يخيم الهدوء الحذر على المحافظات الأردنية بعد المواجهات الدامية التي شهدتها المملكة خلال الساعات الماضية وأسفرت عن مقتل ضابط كبير وإصابة 49 رجل أمن أخرين إثر الاحتجاجات التي عمت البلاد اعتراضًا على رفع أسعار المشتقات النفطية في منطقة الحسينية التابعة لمحافظة معان جنوب الأردن.
وقُتل العقيد عبدالرزاق الدلابيح، نائب مدير أمن معان، أثناء تعامله مع أعمال شغب شهدتها المحافظة فجر الجمعة، وذلك بعد إصابته برصاصة في الرأس، فيما أصيب ضابط وضابط صف أخرين بجانب عدد من المجندين، وفق ما ذكرت مديرية الأمن العام بالمملكة.
وتشهد المحافظات الأردنية منذ الخامس من الشهر الجاري إضرابًا عامًا لسائقي الشاحنات وأصحاب وسائل النقل، امتد ليشمل المحال التجارية التي أغلقت أبوابها احتجاجًا على القفزات المتتالية في أسعار المحروقات، الأمر الذي اعتبره الشارع الأردني حملًا زائدًا فوق الكاهل في ظل الأوضاع المعيشة المتدنية التي يحياها المواطن منذ سنوات.
رسائل تحذيرية شديدة اللهجة وجهها الديوان الملكي، إزاء هذه النقلة النوعية في مسار الغضب الشعبي والتصعيد الخطير الذي تشهده البلاد والذي تجاوز حاجز الاحتجاج السلمي إلى حمل السلاح والدخول في مواجهات مباشرة دامية مع قوات الأمن، فإلى أي سيناريو ستذهب البلاد؟ وهل تكون الحكومة “كبش الفداء” لامتصاص هذا الغضب؟
هل كان الخراب وقطع الطريق في يومٍ إلا فعلٌ تأباه مروءة الرجال وأخلاقهم، فضلا عن القوانين والأعراف…
لأن الأردن غايتنا وعنوان عزتنا، ولأننا من أقسم على الدفاع عن أمنه وأمن مواطنيه، فلن نرضى دون أمنه شيئاً…
ومن منا ومنكم يرضى دون ذلك؟ pic.twitter.com/Xkxri4yIyE
— مديرية الأمن العام (@Police_Jo) December 16, 2022
نقلة نوعية في الاحتجاجات الشعبية
يواجه الشارع الأردني احتجاجات عارمة منذ سنوات، يتمحور أغلبها حول أسعار المحروقات التي ارتفعت قرابة 16 مرة خلال عامين فقط، آخرها قبل أيام حين قفزت الأسعار بنسبة تتراوح بين 40 – 46%، حيث وصل سعر لتر الديزل 895 فلسا (1.26 دولار) في حين تترواح أسعار لتر البنزين بين 920 فلسا (1.29 دولار) و1170 فلسا (1.64 دولار).
القفزة التي شهدتها المحروقات هذه المرة كانت بمثابة الصدمة لشريحة كبيرة من العاملين ومتوسطي الدخول في المملكة، ما دفع عشرات من سائقي شاحنات وحافلات النقل الداخلي والعمومي في محافظة السلط بالاعتصام، تعاطف معهم ودعمهم بعد ذلك سائقو مدينة معان ومن بعدهم سائقو العاصمة عمًان، وقد رفع الجميع شعارًا واحدًا “التراجع عن ارتفاع أسعار المحروقات”.
الإضراب انتقل من قطاع الشاحنات والنقل الذي يضم قرابة 21 ألف شاحنة (نقل بضائع وحاويات) إلى سيارات الأجرة ثم امتد ليصل إلى المحال التجارية، إذ تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع مصورة لعشرات المحال المغلقة في مدن معان والطفيلة والكرك، والتي شاركت في الإضراب تنديدًا بالأسعار المرتفعة وما يترتب عليها من تبعات معيشية قاسية.
الإضراب أصاب الساحة الأردنية بحالة من الشلل التام، وتراكمت البضائع في ميناء العقبة الرئيسي على البحر الأحمر، فيما توقفت الحاويات والشاحنات عن نقل السلع المستوردة إلى المحافظات الأردنية، وسط بيانات وتحذيرات قبلية وعمالية بالتصعيد حال أصرت الحكومة على المضي قدمًا في طريقها دون الاستجابة للغضب الشعبي.
وقد اعتادت المملكة على مثل تلك الاحتجاجات منذ سنوات، غير أنها كانت في الغالب ذات خطوط حمراء، فالأمر لم يتجاوز إشعال النيران في الإطارات وغلق بعض الطرق جزئيًا، بجانب اعتصامات وإضرابات خفيفة، لكنها لم تشهد أبدًا استخدام السلاح في مواجهة قوات الأمن، وهو ما يعكس تطورًا ملحوظًا في بنية الاحتجاجات والفكر الذي تستند إليه، الأمر الذي نجم عنه رد فعل قاسي من الديوان الملكي.
تحذيرات ملكية وغضب عشائري
أثار التصعيد الدموي الأخير في الاحتجاجات حفيظة العاهل الأردني الذي خرج محذرًا كل من يرفع السلاح في وجه الدولة ويعتدي على ممتلكاتها العامة، مضيفًا خلال تقديمه واجب العزاء في وفاة مدير أمن معان “لن نقبل التطاول أو الاعتداء على أفراد أجهزتنا الأمنية الساهرين على أمن الوطن والمواطن”.
من جانبه أكد وزير الداخلية الأردني مازن الفراية أن جريمة مقتل الدلابيح لن تمر بدون عقاب، وأن الحكومة قد أعلنت حالة الاستعداد القصوى واتخذت إجراءات مشددة في المناطق التي تشهد احتجاجات، مؤكدًا خلال مؤتمر صحفي له أن السلطات ستتخذ خطوات صارمة وتنشر المزيد من شرطة مكافحة الشغب من أجل مواجهة من يريدون جر البلاد إلى أتون المواجهات الدامية.
الغضب لم يكن ملكيًا ولا حكوميًا فقط، فقد أعلن الناطق باسم عشيرة بني حسن (القبيلة التي ينتمي إليها الضابط المقتول مدير أمن معان)، الشيخ عبدالله أبو دلبوح، أن المسؤولين الحكوميين غير مرحب بهم وأن القبيلة لن تستقبل أحدًا لتقديم العزاء حتى يتم الكشف عن القاتل والقصاص منه، محملًا الحكومة مسؤولية تفاقم الأوضاع، مرجعًا هذا التصعيد إلى القرارات التي وصفها بـ “الاستفزازية” التي اتخذتها خلال الأونة الأخيرة وأثارت غضب الأردنيين، مضيفًا “الناس تضررت، ويكفي استهتارًا من الحكومة، والحل دائمًا جيب المواطن، كل تفكيرهم بالتحصيل من المواطن، وسيغرقون الأردن بالمزيد من الديون”.
برلمانيًا، أعلن 12 نائبًا ينتمون إلى قبيلة بني حسن، أنه إن لم يتم الكشف عن اسم القاتل الحقيقي، فليس أمامهم سوى 3 خيارات للرد على هذا الأمر، الاستقالة، أو حجب الثقة، أو الامتناع عن الجلسات، مؤكدين أن القبيلة لا تساوم على النظام والوطن، وأن الحكومة مسؤولة مسؤولية كاملة عن الوصول إلى هذه النقطة.
وتحاول السلطات الأردنية احتواء الأزمة قبل تفاقهما، فبجانب تعزيز انتشار قوات الأمن في شتى المحافظات التي تشهد اضطرابات، أعلنت وحدة الجرائم الإلكترونية التابعة لمديرية الأمن العام الأردني، إيقاف تطبيق “تيك توك” مؤقتًا، مرجعة ذلك إلى احتوائه على منشورات تحرض على العنف.
وفي بيان للوحدة قالت فيه إنها تابعت خلال الأيام الماضية مضامين تحض على التخريب والاعتداء على أجهزة إنفاذ القانون وقطع الطرق والممتلكات العامة، محذرة من أن الأجهزة ستحيل كل شخص يرتكب مثل تلك الجرائم إلى القضاء، وأن المنصة الإلكترونية الدولية لم تتخذ الإجراءات اللازمة حيال المحرضين على العنف ولذا تم إيقاف خدماتها داخل المملكة بشكل مؤقت.
#قبيلة بني حسن
الحكومة والنواب والاعيان غير مرحب فيها بالعزاء ….. pic.twitter.com/fwNyNk5fVO
— Hala Al abbadi ??? (@HalaZAlabbadi1) December 16, 2022
مسكنات غير كافية
حاولت الحكومة امتصاص الغضب الشعبي وفك طلاسم الإضراب من خلال حزمة من المسكنات حين تعهدت الأربعاء 14 من الشهر الجاري بتلبية بعض مطالب المضربين من أصحاب الشاحنات، وذلك عقب اجتماع لها مع مجلس النواب، حيث وعدت بتشكيل لجنة مشتركة خلال شهر لتنظيم عملية الدور لشحن البضائع.
كما تعهدت بزيادة المبالغ المخصصة لصندوق المعونة الوطنية، وتوزيع مبلغ 2.6 مليون دينار كويتي (8.3 مليون دولار) بدل محروقات للأسر الأكثر تضررًا مع نهاية الشهر الحالي، هذا بجانب الاتفاق مع البنوك والمؤسسات الإقراضية على تأجيل دفع القروض المستحقة على أصحاب الشاحنات.
لكن يبدو أن تلك المسكنات لم تؤت ثمارها، ومما فاقم الوضع سفر رئيس الحكومة بشر الخصاونة على رأس وفد وزاري إلى السعودية لإجراء مباحثات ثنائية مع الرياض، وهو ما أثار حفيظة المضربين الذين قرأوا تلك الزيارة على أنها استخاف بقضيتهم، إذ يرون أنه على رئيس الحكومة أن يتابع الأزمة بنفسه وأن ينزل الشارع ويتابع التطورات لحظة بلحظة وأن يؤجل أي زيارات خارجية لحين الانتهاء منها.
استقر في يقين الشارع الأردني أن تصريحات الحكومة ماهي إلا محاولة لتهدئة الأجواء، كونها تتعارض مع التصريحات السابقة للخصاونة تحت قبة البرلمان والذي قال فيها بشكل صريح إن “خزينة الدولة لا تملك ترف دعم المحروقات وبأنها دعمت المحروقات بـ 550 مليون دينار العام الماضي، ولا تستطيع الاستمرار بذلك، ولا تملك المال، وأن أي دعم سيزيد عجز الموازنة”، وهي التصريحات التي اعتبرها البعض نقطة الاشتعال التي أججت الشارع، كونها اعتراف مباشر على المضي قدمًا في برنامج الإصلاح المزعوم مهما كانت ردود الفعل.
رحيل الحكومة.. هل يكون الحل؟
المطلب الأبرز الآن لاحتواء الموقف يدور حول إقالة الحكومة، فهناك شبه إجماع من كافة التيارات على تحملها المسؤولية الكاملة فيما وصلت إليه الأوضاع الحالية، إذ اكتفت بالوعود والتعهدات التي لم تنفذ منها شيئًا، وهو ما زاد من تفاقم حالة الغضب الشعبي الذي تجاوز خطوطه الحمراء من وجهة نظر الديوان الملكي والنخب السياسية والبرلمانية.
فبجانب العديد من الأصوات البرلمانية والعشائرية والعمالية التي تطالب برحيل الحكومة دخلت بعض الكيانات السياسية على خط الأزمة داعمة هذا المطلب كما فعلت جبهة العمل الإسلامي التي اعتبرت أن إضراب السائقين يدق ناقوس الخطر ويؤشر لتفاقم الاحتقان الشعبي ما يستوجب استقالة وزير النقل وبقية أفراد الحكومة التي فشلت في احتواء الموقف منذ البداية.
التاريخ يقول إن كثيرًا من الحكومات الأردنية أطيح بها في أعقاب احتجاجات شعبية كتلك التي تشهدها البلاد حاليًا، بل إن المحافظة التي شهدت الاضطرابات الأخيرة، معان، كانت سببًا في الإطاحة بحكومة الرئيس الأسبق زيد الرفاعي حين شهدت احتجاجات أبريل/نيسان 1989 الشهيرة، نتيجة تدهور سعر الدينار حينها وتفاقم الوضع المعيشي ماكان سببًا في اشتعال الغضب الشعبي.
أزمة الأردن أكبر من مجرد إقالة حكومة أو الإبقاء عليها، فالمشكلة لم تكن يومًا في هوية الرئيس والوزراء قدر ما هي أزمة تخطيط وإدارة ومعضلة فساد وفقدان البوصلة
الأمر تكرر بعد ذلك مرارًا، إبان حكومة عبدالكريم الكباريتي عام 1996 حين اندلعت احتجاجات عارمة بسبب رفع أسعار الخبز في الجنوب، كذلك الإضراب الكبير الذي شهدته المملكة خلال حكومة هاني الملقي في أعقاب مشروع قانون الضريبة، ما دفع العاهل الأردني للتدخل حينها والتراجع عن القانون وإقالة الحكومة فورًا.
ثمًة مرجعيات تاريخية وحاضرة تذهب باتجاه إقالة حكومة الخصاونة كحل سريع لامتصاص الغضب المتصاعد، غير أن التطور الذي شهدته الاحتجاجات الحالية ومقتل شخصية أمنية بحجم مدير أمن معان سيضع الديوان الملكي في موقف صعب، فالإقالة هنا رضوخ لتصعيد الشارع، كما أن التعنت والإبقاء على الحكومة تجاهل لنبض الشعب ما يمكن أن يزيد من تفاقم الوضع.
قد تكون الإقالة مسألة وقت مالم يتقدم الخصاونة طواعية على تقديم استقالته تجنيبًا لإحراج الملك، إلا أن التصعيد الدموي الذي تشهده الساحة ربما يكون ذريعة لمزيد من التعنت والتصدي لتلك الاحتجاجات خاصة بعد الإجماع على رفض استخدام السلاح في مواجهة السلطات أيًا كانت المبررات.
بالمحصلة.. فإن أزمة الأردن أكبر من مجرد إقالة حكومة أو الإبقاء عليها، فالمشكلة لم تكن يومًا في هوية الرئيس والوزراء قدر ما هي أزمة تخطيط وإدارة ومعضلة فساد وفقدان البوصلة، وعليه فإن الإطاحة بالحكومة لن يحل الأزمة لكنه قد يجمدها مرحليًا ويهدئ من غضب الشارع، لتبقى الأمور كما هي، مزيد من الضغوط واستمرار تدني الأوضاع الاقتصادية حتى إشعار آخر.