مستغلًّا الظروف ذاتها التي مهّدت الطريق أمام أردوغان لزعامة تركيا طول العقدَين الماضيَين، وذلك بعدما قضت محكمة تركية بحبسه ومنعه من ممارسة العمل السياسي قبل نحو 25 عامًا، ها هو الآن رئيس بلدية إسطنبول المعارض، أكرم إمام أوغلو، يجمع مؤيديه في الميدان ذاته الذي شهد ولادة أسطورة أردوغان السياسية عندما كان رئيسًا للبلدية نفسها في أواخر التسعينيات، معلنًا أن قرار المحكمة سياسي بحت هدفه الوحيد سلب إرادة الشعب التي جعلته رئيسًا للبلدية قبل 4 سنوات.
وخلافًا للتوقعات، قضت محكمة الأناضول الابتدائية السابعة في إسطنبول، الأربعاء الماضي، بسجن عمدة بلدية المدينة إمام أوغلو بالسجن لمدة عامَين و7 أشهر و15 يومًا والمنع من العمل السياسي، جرّاء إدانته بإهانة أعضاء اللجنة العليا للانتخابات التركية (YSK) بعد انتقاده لقرارها بإعادة الانتخابات التي حُسمت مرتَين على التوالي لصالح تحالف الشعب المعارض عام 2019، ووصفه مسؤولي الانتخابات بأنهم “حمقى”.
وتزامنًا مع صدور الحكم، الذي يعتبَر غير نافذ حتى تصديقه في محكمة الاستئناف والمحكمة العليا، تصاعد الجدل والتحشيد السياسي إلى مستويات جديدة، معلنًا بذلك بدء السباق الرئاسي بشكل فعلي بين تحالف أردوغان وتحالف المعارضة السداسي، الذي بدأ قادة أحزابه في عقد الاجتماعات والمهرجانات الانتخابية حتى قبل إعلانهم عن مرشح التحالف، وهو الأمر الذي دفع المحللين والمراقبين للحديث عن مؤامرات سياسية وحبك سيناريوهات يلعب فيها إمام أوغلو دور المرشح الضحية.
رغم أن إمام أوغلو أكّد خلال محاكمته على أن المقصود في جملته هو صويلو وليس أعضاء لجنة الانتخابات، إلا أن المدّعي العام قدّم مرة أخرى إلى المحكمة طلبًا لإصدار حكم بالسجن
وهو الدور الذي طالما جلب الفوز للاعبيه على مسرح السياسة التركية، كون الأتراك ينحازون تلقائيًّا لنصرة السياسي الذي يعتقدون أنه تعرض للظلم والإقصاء، كما حدث مع أردوغان، الذي سُجن بسبب قراءة الشعر، إلى أعلى المناصب في البلاد، وكذلك فعلوا مع إمام أوغلو في جولة الإعادة التي اكتسح فيها مرشح العدالة والتنمية الحاكم بفارق غير متوقع.
أصل الحكاية
في نهاية مارس/ آذار 2019 فاز مرشح حزب الشعب الجمهوري، أكرم إمام أوغلو (52 عامًا)، بمنصب رئاسة بلدية إسطنبول، التي قادها حزب العدالة والتنمية الحاكم بلا انقطاع طوال ربع قرن، لكن الضغط السياسي من قبل الحكومة وحليفها القومي حينها أجبر لجنة الانتخابات العليا، وبشكل غير مسبوق، على إلغاء الفوز الذي عاد وفاز فيه إمام أوغلو فوزًا ساحقًا، بعد أن رفع الفارق بينه وبين مرشح حزب العدالة والتنمية من 13 ألف صوت فقط إلى أكثر من 860 ألفًا، في الانتخابات التي أُجريت في يونيو/ حزيران 2019.
بعدها ببضعة أشهر سافر رئيس بلدية إسطنبول المعارض إلى فرنسا لحضور مؤتمر المجلس الأوروبي للسلطات المحلية والإقليمية، وعلى إثرها هاجم وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، أكرم إمام أوغلو واصفًا إياه بـ”الأحمق الذي يشتكي بلاده إلى البرلمان الأوروبي”، ليردَّ إمام أوغلو عند عودته قائلًا: “إن الأحمق هو من أعاد انتخابات البلدية”، هذه التصريحات دفعت مدّعي عام إسطنبول إلى رفع دعوى قضائية ضد إمام أوغلو بتهمة “إهانة أعضاء المجلس الأعلى للانتخابات”.
ورغم أن إمام أوغلو قد أكّد خلال محاكمته على أن المقصود في جملته هو صويلو وليس أعضاء لجنة الانتخابات العليا، إلا أن مكتب المدّعي العام قدّم مرة أخرى إلى المحكمة طلبًا لإصدار حكم بالسجن وحظر سياسي مصاحب. وبينما كان من المتوقع أن تتخذ المحكمة قرارًا في 21 يونيو/ حزيران الماضي، تمَّ نقل قاضي المحكمة الذي ينظر في القضية إلى سامسون دون طلب منه، وهو ما فُسّر حينها على أنه ضغط سياسي على الدوائر القضائية، خصوصًا أن القاضي السابق كان يميل إلى تبرئة إمام أوغلو على أساس عدم تشكيل العناصر القانونية والأخلاقية للجريمة، وفقًا لما نقلته صحيفة “سوزجو” التركية.
وبعد تغيير القاضي، قررت المحكمة بعد جلسة طويلة يوم الأربعاء الماضي حبس رئيس البلدية المعارض، وتطبيق المادة 53 من قانون العقوبات التركي الذي يقضي بفرض حظر على النشاط السياسي للمدانين بأحكام سجن تتجاوز العامَين حتى إنفاذ القرار، فيما أعلن محامو الدفاع أنهم سيستأنفون القرار في محكمة الدفاع والمحكمة العليا.
المرشّح الأكثر طموحًا
رغم أن القرار يبدو أنه أعاق مسيرة إمام أوغلو السياسية، إلا أنه لن يدخل حيز التنفيذ إلا بصدور قرار التأكيد من محكمتَي الاستئناف والعليا، وهو الإجراء الذي أكّد محامو إمام أوغلو أنه يستغرق في الوضع الطبيعي ما بين عام إلى عامَين حتى البتّ فيه. لكن الكثيرين يرون أن الوضع في القضايا السياسية مختلف تمامًا، فزعيم حزب الشعب الديمقراطي (HDP)، صلاح الدين ديمرتاش، المحتجَز بدوافع سياسية بنظر محكمة العدل الأوروبية، غرّد كاتبًا: “تمّت الموافقة على الحكم الصادر بحقّي في غضون 41 يومًا بأمر صريح من السرايا، وتمّت الموافقة على الحكم الصادر بحق رئيس بلدية ديار بكر، سلجوق ميزراكلي، في 35 يومًا”.
من أمام مبنى البلدية في سراجهانة، ومطبّقًا التكتيكات ذاتها التي نفّذها أردوغان في السباق، بدأت مسيرة إمام أوغلو بدعم من زعيمة حزب الجيد، ميرال أكشنار، التي أثبتت أنها صانعة ألعاب سياسية بارعة
وبالعودة إلى الإحصاءات القضائية، يكاد يكون من المستحيل استكمال إجراءات الاستئناف والمحكمة العليا في فترة تتراوح بين 4 و5 أشهر، وهو الوقت المتبقي على الانتخابات العامة والرئاسية في تركيا، ومع ذلك إن التعديل القانوني الذي أجراه حزب العدالة والتنمية عام 2019 لإدراج جرائم التشهير في نطاق مراجعة المحكمة العليا، ربما سيساعد إمام أوغلو، وإن كان ذلك عن غير قصد، وسيكسبه الوقت لفرض نفسه مرشحًا وحيدًا لتمثيل تحالف المعارضة السداسي.
أتاح قرار المحكمة الفرصة لإمام أوغلو، الذي تراجعت حظوظ ترشيحه كممثل للمعارضة في ظل تحركات زعيم الحزب، كمال كليجدار أوغلو، خلال الفترة الماضية، لإعلان نفسه المرشح الأكثر طموحًا في مستقبل تركيا السياسي، فمن أمام مبنى البلدية في سراجهانة، ومطبّقًا التكتيكات ذاتها التي نفّذها أردوغان في السباق، بدأت مسيرة إمام أوغلو بدعم من زعيمة حزب الجيد، ميرال أكشنار، التي أثبتت أنها صانعة ألعاب سياسية بارعة في ظل الأخطاء التكتيكية الفادحة التي ارتكبها كليجدار أوغلو في رحلاته الخارجية الأخيرة، لا سيما سفره إلى ألمانيا في يوم صدور الحكم، تاركًا الساحة فارغة أمام أكشنار لتتصدّر المشهد وفرض نفسها كزعيمة قوية للمعارضة.
أكثر ما تميَّز به أردوغان طوال العقدَين الأخيرَين هو حظه الكبير، بجانب وجود معارضة ضعيفة لم تكن قادرة على مواجهته
وبحسب الصحفي أوراي إيجين، قد تُنسى الأخطاء التي ارتكبها كليجدار أوغلو واحدة تلو الأخرى أو اعتبارها أمرًا مفروغًا منه، لكن الناخبين -حتى أعضاء حزب الشعب الجمهوري- لن يغفروا له عدم تواجده بجانب إمام أوغلو، كما فعلت أكشنار ليلة صدور الحكم.
سيناريوهات عديدة
في مثل نقاط التحول هذه، هناك دائمًا بضع لحظات تبقى تحت حجاب السرّية رغم تقدُّم التاريخ، إحدى هذه اللحظات كان الاجتماع الذي استمرَّ لـ 48 دقيقة بين أردوغان وحليفه القومي بهتشلي في اليوم السابق لمحاكمة إمام أوغلو، ولا شك أنه جرى الإدلاء ببيانات رسمية، لكن عندما ننظر إليها فإن سياق ذلك الاجتماع يبقى لغزًا، فمن غير الممكن الآن النظر في قضية إمام أوغلو بشكل منفصل عن ذلك الاجتماع، ومن المستحيل أيضًا أن شريكَي الحكومة، وهما سادة في التكتيك السياسي، لم يتوقّعا عواقب مثل هذا الحظر السياسي والسيناريوهات التي ستليه.
سيناريو شق المعارضة هو الخيار المفضّل بالنسبة إلى أردوغان، الذي يضغط منذ وقت طويل لتفريق الأحزاب المشكِّلة لتحالف الطاولة السداسية
أكثر ما تميَّز به أردوغان طوال العقدَين الأخيرَين هو حظه الكبير، بجانب وجود معارضة ضعيفة لم تكن قادرة على مواجهته، لكن قرار إلغاء انتخابات إسطنبول عام 2019، والحظر السياسي الذي تلاه مؤخرًا، جلب للمرة الأولى زعيمًا يمكن أن يشكّل تهديدًا له.
وبعد أن كان أكرم إمام أوغلو سياسيًا متحمّسًا فحسب حتى الأربعاء الماضي، بات من الآن فصاعدًا أكثر تصميمًا وجرأة لفرض نفسه كمرشح وحيد للمعارضة، الأمر الذي يضع المعارضة وتركيا أمام 3 سيناريوهات رئيسية:
– السيناريو الأول: ذهاب القضية إلى محكمة الاستئناف، ووفقًا للتقويم الطبيعي للإجراءات القضائية في تركيا، سيستغرق الأمر عامَين على الأقل حتى يصبح الحكم واضحًا، وهو ما لن يفتح الباب أمام إمام أوغلو ليكون مرشحًا في الانتخابات القادمة وحسب، بل سيلبسه أيضًا ثوب الضحية الذي سيجلب له الفوز على الأغلب.
– السيناريو الثاني: في هذا السيناريو يصرّ زعيم حزب الشعب الجمهوري -المهندس الحقيقي لفوز عام 2019، ومؤسّس التحالف السداسي-، كمال كليجدار أوغلو، على ترشيح نفسه، ما سيدفع ميرال أكشنار، التي لطالما كانت حاسمة بضرورة تمثيل المعارضة بمرشح قوي يستطيع الفوز، إلى الانشقاق عن تحالف المعارضة وترشيح إمام أوغلو كمرشح منافس لكليجدار أوغلو.
– السيناريو الثالث: يتمّ اتخاذ قرار عاجل في المحكمة العليا لتأكيد حظر إمام أوغلو من ممارسة أي عمل سياسي قبل الانتخابات، وهو القرار الذي في أسوأ الظروف سيمنح إمام أوغلو الفرصة للسفر والتجول في كل شبر من تركيا خلال تلك السنوات المحظورة، واكتساب المزيد من الخبرة، فضلًا عن تأسيس وترسيخ قاعدة جماهيرية ضخمة استعدادًا لما بعد الحظر كقائد منافس.
بلا أدنى شك أن سيناريو شق المعارضة (السيناريو الثاني) هو الخيار المفضّل بالنسبة إلى أردوغان، الذي يضغط منذ وقت طويل لتفريق الأحزاب المشكِّلة لتحالف الطاولة السداسية، مثل هذا السيناريو سيزيد من حظوظ أردوغان لكسب الانتخابات المقبلة، لكن في الوقت نفسه قد يسلب منه الأغلبية في البرلمان، ما سيمهّد إجراء انتخابات مبكرة بعد ذلك بعامَين.