المشهد الأول: ليلي خارجي مساء 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 من فوق منصة كبار الزوار بملعب البيت، أحد الملاعب الثمانية التي استضافت مباريات كأس العالم 2022، وقف أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، ليلقي كلمته الافتتاحية، متعهّدًا باسم العروبة أن تكون النسخة الحالية هي الأنجح، قائلًا: “من بلاد العرب أرحّب بالجميع في بطولة كأس العالم 2022، لقد عملنا ومعنا كثيرون من أجل أن تكون من أنجح البطولات”.
المشهد الثاني: ليلي خارجي مساء 18 ديسمبر/ كانون الأول 2022، من داخل ملعب لوسيل الذي استضاف نهائي المونديال، وقف رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، جياني إنفانتينو، مدليًا ببعض التصريحات الإجمالية عن النسخة الحالية من البطولة، واصفًا إياها بأنها “الأفضل في تاريخ كأس العالم”، مبديًا انبهاره بالثقافة العربية قائلًا: “أعتقد أنني جزء لا يتجزأ من المنطقة العربية وتعلمت الكثير من الرقص العربي، وأنا رقصت الرقصة القطرية الشعبية وهو ما يذكرنا بالثقافة والحضارة القطرية والعربية”، متعهّدًا بالعودة مجددًا للمنطقة: “سأعود إلى قطر مرة أخرى وسأقطف أشياء جديدة”.
المشهد الثالث: تغريدة على الحساب الرسمي لأمير قطر، عقب انتهاء المباراة النهائية ومباركته لمنتخب الأرجنتين، مساء 18 ديسمبر/كانون الأول 2022، قال فيها: “ومع الختام نكون أوفينا بوعدنا بتنظيم بطولة استثنائية من بلاد العرب، أتاحت الفرصة لشعوب العالم لتتعرّف على ثراء ثقافتنا وأصالة قيمنا”.
29 يومًا فقط تفصل بين المشهد الأول ومشهدَي الختام، قدّمت قطر خلالها تجربة هي الأكثر إبهارًا على الإطلاق في تاريخ كأس العالم منذ انطلاقه عام 1930 بشهادة الجميع، تجاوزت بسقف الطموحات حدود الخيال، أبهرت الحلفاء والخصوم معًا، راهنت فكسبت الرهان، ووعدت فأوفت، فكانت الفائز الأكبر في البطولة وإن كان ميسي ورفاقه من حملوا الكأس.
سيناريو ما كان يتوقعه أحد في ظل الحملة الشرسة التي كانت تستهدف الدوحة وتشكّك في قدرتها على تنظيم بطولة بهذا الحجم، فإذ بالسحر ينقلب على الساحر، فالدولة التي كانت تعاني من حصار إقليمي قبل أشهر، إذ بها اليوم حديث العالم، تستقبل فوق ترابها أكثر من مليون و400 ألف زائر من أنحاء العالم، فيما حضر مباريات البطولة ما يقارب 3.4 ملايين مشجّع، بمتوسط حضور للمباراة الواحدة يتجاوز 53 ألف مشجّع، بما نسبته 96% من الطاقة الاستيعابية للملاعب وفق البيانات الرسمية.
يقولون إن التفاصيل الصغيرة هي من تصنع الفارق، لكن في مونديال قطر كان الوضع مختلفًا، فلأول مرة تتناغم التفاصيل الصغيرة مع الغايات الكبيرة، لترسم معًا لوحة فنية مبهرة، وتصيغ حكاية استثنائية تتوارثها الأجيال جيلًا بعد جيل، عن قصة دولة صغيرة صنعت المعجزة حين ضمّدت الجراح العربية في أيام معدودة، أعادت اللُّحمة للشارع العربي الذي يعاني من شروخات وتشقُّقات لا حصر لها، فنجحت من خلال بطولة كروية فيما فشلت فيه السياسة على مدار عقود طويلة.
بطولة استثنائية بكل المقاييس، بلغة الأرقام والرموز، لتبقي في الذاكرة طيفًا جميلًا يداعب الخيال الجمعي العربي، ويُجمعه على أرضية مشتركة تعزز الهوية وتعمّق روح الانتماء في نفوس شعب سمته الأبرز كفره بالأوطان المقيّدة بسلاسل الأنظمة الاستبدادية.
أبارك لمنتخب الأرجنتين فوزهم بكأس العالم قطر 2022، وللمنتخب الفرنسي وصافة البطولة، وأشكر كل المنتخبات على لعبهم الرائع، والجماهير التي شجعتهم بحماس. ومع الختام نكون أوفينا بوعدنا بتنظيم بطولة استثنائية من بلاد العرب، أتاحت الفرصة لشعوب العالم لتتعرف على ثراء ثقافتنا وأصالة قيمنا.
— تميم بن حمد (@TamimBinHamad) December 18, 2022
تعزيز الانتماء العربي
قبيل انطلاق البطولة كان الشارع الكروي العربي يعاني من انقسامات حادة، لها رواسبها السياسية أحيانًا، وصلت في بعضها حدّ العداء والخصومة، كما هو الحال بين مشجّعي المغرب والجزائر، الأمر كذلك وإن كان أقل حدّة بين مشجّعي مصر من جانب والسودان ودول المغرب العربي من جانب آخر.
في مثل تلك الأجواء المشحونة فإن الجمع بين كل تلك الأطياف الكروية المتناحرة على مائدة واحدة أمر غاية في الصعوبة، لكن ما إن انطلق مونديال قطر حتى تبدّل الأمر، تلاحُم جسدي ومعنوي بين مشجّعي العرب في ملاعب كأس العالم، الجميع يرفع شعار العروبة ويدعم المنتخبات العربية الأربعة المشاركة (قطر والسعودية وتونس والمغرب).
احتفاء عمَّ شوارع العواصم العربية مع فوز السعودية على الأرجنتين في المباراة الأولى، تلاه احتفاء لا يقلّ قوة مع تعادل تونس مع بلجيكا والمغرب مع كرواتيا، ثم وصل العنفوان العربي الكروي مداه الأكبر مع الإنجازات التي حقّقها أسود الأطلس، واحتلالهم المركز الرابع في البطولة، ليضعوا العرب على منصات التتويج مع الكبار وعمالقة اللعبة في العالم.
بشت ، غترة ، عقال ، قحفية ، خيمة ، سدو ، رمال ، فانوس ، ….
بطولة فعلا جسدت معاني الأصالة العربية من خلال صناعة الكثير من التفاصيل ..#شكرا_قطر على هذا المحفل المميز ❤️ pic.twitter.com/IikflOZewE
— Logohut (@logohut) December 18, 2022
الإنجاز العربي تجاوز حاجز المستطيل الأخضر إلى ما هو أعمق من ذلك، فالشعوب المقهورة داخليًّا من أنظمتها وحكوماتها، وجدت في المونديال متنفّسها في إشباع نهمها في تحقيق الانتصار ولو كان كرويًّا، لكن رمزيته القومية كانت أكبر بكثير وأكثر عمقًا ممّا يتخيله البعض.
وبينما تسبّبت النزاعات البينية بين الأنظمة العربية في إحداث الشقاقات بين الدول العربية طيلة السنوات الماضية، إذ بالمونديال في أقل شهر يجمع الشعوب على طاولة مشتركة، حلم واحد وهتاف واحد وشعار واحد وجسد واحد وصوت واحد، وكأن الحدود الجغرافية التي صنعها المستعمر للتفرقة بين العرب قد تلاشت فجأة.
وفي الوقت الذي ترصد فيه مراكز الدراسات والأبحاث حالة نفور عامة تخيّم على الشعوب العربية تسلخها من هويتها وتزجّ بها في دروب الهجرة المهلكة، إذ بالأجواء المونديالية تعيد البوصلة إلى وضعها الطبيعي، استفاقة شعور الانتماء العربي وتعزيز مشاعر الفخر بالهوية العربية التي فرضت نفسها على هذا التجمُّع العالمي النادر.
وهكذا نجحت قطر في خلق ذاكرة جمعية عربية بأبجديات مختلفة، ذاكرة مبنية على مرتكزات الفخر والعزة، وتستندُ على أعمدة الهوية التي تحوّلت في غضون أيام قليلة إلى قوة جذب خرافية قادرة على احتواء الجميع داخل بوتقة واحدة، بعد شتات مزّق الجسد العربي وجرّده من مصادر قوته.
مشاهد ستبقى بالذاكرة
شهدت البطولة عشرات المشاهد التاريخية التي لن تُمحى من الذاكرة، وستظلّ عالقة في الأذهان يتوارثها أصحابها مع أبنائهم وأحفادهم بل محبيهم من خارج دائرة الأسرة الصغيرة، فيما توثّقها منصات التواصل الاجتماعي لتظلَّ إرثًا يمكن الرجوع إليه بين الحين والآخر كلما داعب الحنين مخيلة كل من عاصر تلك المرحلة.
وأكثر ما يجمع تلك المشاهد أنها تلتقي في معظمها على حوض العروبة وشريانها التراثي الضارب بجذوره في أعماق التاريخ، لترسم بورتريهًا عربي الهوية، سيكون حاضرًا بلا شكّ على جدران مئات المنازل والهيئات والمؤسسات في شتى بلدان العالم، خاصة أن أبطال هذه اللوحات نجوم مجتمع من الطراز الأول.
الشيخ ميسي.. اللوحة الأكثر حضورًا في غاليري المونديال والمرجّح أن تكون الأعلى قيمة والأكثر تأثيرًا، كانت للأسطورة ليونيل ميسي، أفضل لاعب في البطولة، وتميمة كرة القدم العالمية، حين ارتدى البشت العربي أثناء تسلمه جائزة أفضل لاعب، ملتقطًا به الصور التذكارية مع زملائه وأفراد أسرته، لتظل تلك الصورة خالدة في الأذهان، أذهان أسرته، أبناؤه ومن بعدهم أحفاده، وأذهان عشاقه ومحبيه في شتى ربوع الأرض.
وتجدر الإشارة إلى أن تلك اللقطة رغم أنها لم تستمر لأكثر من دقائق معدودة لكنها حملت دلالات ورمزيات تمتدّ إلى مئات السنين، فهي الأكثر ذكاءً وحنكة على الإطلاق، إذ أحدثت انقلابًا كاملًا في الصورة الذهنية المشوَّهة عن الزيّ العربي، لتعيد لهذا الزيّ الذي يمثل الهوية العربية بريقه مرة أخرى، فالإعلام الغربي الذي كان بالأمس يسخر من هذا الزيّ تراه اليوم يحتفي به بشكل مختلف.
باتيستوتا القطري.. ارتداء الزيّ العربي لم يكن مقصورًا على ميسي فحسب، بل حرص القائمون على أمور المونديال على تمرير تلك اللقطة لأكبر قدر ممكن من الشخصيات الكروية التاريخية، توقيرًا للتراث العربي وترويجًا للهوية والتمسُّك بها، فها هو الإعلامي القطري محمد سعدون الكواري في نهاية ختام استوديو المونديال على قناة “بي إن سبورت”، يهدي النجم الأرجنتيني المخضرم، غابرييل باتيستوتا، اللاعب الوحيد الذي سجّل هاتريك في بطولتَين لكأس العالم، الثوب القطري على الهواء.
هذا فضلًا عن أن الجماهير الدولية المختلفة، بما فيها الأرجنتيني والفرنسي، قد ارتدوا الثوب العربي كاملًا كما هو وأحيانًا مزركشًا بعلم بلادهم.
أنفانتينو العربي.. منذ الوهلة الأولى لانطلاق البطولة كان رئيس الفيفا هو الشخصية الأكثر حضورًا على منصات الإعجاب العربي، لما بدر عنه من تصريحات دافع بها عن حقّ قطر في استضافة المونديال في مواجهة ما أسماه “النفاق الغربي”، وقد صرّح إنفانتينو أنه جزء لا يتجزّأ من المنطقة العربية، كما حرص على مشاركة القطريين وأميرهم الاحتفالات باليوم الوطني ممسكًا بيمناه سيفًا، يرقص العرضة النجدية في مشهد له رمزية خالدة.
وردًّا على ادّعاءات صحيفة “التليغراف” البريطانية، من أنه قد تمَّ “إجبار قائد الأرجنتين، ليونيل ميسي، على ارتداء البشت العربي التقليدي عندما حصل على الكأس، لكنه سرعان ما نزعه”، يجدر الإشارة إلى أن ميسي لم يكن هو اللاعب الوحيد الذي ارتدى الزيّ التراثي للدولة المضيفة لكأس العالم، فقد سبقه في ذلك العديد من اللاعبين على رأسهم أسطورة كرة القدم البرازيلية، بيليه، الذي احتفل بفوز منتخب بلاده بنسخة المونديال 1970 التي احتضنتها المكسيك، مرتديًا قبعة سومبريرو المكسيكية، ليؤكّد أن كأس العالم وشتى البطولات القارية دائمًا ما تكون فرصة للتعارف والالتقاء بين الشعوب والثقافات، وهي الرسالة الأبرز التي تضمّنها الحفل الافتتاحي لمونديال قطر.
المشهد ذاته تكرر في أولمبياد أثينا 2004، حين قررت اليونان منح أبطال الدورة الأولمبية أكاليل من أغصان الزيتون إلى جانب الميداليات الذهبية والبرونزية والفضية، وما لذلك من رمزية تراثية فى التقاليد اليونانية القديمة، كذلك ارتداء ملك بريطانيا، تشارلز الثالث، شماغًا وعقالًا وملابس سعودية تراثية، وأداؤه لرقصة “العرضة” خلال زيارة إلى الرياض، منذ 8 أعوام، قبل أن يصبح ملكًا.
ما حققته قطر من تنظيم و إنجاز في كفة ، و رفع الكأس بالزي العربي في كفة أخرى ،
وعدت #قطر بتمثيل العرب فكانت على الوعد وتركت بصمة عربية حتى في أدق التفاصيل ، من صافرة البداية وحتى مسك الختام #قطر_رفعتوا_الراس #شكرا_قطر pic.twitter.com/k3w5h9j8o9
— د. تاج السر عثمان (@tajalsserosman) December 18, 2022
الهوية الثقافية.. الرمزية الأهم
على الورق قد يكون المونديال حدثًا رياضيًّا لكنه في حقيقة الأمر أكبر من ذلك، فالحديث عن الفصل بين الرياضة والسياسة والثقافة بات حديثًا أجوف من مضمونه، إذ تحولت مثل تلك الفعاليات إلى مسارح كبرى لتمرير أجندات ثقافية وسياسية في ثوب كروي، وكان مونديال قطر تحديدًا إحدى الساحات الأبرز التي شهدت معارك أيديولوجية طاحنة.
كان الرهان ابتداءً على عدم قدرة قطر على فرض الهوية الثقافية العربية، والخنوع للضغوط والإملاءات المفروضة عليها من القوى الغربية من أجل إنجاح البطولة في ظل الحملة الممنهَجة التي كانت تتعرّض لها، وكانت البداية بالضغط للترويج للمثلية من خلال حمل شارتها من قبل لاعبي بعض المنتخبات.
وهنا كانت الدوحة في مأزق حقيقي، بين مطرقة الرضوخ لتلك الضغوط من أجل استمرار البطولة، خاصة أن بعض الأصوات كانت تلوّح بانسحاب عدد من المنتخبات الكبرى، كألمانيا وإنجلترا، ما كان يعني إفشال المونديال قبل انطلاقه؛ وسندان التمسُّك بالثوابت الثقافية والدينية رغم تبعاتها التي ربما لن تكون في صالح قطر.
اللبس العربي(الغترة والعقال والبشت) جعلت منه السينما والإعلام الغربي نمطية ورمز للتخلف والارهاب
وجاءت قطر في #مونديال_قطر2022
لتجعل منه رمزا لحضارة الفكر والأدب والعلوم والقيم والنجاح
حضارة العرب #شكرا_قطر #شكرا_تميم_بن_حمد
— Hamad Al-Kawari (@alkawari4unesco) December 19, 2022
وعلى عكس كافة التوقعات، نجحت قطر في فرض نمطها الثقافي العربي وفق المبادئ الإسلامية والتمسُّك بالهوية العربية، ولم تقدّم قيد أنملة من تنازل، ولم ترضخ لأحد، تمسّكت بما أعلنت عنه في وجه كافة التحديات والضغوط، حتى عبرت بالبطولة إلى برّ الأمان ووصلت إلى شاطئ الإبهار الذي نال إعجاب الجميع.
وضعت قطر خطة محكمة للدفاع عن الهوية الثقافية، داخل الملعب وخارجه، فالأمر لم يكن مجرد تجريم ارتداء شارة المثلية داخل المستطيل الأخضر، ولا منع طائرات منتخبات بعينها تحمل تلك الشارات، أو رفع شعارات تعبّر عن الهوية العربية في المدرجات، أو فقرات فنية تراثية تضمّنها حفل الافتتاح أو الختام، ولا حتى تصميم الملاعب وفق طرازات معمارية عربية أو إسلامية، إذ جيّشت الدولة الخليجية كافة مؤسساتها لهذا الهدف الأسمى.
خارج الملعب كثّفت المؤسسات الثقافية القطرية من حضورها لنشر الوعي بالثقافة العربية، حيث نظّمت المؤسسة العامة للحيّ الثقافي “كتارا” مئات الفعاليات، منها النسخة الـ 12 من مهرجان كتارا الدولي للمحامل التقليدية، ومهرجان فنون الشارع الذي يقام في جميع أروقتها، ويجمع المئات من فناني العالم لعرض أعمالهم بحرّية كاملة، فيما نظمت متاحف قطر مبادرة “قطر تبدع” للترويج للثقافة الخليجية العربية من خلال نشر 80 مجسمًا في أنحاء قطر.
مكتبة قطر الوطنية كان لها دور كبير في تعزيز هذا الهدف من خلال فعالياتها المستمرة على مدار أيام البطولة، حيث المسابقات بين الأطفال حول الرياضة والثقافة والتاريخ، فيما افتتحت وزارة الثقافة المقر الجديد والدائم لـ”درب الساعي” في أم صلال محمد التراثية، لتعزيز المشاعر الوطنية وتقديم الثقافة القطرية في ثوب عصري متميز.
وحول الملاعب وفي الساحات والأسواق، كانت المجسّمات التي تعرض الهوية الثقافية العربية حاضرة وبقوة، وأصوات الأذان المغرّدة التي كانت تصدح من مآذن المساجد، والتي كانت تأسر قلوب وأسماع المشجعين من مختلف الدول والأديان، كل ذلك أثرى المونديال بسمت ثقافي استطاع أن ينال إعجاب وتقدير الجميع بصورة تحترم الثقافات الأخرى، وتسعى للتقارب بين الشعوب والتفاعل بينها على أسُس الاحترام المتبادل وقبول الآخر.
Expectations vs reality pic.twitter.com/YoRPutFgdg
— الكويس 2.0 (@Kwayes1) December 19, 2022
كأس عالم آخر خارج الملاعب
كأس عالم آخر موازٍ كان يجري خارج استادات المونديال، كانت ملاعبه منازل وساحات المواطنين القطريين، ممّن فتحوها أمام مشجّعي المنتخبات المشاركة، كرم ضيافة وإعاشة شبه كاملة لبعض الأسر، تقديم صورة رائعة عن أخلاقيات العرب ومناقبهم التي غفل عنها الإعلام الغربي عمدًا وجهلًا.
المشاهد الملتقطة لعائلات أرجنتينية وبرازيلية وإنجليزية وأمريكية حلّت ضيوفًا على سكان قطريين أثارت إعجاب الجميع، فالاستقبال الحافل الذي قوبلوا به، والإعجاب بطقوس الحياة العربية، كلها مقومات عززت من الهوية العربية وفنّدت الصورة المشوَّهة عن حياة المواطنين العرب.
هذا بجانب حفاوة الاستقبال في الشوارع والأسواق ومناطق المشجّعين، تهادي الورود والهدايا والابتسامات التي لم تفارق محيا الأطفال والشباب القطري، والتي كان لها وقع السحر في حالة الإبهار والإعجاب التي خيّمت على المشجّعين الذين تفاعلوا مع ذلك بارتداء الغترة والعقال ورفع الأعلام القطرية.
كان واضحًا أن الترويج للثقافة العربية وتصحيح الصورة المغلوطة عن شعوب المنطقة لم يكن هدف القيادة القطرية وحدها، بل كان هدف الشعب القطري كذلك الذي التحم مع قيادته في تحقيق تلك الأهداف التي نجحا سويًا في إنجازها على أكمل وجه، وهو ما كشفته المشاهد التي تناقلتها منصات التواصل الاجتماعي على مدار أيام البطولة.
نجح القطريون في تعزيز رسالة الافتتاح المونديالي بأن التعايُش بين الشعوب المختلفة أمر ممكن دون فرض رؤية محددة على الأخرى، وأن التعاون الثقافي بين مختلف الحضارات ليس شرطًا أن يكون بفرض ثقافة بعينها على بقية الثقافات، وأن احترام ثقافات وتراث الشعوب سمة حضارية يجب أن يتمتع بها الجميع.
وتتويجًا للثقافة العربية التي نجحت قطر في دعمها وترسيخ أركانها، نجح المونديال في خلق أرضية عروبية جماهيرية للتذكير بالقضية الفلسطينية كقضية العرب الأولى والأهم، حيث زاحم العلم الفلسطيني أعلام منتخبات الدول المشاركة في البطولة، وكان الهتاف الفلسطيني هو الأعلى صوتًا والأكثر انتشارًا داخل الملاعب وخارجها، فالرياضة هنا مجال إنعاش حضاري وتعزيز للقضايا الإنسانية أكبر منها منافسات كروية داخل المستطيل الأخضر.
وفي الأخير يلخّص الوزير والدبلوماسي القطري، حمد بن عبد العزيز الكواري، رمزية المونديال ومأثره قائلًا: “إنّ ما قام به كأس العالم هو أعمق ممّا يتصوّره البعض من إحصائيات ومنجزات في المباني لأنه يتعلق بما أسمّيه بـ”تحريك الدافعية” للذاكرة التاريخية، لأنّ هذه الذاكرة هي أحد المحرّكات لتقدم الشعوب، وقد عملت قوى غربية في السابق على تقويضها ولكن مرآة كأس العالم أثبتت أنه لا يُمكن التلاعب بهذه الذاكرة”.
مكملًا: “لذلك تعدّ الجوانب الثقافية لكأس العالم هي الركائز لهذه الذاكرة، ولئن سقطت بعض أجزاء الذاكرة في النسيان لأسباب عديدة، فإنّ كأس العالم أعادت تنشيط ما هو قابع في النسيان أيضًا ليَخرج إلى الحياة من جديد، وهكذا نرى كأس العالم جسرًا جديدًا نحو العالم والتقدّم، وجسرًا جديدًا نحو ذاكرتنا الحضارية حتى لا تظلّ “آفة حارتنا النسيان” كما قال نجيب محفوظ يومًا”.
بعد سنوات من اليوم، قد يجتمع ميسي مع أحفاده، ربما مع أنصاره، يستعيدون سويًا تلك الأيام الخوالي التي حصلوا فيها على بطولة كأس العالم، حينها سيستدعي تلك الصورة التي التقطت له وهو يحمل الكأس مرتديًا البشت العربي، ليبدأ سرد القصة: “هناك دولة عربية اسمها قطر تقع في منطقة الخليج، وكنا هناك ضيوفًا على شعبها الكريم، كانت بطولة هي الأفضل في تاريخ المونديال..”، قد ينتهي ميسي من سرد الحكاية لكن الرواية ممتدة لتتناقلها الأجيال وتوثقها المنصات، لتظل تلك البطولة استثنائية في كل شيء.