— الراصد التونسي?? (@rsd_tunisian) December 14, 2022
إلى جانب ذلك، لم يتجاوز صندوق النقد بعد تصريحات سعيّد التي يتهجّم فيها على المؤسسات المالية ومنها وكالات التصنيف السيادي، ذلك أن الصندوق غير مطمئنّ للتوجهات الشعبوية لسعيّد، والتي ظهرت جلية منذ وصوله سدّة الحكم نهاية عام 2019. فضلًا عن الأسباب السياسية هناك أسباب اقتصادية وراء هذا التأجيل، فللآن لم تصدر حكومة نجلاء بودن قانون المالية لعام 2023، ما يعتبره صندوق النقد بمثابة إقرار رسمي تونسي بعدم القدرة على مواصلة “الإصلاحات” خوفًا من الاحتجاجات.
كما أن عدم التوافق بين الرئيس وحكومته منح صندوق النقد ذريعة أخرى لعدم صرف القرض، فدائمًا ما يدلي سعيّد بتصريحات مضادة لما تصرّح به حكومة نجلاء بودن وتقترحه كإصلاحات، ما يعني وجود اختلافات كبيرة بين القصبة وقرطاج.
ليس هذا فحسب، فتبرُّؤ الاتحاد العام التونسي للشغل من الاتفاق كان له الوقع الكبير على قرار صندوق النقد الدولي، فالصندوق لا يريد التورُّط في منح قروض لا تحظى بقبول الطرف الاجتماعي في تونس والمتمثل في المركزية النقابية.
قرار الصندوق الهدف منه الضغط على حكومة سعيّد لمزيد القيام بإصلاحات أخرى، ما من شأنه أن يزيد من متاعب الاقتصاد التونسي.
مطلع هذا الأسبوع قال اتحاد الشغل إنه “غير ملزم باتّفاقات لم يشارك فيها لا من بعيد ولا من قريب، فضلًا عن كونها تزيد من معاناة الشعب وتضرّ بمصالح تونس”، محمّلًا رئيس الدولة والحكومة “ما قد ينجرّ عن سياسة التعنُّت والانسداد”، ونفى الاتحاد اطّلاعه على فحوى ما أبرمته حكومة نجلاء بودن مع صندوق النقد الدولي من اتفاقات.
تواصُل الاحتقان السياسي وعدم سنّ قانون للمالية لعام 2023 وغياب التوافق بين الحكومة والرئيس سعيّد، كلها أسباب جعلت صندوق النقد يخشى من عدم قدرة النظام التونسي على القيام بـ”الإصلاحات” المطلوبة منه رغم أنه قدّم شوطًا كبيرًا فيها.
تأزُّم الاقتصاد التونسي
صحيح أن تحصيل مبلغ 1.9 مليار دولار من صندوق النقد الدولي لا يكفي لسدّ العجز الحاصل في الموازنة العامة، وهو تمويل ضئيل، لكن نظام سعيّد كان يعوّل عليه كثيرًا وبنى ميزانية الدولة لعام 2023 بناءً على الحصول على هذا القرض.
إلغاء هذا الاتفاق أو تأجيله سيضع نظام سعيّد في مأزق، وسيزيد من متاعب الاقتصاد المتأزّم، خاصة في ظل تواصل تأثيرات جائحة كورونا وتأثيرات الحرب الروسية في أوكرانيا المتواصلة منذ فبراير/ شباط الماضي.
كان نظام سعيّد يأمل أن يفتح له هذا التمويل الأبواب للحصول على تمويلات أخرى، لكن قرار صندوق النقد يُظهر انعدام ثقة المؤسسات المالية الدولية في تونس وحكومتها، ما سيجعل حصول تونس على قروض ومِنَح جديدة شبه مستحيل في الوقت الحال.
قرار الصندوق الهدف منه الضغط على حكومة سعيّد لمزيد القيام بإصلاحات أخرى، ما من شأنه أن يزيد من متاعب الاقتصاد التونسي الذي يعاني صعوبات كبرى، ويظهر ذلك في العجز التجاري الذي قفز إلى 7.34 مليارات دولار خلال الأشهر الـ 11 الأولى من عام 2022، مقابل 4.6 مليارات دولار خلال الفترة نفسها من العام الماضي، وارتفاع الديون العمومية إلى نحو 33 مليار دولار.
كما تعاني تونس من موجة غلاء وارتفاع في الأسعار، ما أدّى إلى ارتفاع معدل التضخم السنوي، الذي وصل إلى 9.8% في نوفمبر/تشرين الثاني، وهو مستوى قياسي، مقابل 9.2% في أكتوبر/ تشرين الأول، وسط توقعات برفع البنك المركزي أسعار الفائدة الرئيسية مرة أخرى.
رغم كل هذه الصعوبات والأزمات التي تمرّ بها البلاد، ما زال سعيّد مصرًّا على مواصلة نهجه الأحادي في سبيل تنزيل برنامج حكمه على أرض الواقع، ما من شأنه أن يزيد من حدّة الاحتقان الاجتماعي في مهد الثورات العربية.