” كنت أحاول البقاء بشتى السبل الممكنة، لكن لا حيلة لدي أنا وجميع جيراني كاد الموت يفرقنا بسبب قصف منزل أحد أقاربي، لذلك تركت بيتي وأرضي مرغماً، نتيجة القصف الجوي والمدفعي العنيف، ووصول قوات النظام محيط بلدتي معر شورين، الواقعة بالقرب من معرة النعمان جنوبي إدلب”، بهذه الكلمات يشرح عصام محمد العلي، وقع المعارك نهاية العام 2019، عندما بدأت قوات النظام مدعومةً بالميليشيات الإيرانية والطيران الروسي، بالتقدم نحو معرة النعمان وانتهت بالسيطرة عليها في يناير / كانون الثاني 2020.
تعتمد نسبة كبيرة من السكان في مناطق ريفي إدلب الجنوبي والشرقي على الزراعة كمصدر رزق رئيسي تعينهم في تأمين احتياجاتهم الأساسية، لكن سيطرة النظام على مدنهم وقراهم، بألة الحرب الإجرامية دفعتهم إلى النزوح، وحرمتهم أرزاقهم، حيث يقيم العلي في منطقة أعزاز شمال حلب، وهو واحداً من ألاف المدنيين الذين تركوا منازلهم وأملاكهم خلفهم مع اشتداد وتيرة المعارك.
يقول خلال حديثه لـ “نون بوست”: “تركت منزلي ومحتوياته وخرجنا بملابسنا مسرعين هرباً من شدة القصف، حيث لم تسمح الظروف بالعودة إلى منزلي مجدداً، بسبب سيطرة النظام وميليشياته على قريتنا، وسرقة محتويات المنازل وأثاثها من الحديد المسلح والأبواب”.
وأضاف: “أن أرضه الزراعية التي تبلغ مساحتها 10 هكتارات، شرقي معرة النعمان، كانت مصدر رزق عائلته الأساسي لكن النظام سيطر على جميع العقارات والأملاك دون استثناء أحد، حتى الأراضي الزراعية يؤجرها للعناصر والمنتفعين المحسوبين على النظام عبر الإعلان عنها في المزادات العلنية، بغية زراعتها واستثمارها”.
ويخشى النازحون والمهجرون من مناطق معرة النعمان وخان شيخون، وسراقب وأبو الظهور بريفي إدلب الجنوبي والشرقي، من خسارة أملاكهم، جراء ممارسات النظام وميليشياته بممتلكاتهم ومنازلهم والأراضي الزراعية وتمنعهم من زراعتها سواءً كانوا متواجدين هناك، أو عبر وكلاء من أقاربهم ومعارفهم لاستثمارها.
أراضي النازحين.. في مزادات علنية
مع بداية موسم الزراعة في سوريا، أصدرت محافظة إدلب التابعة لحكومة النظام السوري – تتخذ من مدينة خان شيخون جنوبي إدلب مركزاً لها – إعلانات دورية لاستثمار الأراضي الزراعية التي تعود ملكيتها للأهالي النازحين والمهجرين إلى الشمال السوري، حيث أرفقت على صفحتها في فيسبوك، في تشرين الأول / أكتوبر الماضي، “إعلان المزاد بالسرعة الكلية”، في محاولة منها لكسب الأراضي الزراعية قبيل بدء الموسم الزراعي 2022- 2023.
وتضمن الإعلان مساحات تقديرية قابلة للزيادة والنقصان، حيث يتم تسليم المحاضر على أرض الواقع بموجب محضر تسليم رسمي منظم من قبل اللجنة المختصة، فيما لم يحدد الإعلان مواقع الأراضي وأسماء مالكيها، واكتفى بذكر أسماء القرى والمناطق وإلى جانبها المساحة المعروضة للمزايدة، في مبنى محافظة إدلب في خان شيخون.
خريطة تفاعلية توضح المناطق التي يشملها إعلان المزاد – المصدر: الشبكة السورية لحقوق الإنسان – اضغط
بعد سيطرة النظام خان شيخون ومعرة النعمان وسراقب وأبو ظهور، وضعت الميليشيات أيديها على منازل المدنيين وعقاراتهم، حيث منع المدنيون حتى الموالين من الوصول إلى منازلهم
ويستهدف إعلان الأمانة العامة لمحافظة إدلب، المساحات الزراعية في منطقة خان شيخون، التي سيطرت عليها قوات النظام خلال آب / أغسطس 2019، ويشمل 62 منطقة عقارية بينها قرى وبلدات، وتبلغ مساحتها الكلية نحو 12696 هكتار، تشمل مختلف الزراعات الموسمية كالقمح والشعير والبقوليات والأشجار كالفستق الحلبي والزيتون.
بينما في منطقة معرة النعمان التي استعادت قوات النظام السيطرة عليها في كانون الثاني / يناير 2020، يشمل المزاد المعلن 83 منطقة عقارية، بينها البلدات والقرى بريف المعرة، وتبلغ مساحتها الكلية، 28445 هكتار، تمتد ضمن ريفي المعرة الشمالي والشرقي.
وفي منطقة سراقب التي سيطرت عليها قوات النظام، خلال أذار / مارس 2020، ومنطقة أبو الظهور، إلى الشرق من سكة الحجاز، التي سيطرت عليها النظام خلال كانون الثاني / يناير 2018، وتشمل 69 منطقة عقارية، تبلغ المساحات الزراعية الكلية فيهما نحو 26514 هكتار، وتمتد من جانب طريق الـ M5، إلى آخر نقطة من الحدود الإدارية لمحافظة إدلب.
ووصف محافظ إدلب، ثائر سلهب أن الأراضي المشمولة بالمزادات العلنية تعود ملكيتها لـ “المتوارين عن الأنظار” وهم المهجرين والنازحين الموجودين في الشمال السوري، حيث اشترط المحافظ، عودة المهجرين وتسوية وضعهم من قبل النظام للسماح لهم باستعادة أراضيهم التي جرى إعطاؤها للاستثمار، وفق ما نقلت صحيفة الوطن الموالية.
وتعرف محكمة النقض، التابعة للنظام، الشخص المتواري عن الأنظار بأنه الشخص الذي وردت بحقه مذكرة توقيف أو قبض، عن الجهة القضائية التي تملك الحق في إصدار مثل هذه المذكرات، أو هو من حكم عليه بعقوبة ولم يمثل لتنفيذ ما صدر بحقه، بمعنى أن الأشخاص الذين سيعودون قد يتعرضون للتوقيف والاعتقال من الأجهزة الأمنية.
وبعد سيطرة النظام خان شيخون ومعرة النعمان وسراقب وأبو ظهور، وضعت الميليشيات أيديها على منازل المدنيين وعقاراتهم، حيث منع المدنيون حتى الموالين من الوصول إلى منازلهم، فيما استولى ضباط وشخصيات محسوبة على النظام الأراضي الزراعية لصالحهم الشخصي قبيل إجراء عمليات التسوية، والمشاريع الخدمية الخلبية التي يقوم بها مجلس محافظة إدلب.
بصبغة قانونية.. النظام يستحوذ عقارات النازحين
تعتبر المساحات الزراعية المعلن عنها بالمزاد العلني، من أهم المناطق السهلية، التي يزرع فيها المحاصيل الموسمية، وتعود بإنتاج وفير ومحاصيل ذات جودة عالية، حيث تنتشر فيها زراعة القمح والشعير والبطاطا والبقوليات وغيرها من الزراعات الموسمية التي تعتمد على مياه الأمطار والاودية.
عامر بريكي، من مدينة سراقب، يقيم في الشمال السوري، ويملك أرضاً زراعية تبلغ مساحتها 40 دونماً، حاول خلال العامين الماضيين زراعتها والاستفادة منها، لكن قوات النظام كانت تمنع المدنيين من أقاربه ومعارفه من الوصول إلى المنطقة، بسبب استحواذ الميليشيات على معظم العقارات بمختلف أنواعها ونهبها بالكامل.
وقال خلال حديثه لـ “نون بوست”: “أجرى النظام تسويات مؤخراً في تلك المناطق، لكنني لا أستطيع العودة إلى مناطق سيطرته بسبب الملاحقات الأمنية التي قد تصدرها اللجان الأمنية بحق العائدين بهدف استغلالهم والسيطرة على عقاراتهم”.
وأضاف: “أنه تحطم حلم العودة إلى المنطقة أو الاستفادة من الأملاك والمشاريع التي تركها في مدينته، بسبب أسلوب النظام المتعمد في إجراءات التوكيل الذي تتضمن مراجعة اللجان الأمنية بهدف التحقيق حول صاحب العقار والموكل، في محاولة لتعقيد المسألة”.
ويفرض النظام الحصول على موافقة أمنية لأقارب الملّاك، إضافة إلى ما يثبت درجة القرابة في حال أرادوا استثمار أراضي أقربائهم المهجرين خارج تلك المناطق، إضافة إلى ضرورة حصولهم على وكالة تخولهم استغلال تلك الأراضي، بعد الحصول على الموافقة الأمنية للوكالة القضائية عن الغائب والمفقود.
وتترافق إجراءات الموافقة الأمنية التي فرضتها وزارة العدل في حكومة النظام خلال تعميمها الذي حمل 30 / 2021، وصدر 15 أيلول 2021، لعمليات مساومة وابتزاز مادي، كون الكثير من السوريين الغائبين مطلوبين للأفرع الأمنية، ويعني هذا التعميم استحالة إعطاء أقاربهم وذويهم حق استخراج الوكالة لإدارة أموال الغائب.
وادعى مجلس إدلب، أن الأراضي الزراعية التي يتم طرحها عبر نظام المزاد العلني، أصحابها مدينون للمصرف الزراعي بمستحقات مالية غير مسددة، والهدف من الاستثمار تحصيل الدين لصالح المصارف الزراعية في محافظة إدلب، في حين يشير يوسف حسين، إلى أن “الادعاءات حتى ولو كانت حقيقية لا تستطيع المحافظة فرض المزايدة المعلنة على العقارات وإنما تتم عبر المصارف الزراعية واللجان التي تتبع لها، بناءً على مستندات توضح القروض والمستحقات المترتبة”.
وقال المحامي والناشط الحقوقي، خلال حديثه لـ “نون بوست”: “إن النظام المسؤول عن تهجير السوريين، وما يمارسه بحق أملاكهم هو اعتداء على حقوق الملكية في سوريا، حيث تنص المادة 15 من دستور الجمهورية العربية السورية على حماية الملكية الخاصة من أي اعتداء عليها والمصادرة إلا للمنفقة العامة وفق أحكام قضائية مبرمة”.
وأضاف: “النظام يفرض ويشترط حصول صاحب الأرض على أرضه بحصوره الشخصي وغالبية السوريين المهجرين ملاحقين من قبل اللجان الأمنية التابعة للنظام، وفي الوقت ذاته يعرقل الوكالة، وعملياً النظام يصيغ القوانين بما تقتضي مصالحه لذلك فهو يبرر كل ممارسته تحت تفنيدات قانونية حسب رؤيته تمكنه من استثمار الأراضي الزراعية التي تعود ملكيتها للأهالي”.
وفي شباط 2021، تحدّثت الشبكة السورية لحقوق الإنسان عن استيلاء النظام على ما لا يقل عن 440 ألف دونم من الأراضي الزراعية التي تعود لمهجّرين في ريفي حماة وإدلب، عبر مزادات علنية كنوع من العقاب الممتد لهم ولعوائلهم، ولتحقيق مكاسب مادية في الوقت ذاته، وإعادة توزيعها على الأجهزة الأمنية، والميليشيات المحلية كنوع من المكافأة بدلاً من دفع مستحقاتها المالية نقداً.
وقال فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان: “يحاول النظام السوري نهب الأراضي والممتلكات عبر إجراءات تظهر أنها نظامية، مثل أسلوب المزادات العلنية، لكنها في حقيقتها انتهاك لحقوق المشردين قسرياً، المكفولة بموجب القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وإن مصادرتها عبر هذه الأساليب المخادعة من قبل النظام السوري تعتبر عملية نهب، وترقى إلى جريمة حرب”.
ويحاول النظام منذ بداية الثورة السورية 2011، إصدار العديد من القوانين التي تعارض مبادئ القانون، ضمن مسميات عديدة، تهدف إلى شرعنة عمليات الاستيلاء المتعمد، على أملاك المعارضين السياسيين للنظام، حيث تعد تلك القوانين والمراسيم خطوة رئيسية يعمل من خلالها على تغييب السوريين قسرياً، عبر نهب ممتلكاتهم وأرزاقهم وتحويلها لتمويل وإمداد آلته الإجرامية ضدهم، في حين لا يستطيع مئات الآلاف من السوريين العودة إلى مدنهم بسبب الملاحقات الأمنية وتهديدات الاعتقال التعسفي.