خلال الشهور الأخيرة صدر أكثر من تصريح للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يبيّن فيه عن استعداده للقاء نظام بشار الأسد، وذلك ضمن حزمة تصريحات أطلقتها الإدارة التركية بكافة مستوياتها في سياق المحاولات التركية لتطبيع العلاقات مع النظام في دمشق، في خطوة فسرها البعض على أنها وسيلة لكسب أصوات الناخبين الأتراك (تحديدًا الفئة المستاءة من اللاجئين السوريين في البلاد) في انتخابات 2023 القادمة، فيما رآها آخرون أنها عودة إلى عهد “صفر مشاكل” في السياسة الخارجية التركية.
عرّف أردوغان هذه الخطوات بإيجاز عندما قال: “لا خلاف أبديّا في السياسة”، خاصة بعد أن أنهى خلافاته السياسية مع الإمارات والسعودية، وأيضًا بعد أن عبر أكثر من مرة عن احتمالية التقارب مع نظام عبد الفتاح السيسي الذي كان يعتبره “انقلابيًّا ولا يمكن وضع يدنا في يده” على حدّ وصفه، واتضحت ملامح هذه السياسة عندما التقى أردوغان بالسيسي في الدوحة على هامش افتتاح مونديال قطر منذ شهر تقريبًا، في خطوة هي الأولى من نوعها بعد عداء طويل.
مصالح لا خصومات
منذ أيام، أعلن أردوغان أنه عرض على الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إجراء لقاء ثلاثي على مستوى الزعماء يضمّ بشار الأسد، وقال إنه اعتبارًا من الآن “نريد أن نتخذ خطوة كثلاثي سوريا وتركيا وروسيا”، وأضاف أنه يجب أن تتحد الاستخبارات أولًا، ليجتمع بعدها وزراء الدفاع، ثم وزراء الخارجية، وعقب ذلك القادة، موضحًا أن بوتين نظر إلى هذا العرض بـ”إيجابية”، مؤكدًا بدء سلسلة من المفاوضات.
وتحدّث أردوغان عن إمكانية عقد لقاء مع النظام السوري بشار الأسد، قائلًا: “من الممكن أن يحدث لقاء مع بشار الأسد”، مردفًا: “في السياسة ليس هناك استياء وتحفُّظ، عاجلًا أم آجلًا سنتخذ خطواتنا”، وقبل ذلك أشار الرئيس التركي إلى أن بلاده قد تعيد تقييم علاقاتها مع النظام السوري بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرر إجراؤها في يونيو/ حزيران المقبل.
لكن بعض الصحف التركية أوردت أنه من المتوقع إجراء لقاء قريب بين أردوغان ورئيس النظام السوري قبل بداية الانتخابات التركية، وأكّدت صحيفة “حرييت” التركية على أن المحادثات بين أنقرة والنظام السوري صعدت إلى مستويات أعلى من سابقتها، وأصبحت مباشرة دون وساطة روسية أو إيرانية، حيث كانت تعتمد المفاوضات فيما مضى على الأجهزة الاستخباراتية لكلا الطرفَين.
في الطرف المقابل، يمانع النظام السوري قبول التقارب التركي، وبحسب “رويترز” فإن النظام السوري يقاوم الطلبات الروسية الموجّهة للأسد لقبول لقاء أردوغان، وأفادت الوكالة عن مصادر أن بشار الأسد رفض اقتراحًا لمقابلة أردوغان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وذلك لاعتقاده بأن مثل هذا الاجتماع “قد يعزز موقف الرئيس التركي قبل الانتخابات في العام المقبل، خاصة إذا تناول هدف أنقرة بإعادة بعض من 3.6 ملايين لاجئ سوري من تركيا”.
وقالت المصادر إن النظام السوري ينظر إلى الموضوع من زاوية: “لماذا نمنح أردوغان نصرًا مجانيًّا؟ لن يحدث أي تقارب قبل الانتخابات”، إضافة إلى أن النظام رفض أيضًا فكرة عقد اجتماع لوزيرَي الخارجية، كما يرى النظام “أن هذا الاجتماع عديم الجدوى إذا لم يأتِ بشيء ملموس”، وما يطالبون به الآن هو “الانسحاب الكامل للقوات التركية”.
تحاول روسيا منذ سنوات العمل على تحسين العلاقات بين تركيا والنظام السوري، لكن ذلك لم يكن متاحًا بسبب المعارك الدائرة، لكن الظروف الحالية في تركيا تسمح لروسيا العمل على محاولة تطبيع العلاقات بين الطرفَين، إذ قالت الخارجية الروسية إن موسكو تجري اتصالات مع دمشق بشأن اقتراح أردوغان عقد لقاء مع الأسد، وبحسب نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، فإن موسكو تنظر بإيجابية كبيرة بشأن فكرة الرئيس التركي عقد اجتماع لقادة تركيا وسوريا وروسيا، وتنظر روسيا إلى فكرة أردوغان على “أنها إيجابية للغاية”، مضيفًا أن روسيا تجري “الآن اتصالات مع الأصدقاء السوريين”.
بدوره أوضح مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، أن “روسيا مستعدة للتوسُّط في تنظيم المفاوضات بين سوريا وتركيا على مستويات مختلفة، وعلى استعداد لتوفير منصة للقاء أردوغان والأسد”، مشيرًا إلى أن “بوتين حدد قضية التقارب التركي-السوري وتطبيع العلاقات كأولوية”، مؤكدًا أن “تسوية الصراع السوري نفسه تعتمد إلى حدّ كبير على هذا الأمر”، وأبدى لافرنتييف استعداد بلاده “لتقديم كل الدعم الممكن لتنظيم مثل هذه المفاوضات، إذا كانت هناك رغبة مشتركة بين الجانبَين”.
في السياق، يرى الكاتب والصحفي التركي، ليفنت كمال، أنه رغم كل التصريحات إلا أن “تطورًا حقيقيًّا لم يحصل في الوقت الحالي”، ويكمل كمال: “نعم روسيا تتوسّط لكن من ناحية أخرى تستمر تركيا ونظام الأسد في روتينهما الخاص، وكان تصريح بوغدانوف علامة على أن موسكو بدأت مفاوضات لإقناع دمشق بالتخلي عن مطالبها المتطرفة”.
هل يحصل اللقاء؟
يشير كمال في حديثه لـ”نون بوست” إلى أنه في الوقت الحالي يبدو أن “نظام الأسد لديه مطالب من تركيا، وهذه المطالب ستوقف معركة تركيا ضد وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني، وهذا غير مقبول بالنسبة إلى أنقرة”.
ويلفت كمال إلى أن “الرئيس أردوغان قال إنه يجب أولًا عقد اجتماعات على المستوى الاستخباراتي والوزاري، ومن هنا نرى أن هذه العملية ليست بهذه البساطة”، ومن وجهة نظر كمال فإن “الاجتماع لا يبدو ممكنًا في المستقبل القريب”، وإذا تحقق “سيكون عبارة عن صورة فقط وخاليًا من المحتوى”.
الباحث في الشؤون الدولية، محمود علوش، قال لـ”نون بوست” إن “هناك آلية ثلاثية اقترحها أردوغان مع موسكو ودمشق لتسريع المسار الدبلوماسي، وتكمن أهمية المقترح في أنه رسم خارطة طريق عملية تدريجية تبدأ من عقد اجتماعات ثلاثية على مستوى أجهزة الاستخبارات، تليها اجتماعات على مستوى وزراء الدفاع ثم وزراء الخارجية، وصولًا إلى عقد قمة ثلاثية”.
لكن علوش يرى أن “الظروف الحالية لا تُساعد بأي حال من الأحوال في جمع أردوغان والأسد على طاولة واحدة، كما أن إعادة العلاقات تتطلب التغلُّب على كثير من التفاصيل الصعبة والمعقّدة، بما في ذلك طبيعة المرحلة الجديدة وحدود التعاون المحتمل في الجانب الأمني وقضية اللاجئين”، مضيفًا أن “الأهم من ذلك كله مستقبل الوجود العسكري التركي في شمال سوريا. مع ذلك، يُمكن للآلية الثلاثية المقترَحة أن تعمل على تفكيك هذه العُقد بشكل تدريجي وتؤسّس لبيئة سياسية مناسبة لإعادة العلاقات”.
صفر مشاكل وكسب للانتخابات
يرى البعض أن تحرُّك أردوغان تجاه الأسد هو محاولة لخطف هذه الورقة الانتخابية من يد المعارضة، التي تضع في سُلَّم أولوياتها اللقاء مع الأسد من أجل حل مشكلة اللاجئين، وفي هذا السياق يذكر الصحفي ليفنت كمال أن “لقاء الأسد لن يؤثر على أصوات الناخبين التي يريدها أردوغان كما يفترض”، ويشير إلى أن ذلك قد يقلب الطاولة عليه، “وقد تكون هناك خسارة كبيرة في أصوات الشريحة الإسلامية”.
وينوّه كمال إلى أنه “من الصعب القول إن تحرك أردوغان للقاء الأسد مرتبط بالانتخابات، إذ إن البيئة السياسية ليست مناسبة للتغيير الجذري حاليًّا”، خاصة أن تركيا تتبنّى قرار الأمم المتحدة رقم 2254 في كل فرصة، وهي تدعم المعارضة في جنيف وأستانا. مشيرًا إلى أنه “من الصعب جدًّا إجراء تغيير جذري مع نظام الأسد، خاصة أن وجود عامل آخر هو التعاون بين نظام الأسد وYPG-PKK، من دون تغيير هذا الوضع، من المستحيل على أنقرة أن تبدأ من الصفر مع الأسد”.
الباحث محمود علوش يوافق ليفنت كمال فيما ذكر، ويضيف إلى ذلك أنه “في الوقت الراهن، لا يُبدي الأسد أية مرونة في الانفتاح على أردوغان لاعتبارات عديدة، على رأسها تلك المرتبطة بالسياسة الداخلية التركية والحسابات الانتخابية، ويعتقد أن المصالحة مع تركيا بقيادة أو تنسيق المعارضة التركية على وجه التحديد أكثر فائدة من تحقيقها مع أردوغان”.
في ضوء ذلك، فإنه “من غير المرجّح أن نشهد تحوّلًا كبيرًا في مسار العلاقات قبل الانتخابات، لكنّ الآلية الثلاثية المقترحة، في حال وافق عليها النظام، يمكن أن تؤدي إلى تفاهمات جزئية بين الجانبَين على التعاون في مكافحة مشروع الحكم الذاتي للوحدات الكردية، وفي إعادة بعض اللاجئين السوريين في تركيا إلى بلدهم، دون أن تصل إلى حدّ إعادة العلاقات الدبلوماسية”.
وبحسب علوش، فإن “مثل هذه التفاهمات المحتملة تشكّل مصلحة للأسد وأردوغان على حد سواء”، فمن جانب سيُجبر “أردوغان على التخلي عن خيار العملية العسكرية البرّية ضد الوحدات الكردية، والشروع بدلًا من ذلك في تنسيق أمني مع النظام لإعادة سيطرته إلى المناطق التي تُديرها الوحدات، لا سيما تلك التي حددتها أنقرة هدفًا للعملية المحتملة، وهي تل رفعت ومنبج وعين العرب/ كوباني”.
ومن جانب آخر، “سيحصل أردوغان على دعم ثنائي من موسكو ودمشق لمشروع المنطقة العازلة على الحدود بعمق 30 كيلومترًا، كما أن تعاونًا محتمَلًا في إعادة اللاجئين يساعد أردوغان على الحد من تداعيات هذه القضية على وضعه الداخلي، وتحويلها إلى ورقة انتخابية رابحة”.
بالمحصلة، إن هناك تحولًا جذريًّا في السياسة التركية في سوريا، وهذا التحول بدأ عمليًّا منذ عام 2016 وتبلور وصولًا إلى الانعطافة تجاه الأسد؛ هذا التحول فرضته عوامل عديدة منها ما هو مرتبط بمسار الحرب التي نجح الأسد في عكسها لصالحه، ومنها ما هو مرتبط بالهاجس الأمني المتعلق بالوحدات الكردية، وأخرى تتعلق بقضية اللاجئين، وربما سرّع العامل الانتخابي من وتيرة التحول التركي لكنه قائم بالأساس.