أسدل الستار على مشوار منتخب المغرب لكرة القدم في مونديال قطر 2022 بإنجاز تاريخي غير مسبوق، نجح فيه المغاربة في إعادة تشكيل خارطة الكرة العالمية، ووضع الكرة العربية والأفريقية على منصات التتويج، بعدما كانت لعقود طويلة رقما على يسار الشاشة لا محل له من الإعراب.
واستطاع أبناء وليد الركراكي أن يسطروا تاريخًا جديدًا لبلادهم ابتداءً، وللعرب والقارة الأفريقية بصفة عامة، وذلك حين نازلوا الكبار فأسقطوهم بالقاضية وقطعوا شوطًا لم يكن بخيال أكثر الحالمين، حتى وصلوا إلى المربع الذهبي الذي ظل حكرًا على عدد محدود من المنتخبات منذ انطلاق البطولة عام 1938.
خاض أسود الأطلس 7 مبارات في مونديال قطر، البداية كانت بتعادل أمام كرواتيا ثم فوزين متتاليين على بلجيكا وكندا، وفي الأدوار الإقصائية نجحوا في الإطاحة بأسبانيا ومن بعدها البرتغال، قبل أن يضعهم القدر في مواجهة بطل العالم النسخة الماضية، المنتخب الفرنسي، الذي أوقف زحفهم في الدور نصف النهائي، قبل الخسارة من المنتخب الكرواتي في مباراة تحديد المركزين الثالث والرابع، ليختتم المنتخب المغربي مشواره رابعًا في البطولة العالمية.
قدم الأسود أداء مبهرًا، ومستوى أشيد به من الجميع، فاستحقوا لقب “فاكهة البطولة” و”حصانها الأسود”، كما كانوا ندًا قويًا لزعماء الساحرة المستديرة، وأعادوا صياغة مفهوم “التمثيل المشرف” بشكل مختلف، يعتمد على التنافسية والندية بدلا من الحضور الباهت والمشاركة الرمزية.
الكرة العربية قبل مونديال قطر ليست كما هي بعده، إذ يمكن اعتبار هذه البطولة تأريخًا جديدًا للكرة العربية على المستوى العالمي، ويعود الفضل في ذلك لثنائية قطر والمغرب، التنظيم الخلاب والأداء القوي، الإدارة الجيدة والإرادة الصارمة، ليجني المنتخب المغربي مكاسب لاحصر لها، ومن خلفهم العرب بالتبعية.
I know Morroco has a population of 38 million people, but today it has 1.5 billion Muslims rooting for it. Come on Atlas Lions, Bismillah, you can do it inshaAllah!#Morocco #MoroccoVsPortugal #WorldCup #WorldCup2022 #المغرب #المغرب_البرتغال #كأس_العالم_قطر2022 pic.twitter.com/R4HnzHNMLA
— Maher Zain (@MaherZain) December 10, 2022
أرقام قياسية بالجملة
بعد انتهاء المشوار المونديالي نجح أسود الأطلس في تحقيق حزمة أرقام قياسية بالجملة، سواء للمنتخب أو للمدير الفني واللاعبين، البداية تأتي من كون المغرب أول منتخب عربي وإفريقي يصل إلى نصف نهائي كأس العالم، كذلك هو أول فريق إفريقي يتأهل إلى ربع نهائي كأس العالم منذ عام 2010.
وبهذا الإنجاز يصبح المغرب رابع منتخب إفريقي يصل إلى ربع نهائي المونديال، بعد منتخب الكاميرون عام 1990، والسنغال 2002، وغانا 2010، كما بات ثالث منتخب إفريقي أكثر حضوراً في كأس العالم، وثالث منتخب من خارج أوروبا وأمريكا الجنوبية يتأهّل إلى المربع الذهبي بعد الولايات المتحدة عام 1930، وكوريا الجنوبية في 2002.
كما أصبح منتخب الأسود أول منتخب عربي يحقق فوزين في دور المجموعات في كأس العالم، وأول بلد عربي يحصل على 7 نقاط في الدور ذاته، بجانب أنه أصبح أول منتخب عربي يتصدّر مجموعته في كأس العالم مرتين، وذلك بعد مونديال 1986 في المكسيك عندما تصدر مجموعته برصيد 4 نقاط متقدماً على كل من إنجلترا وبولندا والبرتغال.
وفي المواجهات المباشرة أصبح المنتخب المغربي أول منتخب إفريقي يهزم إسبانيا في كأس العالم، منذ عام 1998 بعد هزيمته أمام نيجيريا، بجانب أنه أكثر المنتخبات العربية تسجيلاً للأهداف في تاريخ مشاركاته بكأس العالم، برصيد 23 هدفاً، 6 أهداف منها سجلها في النسخة الأخيرة في قطر.
أما المدير الفني للمنتخب، وليد الركراكي فأصبح أول مدرب عربي وإفريقي يصل بمنتخبه إلى نصف النهائي، كذلك أول مدرب عربي يقود فريقه لعبور دور المجموعات ضمن منافسات المونديال، فيما كتب الثلاثي، أشرف حكيمي وحكيم زياش وبلاش الخنوس، لاعبو المنتخب، تاريخًا جديدًا يضع أسمائهم بين الكبار، حيث دخل حكيمي وزياش ضمن قائمة أكثر اللاعبين المغاربة مشاركة في نهائيات كأس العالم برصيد 10 مباريات، بالتساوي مع السعودي المخضرم محمد الدعيع، حارس مرمى “الأخضر”، ليصبحوا ثلاثتهم أكثر اللاعبين العرب ظهوراً في المونديال.
الخنوس هو الأخر دخل ضمن بورصة الأرقام القياسية، فأصبح أصغر لاعب مغربي وعربي يشارك ضمن منتخب بلاده في بطولات كأس العالم، حيث شارك في مباراة كرواتيا بعمر 18 عاماً و221 يوماً، محطمًا بذلك الرقم القياسي الذي كان بحوزة حكيمي، والذي لعب أساسياً بكأس العالم 2018، وهم بعمر 19 عاماً و223 يوماً.
المغرب تصنع التاريخ ??❤️ #المغرب #المنتخب_المغربي #كورال_روح_الشرق #rouh_alsharq_choir pic.twitter.com/vGhADxO3XD
— Rouh Alsharq Choir | كورال روح الشرق (@rouhalsharq) December 11, 2022
حضور مشرف
“لنعترف جميعا أننا وقعنا جميعا في حب المغرب بالنصر على إسبانيا والبرتغال، رقصة بوفال (سفيان) مع والدته، عناق حكيمي (أشرف) ومبابي (كليان)، الداهية (وليد) الركراكي، لقد كانت لحظات رائعة.. هؤلاء الرجال قدموا لنا ولأنفسهم أفضل شهر كروي في الحياة”.. بتلك الكلمات التي دونتها على صفحتها الرسمية على فيسبوك أعربت قناة “ماتش” الرياضية الروسية الأولى عن إعجابها الشديد بالمنتخب المغربي.
لم يكن هذا رأي القناة الروسية وحدها، بل إن الشارع الكروي، العربي وغير العربي، قد أجمع على براعة وحب منتخب الأسود الذين قدموا عشرات الرسائل الاجتماعية والأخلاقية الرائعة، قبل أن يفتتحوا مدرسة الفن والهندسة الكروية داخل المستطيل الأخضر.
لا تزال مشاهد البر التي قدمها لاعبو المغرب في المدرجات وداخل الملعب، ولحظات السجود العابرة التي اكتست بها الملاعب عقب كل مباراة، واللوحات الاجتماعية المبهرة التي ظهرت بين المدير الفني واللاعبين، وبين اللاعبين ومنافسيهم، حديث وسائل الإعلام الأجنبية التي تعاملت مع تلك المشاهد بعيدًا عن ساحة كرة القدم إلى ماهو أبعد من ذلك بكثير.
وقد وثقت “الجزيرة نت” عبر عشرات اللقاءات التي أجرتها مع مشجعي من بلدان غير عربية، خارج ملعب “خليفة الدولي” قبل مباراة المغرب وكرواتيا التي انتهت بفوز الأخير 2-1، حجم الحب والتقدير والإعجاب الذي حظي به المنتخب المغربي الذي نجح في تقديم أوراق اعتماده للعالمية بشكل رسمي.
????❤️#المغرب #المغرب_البرتغال pic.twitter.com/gaC7dKpDuU
— Carole Samaha (@CAROLE_SAMAHA) December 10, 2022
فخر العرب رغمًا عن دعاة التفرقة
نجح المنتخب المغربي في تقديم العرب بوجه مختلف، ليس على المستوى الكروي وفقط، بل إلى ماهو أبعد من ذلك، ويكفي أن يكون هناك منتخب عربي ضمن الأربعة الكبار عالميًا في مجال كرة القدم، وهذا سر التآلف العربي الذي نجح منتخب الأسود في تعزيزه بشكل غير مسبوق.
واستطاع المغاربة في توحيد العرب تحت راية واحدة، حتى وإن كانت راية كروية، إذ نجحوا فيما فشلت فيه السياسة والدبلوماسية التي تعاني من شروخات حادة، فبينما تعاني الحدود العربية من أزمات وتشققات على المستوى السياسي، كان التلاحم داخل المدرجات بين المشجعين العرب صورة مبهرة، فالعلم المغربي بجوار التونسي والجزائري ومن أمامهم المصري والعراقي والسوري وخلفهم السوداني والسعودي والقطري، الكل في جسد واحد لا يفصل بينهما سوى بضعة سنتميترات.
كما نجحت البطولة في ترسيخ المزاج العربي الرافض للتطبيع والداعم للقضية الفلسطينية التي كانت البطل الحقيقي لتلك النسخة المونديالية، والتي أجهضت مخططات سنوات طوال، وأطاحت بمئات المليارات من الدولارات التي أنفقت لتمرير مؤامرات التطبيع تحت مسمى “قبول الأخر والتعايش السلمي”.
لكن يبدو أن هذا الربط بين الإنجاز المغربي والعربي في المونديال قد أثار حفيظة البعض ممن أغاظتهم تلك اللحمة العربية غير المعتادة، فباتوا يدسون سمومهم في الشعارات المعسولة، حين استماتوا في تجريد المغرب من عروبته بدعوى أصوله الأمازيغية تارة، والأفريقية تارة أخرى، فيما ذهب أخرون بعيدًا ليعيدوا تقسيم الشعوب العربية وفق هويات وقوميات مغايرة عن العرب، فهذا أشوري وذاك فرعوني قبطي والأخر أمازيغي وهكذا.
ليه زعلان يا ربيب العجم، انحن شجعنا #المغرب لأنه عضو في جامعة الدول العربيه، إذا كنت لا تنتمي لهذه الجامعة، تقدم بخطاب الى احمد ابوالغيط وطالب بالانسحاب منها، اما واننا نتغنى بانجازات الامازيغ، فجانبك الصواب، المنتخب اسمه منتخب #المغرب وليس منتخب الامازيغ، فكف عن ترهاتك. pic.twitter.com/L7fqNMB2AO
— #GCC أبوعبدالرحمن (@RealJ_alhussain) December 16, 2022
أرضية للبناء عليها
الإنجاز الذي حققه المغرب في مونديال قطر لاشك وأنه سيدفعه خطوات في التصنيف الشهري القادم للاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، فالفوز على المنتخبات المصنفة عالميًا في مراتب متقدمة كأسبانيا والبرتغال وبجليكا، سيكون له تأثيره في النقاط التي سيحصل عليها الأسود في التصنيف الذي سيصدر بعد إسدال الستار على النسخة الحالية من المونديال، وتحديدًا يوم 22 ديسمبر/كانون الأول الجاري.
وكان المنتخب المغربي يحتل المركز 22 عالميًا والثاني أفريقيا وراء السنغال في تصنيف شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، غير أنه ووفق المقاييس الجديدة بعد النقاط المتوقع الحصول عليها في ضوء النتائج التي تحققت خلال المونديال ينتظر أن يحقّق أسود الأطلس قفزة عملاقة ستضعه في المركز 11 عالميًا، والأول أفريقيًا وعربيًا.
تلك القفزة ستمثل حتمًا ضغطًا على المنتخب المغربي فيما هو قادم، فالمنتخب الذي أبهر العالم في مونديال قطر لابد وأن يواصل أداءه ومستواه الرائع في البطولات القارية، كما قال المدير الفني وليد الركراكي في التصريحات التي أدلى بها عقب مباراة كرواتيا ” قلت للاعبي إنه يتوجب عليهم الفوز بكأس أمم أفريقيا لنكون الأفضل في القارة. قبل أن تكون ملكا في العالم، يجب أن تكون ملكا في بيتك”.
التحدي ذاته أكد عليه مدافع المنتخب يحيى عطية الله حين قال “الوجود بين أفضل 4 منتخبات في العالم هو أمر يدعو للفخر، لكنه يعتبر أيضا مسؤولية ضخمة على عاتق الفريق. سنكتسب الخبرة من هذه المشاركة، وسنعود بشكل أقوى في نسخة عام 2026”.
وبعد ساعات قليلة من الأن تختتم النسخة الأفضل في تاريخ المونديال، بلقاء ناري يجمع بين رفاق ميسي وكتيبة مبابي، أحلام بلاد الفضة الأرجنتينية في مواجهة طموح الديوك الفرنسية، هذا اللقاء الذي يترقبه الملايين من عشاق الساحرة المستديرة، وتتأرجح التوقعات حول هوية الفائز، فكلا المنتخبين يتمتعان بقوة ضاربة، وحضور مميز، ولاعبين قادرين على إحداث الفارق، لتبقى النتيجة معلقة حتى صافرة الحكم البولندي سيمون مارتشينياك الذي سيدير اللقاء.
وهكذا وبعد أن وضع المنتخب المغربي نفسه في زمرة الكبار لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يتخلى عن تلك المكانة وعليه أن يواصل هذا الإبهار وأن يتخذ من مونديال قطر تأريخًا جديدًا لميلاد منتخب عربي قادر على منافسة الكبار والتواجد بين عمالقة اللعبة وأن يذهب بالعرب فيما هو أبعد من التمثيل المشرف (المذل).