يشغلُ الخيال مساحة أساسية من حيواتنا جميعًا، ليس فقط على مستوى الحاضر وإنما على امتداد التاريخ كلّه، يمكن إيجاد الخيال حاضرًا في كل شيء، في أكثر الأشياء علمية وواقعية نجده أحدى جذور ذلك الواقع.
أحد الصور التاريخية البسيطة للخيال هو السهولة والبراح والسعة الأبدية التي يخلقها، إذ يمكنك أن تخلق عالم كامل في رأسك، ربما بدون حدود، يمكن للكوابيس في الواقع أن تتحول أجزاء منها إلى حالة طويلة من الحلم، مُطعّمة بسلطة التغيير والقدرة على إنشاء عالم يُطابق رغباتنا.
لا يُقيم الحلم واقعًا كاملًا بالضرورة، تبدأ لحظة التخيّل أحيانًا وتنثر بذور مسار واقعي عظيم، ويحفظ لنا التاريخ كثير من هذه النماذج، لكن نفس لحظة التخييل هذه يمكنها أن تظل في إطارها الوهمي، الذي يخنقه الواقع وحيثياته ومحدودية الإمكانيات.
لا يتوقف (الخيال) في حضوره التاريخي على هذه الفردية التي تتعلّق بتحقيق نبوئة شخصية أو الفشل فيها، يتجاوز الخيال على مستوى الجمعي حيّز الخروج عن الواقع، ويبدوا أنه مفردة حضرت لتُساهم في تشكيل الواقع، في الخروج عنه كي تتم قراءته بحيثيات إضافية، ومن ثم تكون هناك قدرة على التعاطي مع ذلك الواقع خلال سياقات أكثر فاعلية.
يُعرف الخيال في الفلسفة على أنه عملية إعمال العقل دون إشراك الحوّاس الأخرى، والمقصود هنا أن يكون التخييل أكبر من حالة إبداعية، هو حالة (تصوّر عقلي). وجود العقل كوسيط يستطيع التفاعل، محاكاة الواقع وخلق الخيال، يدفعنا إلى النظر حول تاريخية نشاط الخيال وعلاقته بالوسيط (العقل) الذي يُساهم في تعزيز الحقيقة أيضًا.
تشغل (الأسطورة) حيّز كبير من الحضور التاريخي للقدرة على التخييل، يتضّح ذلك من تعريفات متغيّرة لفمهوم الأسطورة، إحداها يقول (الأسطورة مفهومة على إنها سرد: سرد يتعلّق بالماضي، لكنه يحتفظ في الحاضر بقيمة تفسيرية فائقة للغاية بقدر ما يوضح ويعلل بعض الانقلابات في مصير الإنسان أو بعض أشكال التنظيم الاجتماعي. )
من خلال التعريف المذكور في كتاب (الميثولوجيا والأساطير السياسية) فإن الأسطورة هي سردية تربط الأزمنة ببعضها، بحيث تبدأ من الماضي لقراءة الحاضر وتفسيره وتوضيحه، وتظل هذه الحالة أبدية، لأن الزمن ذاته مُتجدد ومنطوي على ماض ما دائمًا.
النزعة الأوروبية التي انتشرت في القرون الثلاثة 17و18و19، نزعت عن الخيال أي حضور مؤسسي، وجائت المؤلفات المؤسسية مرتبطة بالارتياب تجاه دخول الخيال في السياسي
في نفس السياق، لكن أكثر وضوحًا، يقول مارسيا إيلياد أن الأسطورة (تروي تاريخًا مقدّسًا، ، إنها تسرد واقعة جرت في الزمن السحيق القديم، زمن البدايات الخرافي، وبعبارة أخرى، تروي الأسطورة جاء جاء واقع ما إلى الوجود، يواء كان هذا الواقع كليًا، الكون، أو مجرد جزء ليس إلا: جزيرة، نوع من النباتات، سلوك إنساني، مؤسسة.. إلخ)
يشملُ تعريف إيلياد إضافات تفصيلية حول اشتباك الأسطورة مع الزمن الحاضر، ويحدد ارتباط (القديم) في الزمن بنشوء الأسطورة، لكنه يذكرُ أنها داخلة في تشكيل الوجود على أكثر من مستوى، إمّا كونيًّا أو متجزيء، والسلوك الإنساني والمؤسسا جزئان مهمان من الوجود المُتشكّل.
أزمة الخيال السياسي مع العقلنة
للخيال السياسي تعريف نظري في إطار الأدب فقط، ويُعرف بأنه عملية تناول الشؤون السياسية أدبيًا، بحيث يتم التعامل مع الخيال على أنّه مادة أساسية لاستشراف مستقبل الشأن السياسي للمُجتمع، ومن ذلك التعريف أتى تقسيم النوع (ديستوبيا- يوتوبيا)، كُتب في الحقلان أعمال مؤسِسة مثل (الكعب الحديد-كوخ العم توم- كانديد- لا يمكن أن يحدث هنا).
يُعتبر النشاط السياسي من ناحية التركيب، هو مادة حكائية بالأساس، إذ أنه يقوم على ربط وعلاقات وتشابكات، ونديّة بين طرفين ما، لكن النزعة الأوروبية التي انتشرت في القرون الثلاثة 17و18و19، نزعت عن الخيال أي حضور مؤسسي، وجائت المؤلفات المؤسسية مرتبطة بالارتياب تجاه دخول الخيال في السياسي، كما مالت هذه المؤلفات إلى حصر الاستشكاف في مجال الفكر المنطقي، المُصاغ صياغةً عقلية، والمتسلسل منطقيًا دون سواه.
حصر السياسي في إطار منطقي فقط، يعود إلى ارتباط النهضة الأوروبية بالتركيز على الإنسان أولًا، على حاضر الإنسان، دون الانتباه إلى الماضي الذي أسس لهوامش كثيرة مُتعلقة بذلك الحاضر، كما أن عصر النهضة رافقه دخول الميكنة والتُشكّلات المركزية لرأس المال، إضافة إلى توجيه قطاع العُمّال كمواد للإنتاج. في هذه الحالة، لم يكن للخيال أي حضور، أو بالأحرى تم قمعه عمدًا، على مستوى المؤسسات والأفراد، لأنه لم يكن مادة لزيادة الانتاج المادي.
ولأن حضور الخيال مرتبطًا مع السياسي، له حيّز أكبر من الإنزواء التام، حُوصر الخيال السياسي في إطار الأدب فقط، ودخلت هذه السرديات ضمن إطار يوهم بالانفصال عن الواقع، مثل أشكال الملاحم والحكايات الشعبية ومُختلف أشكال الميثولوجيا. كان الدافع الأساسي هو أن يُقرأ الإنسان بلغة اللحظة الراهنة، وبشكل واقعي تمامًا وعلى مستوى حضري ومديني لا يتحمّل حميمية استدعاء الوجود الأول.
المؤامرات الثلاثة
“لسنا مضطرين لمواجهة خطر المغامرة وحدنا فأبطال الأزمنة القديمة دخلوا المتاهة قبلنا ودرسوها بعناية ، علينا فقط أن نتتبع خيوطهم فى مسار البطولة . وحيثما حسبنا أننا سنجد الدنس سنجد الرب ، حيثما حسبنا إننا سنقتل آخرين سنقتل أنفسنا،حيثما حسبنا أننا مسافرون للخارج سنلج أعماق وجودنا ذاته،حيثما حسبنا أننا سنصبح وحدنا…سنصبح مع العالم “
جوزيف كامبل- البطل بألف وجه
رغم حُمّية العقلنة في عصر النهضة الأوروبية، لم يُستطاع نزع الخيال عن النشاط السياسي، ظهر ذلك حينما بدأنا استدعاء الماضي بمفردات جديدة وأكثر مُعاصرة، خلا مطلع القرن العشرين، الذي أجاد قراءة عصر مُفعم بثقافة سياسية ملئى بالنبوئات والتكهّنات، والقيام أولًا على شخصيات وأفكار الخيال و الأسطورة يسكناها.
في القرنان الثامن عشر والتاسع عشر، ظهرت في أوروبا مؤامرات (اليسوعية- اليهودية- الماسونية). يذكر كتاب (الميثولوجيا والأساطير السياسية) أن المؤامرة اليهودية قامت على نظرة خيالية، تتسم بالإطلاق البطولي، حيث غزو العالم واستعباد الكرة الأرضية، لكن الأمر يتفكك إلى نقاط مُحددة، هي قلب النشاط السياسي، مثل التأثير الاقتصادي والسيادة العسكرية، الاستيلاء على وسائل الإعلام والتعليم.
كان للهربانية اليسوعية سلطة واقعية وضخمة أكثر من سابقتها، إذ عملت الأولى على بسط الهيمنة على العالم، بينما المؤامرة الماسونية كانت ذات طابع ميثولوجي أكثر، إذ وضعت شكل مثالي لثنائية الخير والشر، والتي تمثلت ميثولوجيا في عدّة ثقافات. كان هدف المؤامرة الماسونية هو “التعجيل بدمار النظام الملكي والمسيحي القديم، والإعداد لقيام السيادة العالمية، من خلال خطط تدمير مُنظّة”. وأنت تقرأ، تبدوا الأفكار مثل حكاية كلاسيكية بها طرفا صراع، لكن بالفعل كانت هناك خطط عالمية لذلك،. الأب بارويل في فرنسا، كان من أبرز مروّجي هذه الأسطورة، ورأى أن الثورة الفرنسية على السلطة الدينية، كانت جوهريًا قادمة من مساعي الماسونية.
جدير بالذكر هنا، أن محاولة استدعاء أسطورة ما لتغيير الواقع وإعادة تشكيله، تداعت إلى مُحاولة لتزييف الواقع من خلال تزييف الأسطورة وتلفيقها، مثلما اتخذ النشاط الماسوني صيغة (المؤامرة والتآمر) كمادة للعداء تجاه العالم، أو تجاه أفكار كُبرى تحكمه.
البطل المُخلّص
“تُحيل أساطير العصر الذهبى دوما إلى “أيام زمان” وهى أزمنة عاشها الناس فعلا قبل أن يحلموا بها، فهى باقية فى ذاكرة الجماعة المعنية وكذلك فى الذاكرة الفردية. غير أن هناك ماضيا يتعلق بما يُعرف بذاكرة التاريخ. والماضى الذى تشير إليه “أيام زمان” هذه لم يُعرف قط بصفة مباشرة، غير أن ظهوره خارج الزمن المنقضى يمنحه قوة إضافية على قوته كنموذج وقوته كنموذج أصلى”
خليل كلفت- تقديم لكتاب (الميثولوجيا والأساطير السياسية)
تُعيدنا ضرورة قراءة الحاضر إلى الماضي المُتعلّق بالتاريخ، والذي نجد فيه مرجعًا لنماذج البطولة التي رأيناها في العصر الحديث. يشغلُ كل زمن بطولة حسب متطلبات التاريخ والذهن العالمي له، أو حسبما تريدُ أن تظهر قوة عالمية كبرى.
حينما نبدأ من نابليون بونابرت مثلًا، فإنه يتمثّل فيه (البطلُ المُخّلّص)، الذي جمع بين الذكاء البشري الفذ، على الناحية العسكرية، وبين الثورية الخلّاقة، دون أن يحافظ على تراتبيته كبطل، كإمبراطور، زعيم جيش، الرأس الأعلى لجماعته.
للمفارقة، لم يكن نابليون هو الخلاص الفرنسي بالفعل، بل كان الحالة المُناسبة لاستدعاء أشكال بطول أسطورية ساحقة من الماضي ليتغذى عليها الحاضر. ولد نابليون في جزيرة واقعة تحت الاحتلال الفرنسي، تعلّم في المدارس العسكرية وتولّى مسؤولية العائلة وهو في السادسة عشر. كان لديه طموح استقلال جزيرة نشأته، أن تكون وطن خاص بحضور مستقل، وذلك كان السبب المركزي في اتقانه الاستراتيجيات العسكرية والحربية. خلال الثورة الفرنسية الجديدة، اتُهم أخو نابليون بالتآمر مع بريطانيا، لذلك ذهب بونابرت إلى فرنسا بعيدًا عن صخب الجزيرة، وهناك أثبت جدارته وارتقى تدريجيًا في السلك العسكري.
النزعة الأوروبية بيضاء منذ نشوء حضارتها، ومسئلة الأصل بها دونها الدماء، لأن فعل التراتبية والصدارة الذي نراه الآن عند الرجل الأبيض، له جذور تاريخية تتعلّق بالنقاء، وأن الأفضلية السياسية لنماذج العسكري والسياسي الأوروبي لابد أن يكون من طينة بيضاء.
ارتقاء نابليون وصعوده، ثم تحويل فرنسا من جمهورية إلى امبراطورية، كان متعلّقًا أكثر بالتواطؤ بين رحلة نابليون، البطل الصاعد، وبين متطلبات المرحلة لتحويل هذه الرحلة إلى ارتقاء أوروبي مميّز، لكن الدورة البطولية لنابليون أجبرته على الانتهاء، كأنه منتقلًا من جحيم دانتي إلى التطهّر من كل هذه الأشياء، إذ هُزم نابليون مطلع القرن التاسع عشر، نُفي في جزيرة بعيدة، ومات منزوع كل أشكاء السلطة التي شكّلته تاريخيًا.
تركيبة (البطل المُخلّص) لم تنتهي من صعود الحداثة وما بعدها، ربما ظهرت في سرديات أكثر ترفيهية، بعيدًا عن الاشتباك السياسي الذي أصبح واقعه شديد التركيب والعدائية الآن. السينما الهولودية خلال ذروتها عقب الحرب العالمية الثانية، كانت تقوم بتوزيع الأفلام التجارية التي تُحاكي شخصية البطل المُطلق، القادر على تغيير العالم، في مدن بختلفة بدول تعيش فقر كبير بعد الحرب العالمية الثانية، كأن هناك حالة من استبدال الواقع كليًا بأحلام يقظة أبدية هروبًا من الجحيم.
ربما، لا يحتاج الصراع السياسي الآن سوى نظرة مُتأملة، توازي ما بين النماذج المعاصرة والمتنازعة على سيادة العالم، وبين أحد حكايات أسطورة شعبية قديمة، سنجدُ تقاطعات أبدية لا تنتهي، وسنجدُ التاريخ أيضًا حاضر منذ زمن، يخبرنا بالواقع الذي نعيشه، بحزن كتيم أحيانًا، وبسخرية حادة أحيانًا أخرى، إلا أن العالم المُعاصر لا يسمح لنا بالتفائة واحدة بعيدًا عن كمّاشة الواقع العنيفة.