تُستكمل في تونس، اليوم السبت، “خارطة الطريق” التي سبق أن أعلنها الرئيس قيس سعيّد، بانتخابات تشريعية التي تتوّج تلك الخارطة، من المتوقع أن تشهد مقاطعة كبرى، ذلك أنها لا تبعث على الأمل وتنعدم فيها المصداقية والشفافية لأسباب عدة، أبرزها القانون الانتخابي المنظم لها والهيئة المشرفة عنها.
كما ترجع المقاطعة إلى كون هذه الانتخابات صورية وستحوّل البرلمان إلى كيان بلا صلاحيات، وفق عدد من التونسيين تحدث إليهم “نون بوست”، صباح هذا الاستحقاق الانتخابي الذي يعول عليه سعيّد كثيرًا، لمواصلة حكمه.
هيئة سعيد للانتخابات
يوم الـ 18 من أبريل/نيسان 2011، أنشأت الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وكان ذلك بعد ثلاثة أشهر من الإطاحة بنظام الرئيس زين العابدين بن علي.
نصّ المرسوم عدد 27 من سنة 2011، الذي وقعه الرئيس التونسي آنذاك فؤاد المبزع، على أن تشرف الهيئة الجديدة على انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، وتنتهي مهامها بإعلان النتائج النهائية لهذه الانتخابات، بالتالي حلّت الهيئة محل وزارة الداخلية التي كانت المشرف الوحيد على الانتخابات منذ 1956 حتى سنة 2011.
#عاجل
نسبة المشاركة في #الانتخابات التشريعية في #تونس بلغت 8.8%
— Tunigate – بوابة تونس (@Tunigate) December 17, 2022
انتخبَ أعضاء المجلس التأسيسي في أكتوبر/تشرين الأول، وجاءت حركة النهضة في المرتبة الأولى بحصولها على أغلبية المقاعد، ليتم بعدها اعتبار الهيئة العليا للانتخابات هيئة دستورية مستقلّة ودائمة، وكان ذلك يوم 20 ديسمبر/كانون الأول 2012 بمقتضى القانون الأساسي رقم 23، وأقرّت الهيئة ضمن دستور 2014، لتكون خلفًا للهيئة المؤقتة التي أشرفت على انتخاب المجلس الوطني التأسيسي.
إقرار العمل بنظام الاقتراع على الأفراد بدل القوائم، الهدف منه وضع حد للأحزاب السياسية وانهاء العمل السياسي في البلاد
رغم بعض التحفظات والانتقادات، نجحت الهيئة في الاشراف على الانتخابات منذ سنة 2011 إلى غاية سنة 2019، بما فيها التشريعية والمحلية والرئاسية، حتى المتعلقة بانتخاب أعضاء المجلس الأعلى للقضاء، وكان أعضاء الهيئة منتخبين من قبل البرلمان.
إذا ظلّت مراكز الاقتراع في تونس خاوية على عروشها كما بدت هذا الصباح.. فلننتظر نسبة المشاركة التي ستخرج بها في النهاية الهيئة “المستقلة” للانتخابات…. https://t.co/ibAQfuY4aJ
— محمد كريشان (@MhamedKrichen) December 17, 2022
لكن انتخابات اليوم، لن تشرف عليها نفس الهيئة، إذ أعلن الرئيس قيس سعيد يوم 21 ابريل/نيسان 2021 حل الهيئة وإعادة تشكيلها وفق تصوره، بعد أن اتهمها بانعدام المصداقية والشفافية وخدمة أطراف سياسية، رغم أن سعيد، الوافد الجديد على السياسة، فاز بانتخابات الرئاسة في 2019 في تصويت أشرفت عليه نفس الهيئة.
أعطى سعيد الحق لنفسه فقط، بتعيين رئيس الهيئة من بين ثلاثة أعضاء سابقين في هيئات الانتخابات السابقة، ويحق له إعفاء أي عضو من الهيئة الجديدة أو رفض ذلك، ما جعلها بامتياز “هيئة الرئيس”، كما وصفها رئيس هيئة الانتخابات المقال نبيل بافون.
تجاهل سعيّد الانتقادات الكثيرة التي وجهت لهيئته، لكنه مصرّ على مواصلة عملها والاشراف على الانتخابات التشريعية، وتعرّضت الهيئة لانتقادات من الأوساط السياسية المعارضة لإجراءات الرئيس التونسي، خاصة فيما يتعلق بإشرافها على الاستفتاء لتغيير دستور 2014.
الشهيد خلى وصية لا تنازل عن القضية ..
انتخابات اليوم مهزلة و مسرحية .. أن يطبع المجتمع الدولي مع نظام الإنقلاب، ، لا يهم الأحرار .. نفهم أن المعركة أكبر من ماطش ضد مجموعة إنقلابية في الداخل. #قاطع_الانتخابات #يسقط_قيس_سعيد #تونس_تنتفض_ضد_الانقلاب #يسقط_الانقلاب_في_تونس pic.twitter.com/6skFvOvfdt
— طارق المنضوج Mandhouj Tarek (@AlloLiberte) December 17, 2022
تعرضت الهيئة لاتهامات بتزوير نسب المشاركة في الاستفتاء على مشروع الدستور، وذلك بعد أن نشرت على صفحتها نتائج أولية ثم حذفتها ونشرت نتائج أخرى مكانها، وتضمنت النتائج الجديدة تغييرًا كبيرًا في الأرقام المعلنة بالنسبة لأغلب الدوائر الانتخابية.
ويشكّ العديد من التونسيين في نزاهة هيئة الانتخابات ومدى مصداقيتها، كونها تأتمر مباشرة من قبل الرئيس، وتنفذ خططه وبرامجه، حتى أنها حاولت السيطرة على مهام عديد الهيئات الأخرى على غرار هيئة الاعلام، عملًا بتوصيات الرئاسة.
بناءً على كل هذا تشكك قوى المعارضة في الأرقام التي ستعلن عنها الهيئة عقب الانتهاء من التصويت، خاصة في فيما يتعلق بعدد المقترعين، فالمؤشرات تؤكد عدم اهتمام التونسيين بالانتخابات وإمكانية تسجيل نسبة مقاطعة تاريخية لكن تبقى الكلمة لدى الهيئة.
قانون انتخابي على المقاس
المشكلة لا تكمن في هيئة الانتخابات فقط، إنما في القانون الانتخابي المنظم لهذا الاستحقاق أيضًا، فإلى جانب تطويع سعيد للهيئة وفق أهوائه، طوع الرئيس أيضًا القانون لخدمة مصالحه وبرنامجه، وقام بتغيير القانون الذي أوصله للحكم.
في القانون الجديد الذي صدر في 15 سبتمبر/أيلول 2022، والذي ينقح القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المؤرخ في 26 مايو/أيار 2014 المتعلّق بالانتخابات والاستفتاء وإتمامه، أطاح سعيد بعديد النقاط التي كانت تونس سباقة لإقرارها بعد الثورة.
أبرز تنقيح حمله قانون سعيد الانتخابي، تغير التصويت على القوائم الحزبية أو المستقلة في دورة واحدة، مع توزيع المقاعد على أساس التمثيل النسبي وأكبر البقايا، إلى التصويت على الأفراد في دورة واحدة أو دورتين عند الاقتضاء.
إنتخابات تونس جرت
بغياب الإعلام !
بغياب المراقبين الدوليين !
بغياب الأحزاب !
وبغياب الناخبين !! pic.twitter.com/YRMUEXtaPN
— mazen007 التطبيع_خيانة# (@mazen00711) December 17, 2022
إقرار العمل بنظام الاقتراع على الأفراد بدل القوائم، الهدف منه وضع حد للأحزاب السياسية وإنهاء العمل السياسي في البلاد، فلا أهمية للأحزاب في انتخابات اليوم، ولا جدوى من وجودها وفق تصور قيس سعيد، فالأفراد فقط من لهم حق الترشح.
كما أقر القانون الجديد مبدأ سحب الوكالة؛ إذ يتيح الفصل 39 (جديد) إمكانية سحب الوكالة من النائب في دائرته الانتخابية عند إخلاله بواجب النزاهة أو تقصيره الواضح في القيام بواجباته النيابية أو عدم قيامه بالدور المطلوب لتحقيق البرنامج الذي تقدم به، ويتم ذلك عبر تقديم عريضة معلّلة وموقعة من قبل عُشر الناخبين المسجلين بالدائرة الانتخابية التي ترشح بها النائب.
المبادرة التشريعية أصبحت محتكرة تماما من قبل رئيس الجمهورية، الذي يحظى بأولوية التشريع والنظر
مسّ التغيير في القانون الانتخابي أيضًا عدد الدوائر الانتخابية وعدد المقاعد في المجلس النيابي، إذ كان عدد الدوائر في السابق 33 دائرة -منها 6 بالخارج- تفرز انتخاب 217 عضوًا للمجلس؛ ليصبح عدد مقاعد مجلس نواب الشعب بعد التعديل 161 مقعدًا، بمعدل مقعد واحد عن كل دائرة، منها 151 داخل التراب التونسي و10 دوائر بالخارج.
التقسيم الجديد للدوائر الانتخابية، أعاد احياء ظاهرة “القبلية” أو ما يسمى أيضًا بـ”العروشية” التي حكمت المجتمع التونسي قبل عقود سابقة من الزمن، ذلك أن “العروشية” ما زالت محددًا أساسيًا من محددات سلوك المجتمع التونسي، وهو ما يُريد قيس سعيد تأصيله فيما يبدو.
#تونس..الفرصة الضائعة
عندما تتحول الانتخابات من استحقاق وطني ديمقراطي إلى مشهد عبثي لترذيل العمل السياسي وتحويله إلى مشهد هزلي مثير للسخرية..
هذا مثال صارخ من انتخابات عبثية..#مساء_الخير pic.twitter.com/y7aLaEUZqT
— Jalel Ouerghi جلال الورغي (@jalelouerghi) December 15, 2022
كما فرض القانون الجديد على المترشح تقديم قائمة إسمية تضم 400 تزكية من الناخبين المسجلين في الدائرة الانتخابية معرف عليها بإمضاء المزكين والمزكيات لدى ضابط الحالة المدنية أو لدى الهيئة الفرعية للانتخابات المختصة محليًا.
ليس هذا فحسب، فمن أبرز التغييرات أيضًا إلغاء التمويل العمومي للحملات، إذ سيقتصر تمويل الحملات في المحطات الانتخابية القادمة على إمكانية التمويل الذاتي والخاص فقط، وأقرّ عقوبات على كل من يثبت تحصله على تمويل أجنبي أو مجهول المصدر لحملته الانتخابية.
برلمان دون صلاحيات
نصّ دستور 2014، على منح صلاحيات كثيرة للبرلمان، فهو صاحب السلطة الأولى ويمثل السلطة الأصلية، ومنحه الدستور صلاحيات إقرار التشريعات واقتراح القوانين وتعديلها والاعتراض على قوانين السلطة التنفيذية والتصدي لها، كما يمكنه عزل رئيس الدولة وتوجيه لائحة لوم له، والرئيس مطالب بتأدية القسم أمام البرلمان قبل تولي مهام الرئاسة.
ليس هذا فحسب، إنما يتولى البرلمان كذلك، مراقبة الحكومة واقتراح رئيسها ومنحها الثقة ومساءلتها وسحب الثقة منها واستجوابها، وأيضًا انتخاب الهيئات الدستورية والهيئات العمومية ومراقبتها عبر موازنتها، وكذلك ممارسة الدبلوماسية البرلمانية مع البرلمانات الصديقة.
لكن وفق قوانين سعيد الجديدة، فقد جُرّد البرلمان من أغلب صلاحياته وأصبح وجوده شكليًا، كما سيتشكل من فسيفساء لا رابط بينها في ظل اعتماد عملية الاقتراع على الأفراد واقصاء الأحزاب من المشهد السياسي في تونس.
لن يكون البرلمان الذي ستشكله انتخابات اليوم، قادرًا على مساءلة الحكومة أو توجيه اللوم إليها، فقد وضع سعيد شروطًا تعجيزية لذلك، ما يجعل هذه المهمة حكرًا عليه، تماشيًا مع تصوره لنظام الحكم الرئاسوي، فالرئيس فيه يتحكم بكل شيء.
لا يمكن ان نطلق تسمية انتخابات على ما يجري اليوم في تونس لسبب وجيه
لانه بكل بساطة وقعت عملية اقصاء عظيمة لكل ما يمثل الديمقراطية و الشرعية القانونية
كل المترشحين و النصوص و المراسيم هي لعبة خاصة لفاقدي المعقولية
الذين شاركو اليوم سواء بالترشح او بالتصويت
هم زبدة الحثالة الخالصة pic.twitter.com/yBB6hVSnAm
— ?? نبيل التونسي (@Nabilettounsi) December 17, 2022
يمكن للبرلمان الجديد، اقتراح مشاريع قوانين لكن يجب أن تُقدّم من جانب عشرة نواب على الأقل، مع إعطاء الأولوية للنصوص التي يقدّمها الرئيس، وهو ما يعدّ ضربًا لمهمة البرلمان التشريعية، إذ يصعب أن يتفق 10 نواب على قانون.
يعني هذا أن المبادرة التشريعية أصبحت محتكرة تمامًا من قبل رئيس الجمهورية، الذي يحظى بأولوية التشريع والنظر، بينما البرلمان الجديد أصبحت مهمته التزكية والمصادقة الشكلية فقط، كما كان الوضع قبل ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011.
المجد لثورة الحرية والكرامة
المجد للشهداء الذين منحونا الحرية
سيقى 17 ديسمبر تاريخاً لنا ولأجلنا ??
سيقى يذكر كل مستبد، أن الاستبداد والانفراد بالسلطة من افشل الأفكار وأقذرها. pic.twitter.com/m1FXHD2lNw
— Khaoula Boukrim ? (@khaoulaboukrim) December 17, 2022
كما أن غموض دور المجلس الوطني للجهات والأقاليم المحدث وإمكانية تنازعه في بعض الصلاحيات مع مجلس النواب، فضلًا عن عدم وضوح تركيبته في ظل عدم تحديد عدد الأقاليم بعد، سيمثل عائقًا كبيرًا أمام عمل البرلمان.
تغيير شكل هيئة الانتخابات ووظيفتها وطريقة اختيار أعضائها، ومن ثم صياغة قانون انتخابي على المقاس يُفرغ البرلمان من صلاحياته، ويقصي الأحزاب من المشهد السياسي، كلّها أسباب حكمت بفشل الانتخابات التشريعية قبل موعدها، بغض النظر عن النتائج التي سيتم الإعلان عنها بعد أيام قليلة.