انقلب السحر على الساحر، وقال الشعب كلمته، الشعب الذي ركن طويلًا إلى سلبيته، حتى إذا حان موعد الانتخابات كما أرادها قيس سعيّد، نطقت الأغلبية الساحقة المسحوقة بما فيها من نصيب كبير للمعارضة بطيفها الواسع، خرجت عن صمتها، فقاطعت مكاتب الاقتراع، ولم تستطع هيئة الانتخابات إخفاء حجم المقاطعة المفضوحة من جيوش الصحفيين، فهل تلتقط المعارضة اللحظة التاريخية؟
اهتراء كامل لقاعدة الرئيس
رسميًّا، يمكن القول باهتراء القاعدة الشعبية لقيس سعيّد مقارنة بالانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي صوّت له فيها مليونان و800 ألف ناخب، أي ما تفوق نسبته 70% من الناخبين، بينما لم ينتخب لصالح مشروعه التشريعي الحالي سوى 800 ألف، فأين اختبأت الأغلبية؟
فقدَ الخزان الانتخابي للرئيس وفق الأرقام السابقة مليونَي ناخب فقدوا الثقة في مشاريع رئيسهم، ورأيناهم يوم الانتخابات الباهتة غير مكترثين بها، ملأ الشباب المقاهي كالعادة، وآخرون اصطفّوا في الأسواق والفضاءات الكبرى بحثًا عن مواد غذائية مفقودة، وسعى الكادحون وراء أرزاقهم اليومية، فغابت الانتخابات شكلًا ومضمونًا ورائحةً في الأحاديث والشوارع.
ولئن كان العزوف عن الانتخاب سمة بارزة في جميع الاستحقاقات الانتخابية السابقة، إلا أنه من الضروري التنويه إلى أنه لم يسبق لأي انتخابات في تونس عبر التاريخ أن تعرف هذه النسبة الحالية المقدَّرة بـ 8.8%، ففي انتخابات المجلس التأسيسي عام 2011 قدرت نسبة المشاركين بحوالي 52%، ثم ارتفعت عام 2014 إلى 69%، وفي أسوأ الحالات لم تقلّ النسبة عن 41% عام 2019.
ظهرت هذه المرة صور مكاتب الاقتراع وهي خاوية على عروشها سوى من الصحفيين أو بعض المراقبين المحليين، في لا مبالاة تامّة بالمترشحين وحملاتهم الانتخابية، التي اتسمت بعضها بالمهزلة، ما زاد في تعفُّن المشهد السياسي والامتناع عن التصويت.
وبالتالي، لا يمكن فهم هذا العزوف خارج إطار الاستقالة الشعبية عن المشاغل السياسة، والتفرُّغ إلى ما هو أهم بعد أن نفض قطاع واسع من المسجّلين للانتخاب، على الأقل، أيديهم ممّا انتظروه لسنوات بهدف تحقق الآمال في الإصلاح أو الضرب على يد الفاسدين، وفي قيام نظام ديمقراطي قوي له أنياب.
لذا، أرسل الشعب، من عوام ونخب وسياسيين، رسائل كثيرة إلى النظام والمعارضة حول من سيقرر مصير 91% من المقاطعين، وهو ما على المعنيين أن يلتقفوه، بل تحمُّل المسؤولية الكاملة في ذلك وفي عودة الحد الأدنى من الثقة المتبادلة، بصرف النظر هنا عن طبيعة المسار السياسي.
نصيب المعارضة من المقاطعة
هرب قيس سعيّد من الصندوق فوقع فيه، هرب من إجراء انتخابات رئاسية مبكرة مع استمرار عمل البرلمان، وفق ما ينص دستور 2014، وذهب لتجميد عمل كل المؤسسات لتحصين إجراءاته الاستثنائية، لكن جميع تلك السبل انتهت إلى رفض ما رغب في طمسه.
لطالما شدد رئيس الجمهورية بأن مسار يوليو/ تموز هو مسار تصحيحي للثورة التونسية، حتى أنه اختار ذكرى اندلاعها موعدًا للانتخابات التشريعية، لكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه.
جاءت نسبة الإقبال على التصويت 8.8%، أي مقاطعة 91.2%، ما يمثل استفتاء جديدًا على مشروعه الذي دائمًا ما يرفع فيه شعار “الشعب يريد”، فها هو الشعب أراد اليوم فعلًا نزع الشرعية والمشروعية عن المشروع برمّته.
لقد كانت نسبة المشاركة الضعيفة جدًّا، مخيّبة لآمال المناصرين لقيس سعيّد، بمن فيهم الذين أيّدوا مشروعه قانونيًّا ودستوريًّا واقتصاديًّا.
لم تستطع هيئة الانتخابات المعيّنة على المسار الانتخابي إخفاء النسبة الحقيقية أمام حجم المقاطعة الشعبية، وخاصة حجم التغطية الصحفية المحلية والدولية التي كشفت ورصدت خلوّ المكاتب من ناخبيها.
كما لم يستطع المراقبون الروس الذين يراقبون لأول مرة انتخابات تونسية التستُّر على حجم الإقبال، فخرجوا عن صمتهم، وأبدوا دهشتهم من ضعف ملء الصناديق، رغم خلوّ الجو لهم بعد رفض الملاحظين الأوروبيين، لأول مرة في تاريخ تونس، الحضور للمراقبة، إذ سبق أن أعلن البرلمان الأوروبي عدم إرساله أي ملاحظين.
صحيح أنه لا يمكن فرز عدد المقاطعين للانتخابات من بين الموالين للمعارضة أو غيرهم من المتخلين عن دعم قيس سعيّد، لكن ما يمكن فهمه أن نسبة كبيرة من المقاطعين هم من أنصار المعارضة الذين صوتوا في السابق لسعيّد، ولا ننسى هنا أيضًا أن أحزابًا كبرى دعت إلى مقاطعة المحطة الحالية.
دعوات للرحيل
رفعت المعارضة سقف انتظاراتها من الرئيس، فلم يعد أمام قيس سعيّد سوى الرحيل، وهذا ما طالبت به قيادات من شتى التوجهات السياسية، وصل الأمر حدّ الدعوة إلى عزل الرئيس وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، أي بالعودة إلى متطلبات دستور الثورة الذي تجاوزه قيس سعيّد.
لكن تظل تلك الدعوات مجرد تفاعلات حماسية أقرب منها للردود العقلانية والمدروسة بهدوء، فالرئيس يمضي قدمًا في تنفيذ مشروعه، والمعارضة تعلم ذلك، لكنها تحاول إيجاد سبل أخرى وخيارات جديدة بعد تحشيد الجماهير في أكثر من مكان.
وبعد أن نُسفت كل المكتسبات الثورية عن بكرة أبيها، ما مثّل صدمة للمسار الديمقراطي، فإن النتيجة الحالية تعدّ بمثابة العبرة لأنصار “المسار التصحيحي” كما اتضح من خلال تدويناتهم، ما يضطرهم، رغم المكابرة، إلى النزول من فوق الشجرة ومحاولة استيعاب الخيبات المتتالية، وما هذه الانتخابات إلا آخرها وأعنفها، بعد أن تخلّى عنهم المقرّبون، وليس انتهاء بتآكُل القواعد من الموالين.
انتهى #مونديال_قطر_2022 يمكنكم متابعة تداعيات انتخابات #تونس. سجلنا يوم السبت أدنى نسبة مشاركة في العالم بنسبة 8.8%.
هذا الجدول يرتب معدلات التصويت الأدنى في العالم. وأضع المصدر هنا ?? https://t.co/Y53d098dQo pic.twitter.com/HUE3LtY7VN
— Wejdene Bouabdallah (@tounsiahourra) December 19, 2022
لم تكن هذه صدمة لليقظة فقط، الأهم هو كيف سيتم تجاوزها بأقل الأضرار بعد خسارة مسار انتقالي وهدر المليارات التي أُنفقت على الانتخابات في توجُّه أثبت أنه لا يحظى بالقبول، بعد هذا “الاستفتاء” الحقيقي على انتهاء مشروع، ما يستوجب بزوغ آخر يلغي بالضرورة جملة “الإصلاحات” التي مُرِّرت هذا العام تحت مسمّى استشارة وطنية أو استفتاء دستوري.
في المقابل، على الجميع القيام بمراجعات، فتراجع حظوة قيس سعيّد لدى الناس في الامتحان الحالي لا يجب أن يُفهم من المعارضين على أنه حنين للماضي، فلربما كانت النتيجة نفسها ستحظى بها المعارضة لو كانت في السلطة دون إجراء مراجعات، خاصة في ظل أزمة اقتصادية خانقة.
من هنا نعقلن دائمًا أزمة الاستفراد بالحكم، وأزمة عودة المسار الانتقالي دون تصحيح على حد سواء، فهما وراء تغييب الحلول الناجعة التي قد توفّر انفراجة للوضع، من قبيل تسريع النظر بقرض من صندوق النقد الدولي التي أجّلها مؤخرًا بسبب غياب توافقات مع الشركاء المحليين، وفق الخبراء.
سُبل عقلنة اللحظة
بخلاف النواة الصلبة للرئيس التي رأت المحطة الانتخابية عرسًا من أعراس الجمهورية الجديدة، فإن النتيجة المخيّبة لانتظاراتهم تحولت إلى محفل للمعارضة على رأسها جبهة الخلاص، لمحاكمة المنظومة الانقلابية عقب إسقاطها سلميًّا بالصندوق.
من هنا بات مطلب استقالة الرئيس عنوانًا جديدًا للتحرك تحته، والدعوة إلى تنظيم انتخابات عامة مبكرة وفق دستور 2014، بعد أن أجهز المقاطعون للانتخابات على منظومة 25 يوليو/ تموز، وفق رأيهم.
على هذا الأساس، يطالب قادة الحراك السلمي المعارض بضرورة استثمار اللحظة التاريخية وعدم تفويتها أمام الرئيس الذي لم يتراجع عن قراراته يومًا (خاصة أن هيئة الانتخابات شرعنت البرلمان الجديد بصرف النظر عن عدد الناخبين)، ووضع نصب الأعين هذه المرة النتيجة غير المسبوقة في الداخل والخارج التي تعكس حجم المعارضة للبرنامج الرئاسي، على خلاف النسبة الكبيرة التي زكّته عام 2019.
تبدو الخيارات الجديدة للمعارضة محدودة بدورها، وقد طرح البعض مسألة تنويع التحركات السياسية مثل عودة عمل البرلمان، والتصويت على عزل الرئيس، لكنها تبقى وسيلة ضغط لا أكثر لاصطدامها بطريقة التنفيذ.
كل ذلك يفرض على القوى الحية بجميع توجهاتها أن تعي المحك الذي باتت عليه، نحو مغادرة المربعات الأيديولوجية الضيقة، والجلوس مع المنظمات العمّالية دون إقصاء تحت سقف واحد لإعادة اللعبة الديمقراطية، بآلية جديدة أقرب إلى العقد السياسي الملزم، تأخذ بعين الاعتبار عدم السقوط في المآخذ القديمة.
فمن الأهمية بمكان التقاط المصادفة، وهي أن يأبى 17 ديسمبر/ كانون الأول، كعيد لانطلاق شرارة الثورة، إلا تحصين نفسه من قوى التربُّص، فلن يكون عيدًا للانقلابات، ليجدد العهد على أن التغيير لا يمكن أن يكون إلا بإرادة جماعية وحرّة تبدأ بالصندوق وتنتهي به.