لا يخفى على اثنين أن فلسطين التاريخية الممتدة على مساحة 27 ألف كيلومتر مربع، توالت عليها الحضارات المختلفة والإمبراطوريات، ليس بدءًا بموقعها الجغرافي، وليس انتهاءً بمكانتها الدينية في الديانات السماوية الثلاثة، حتى كانت في فترات عاصمة الإمبراطوريات المسيحية والإسلامية، ومع توالي الوافدين على فلسطين خلفوا وراءهم آثارًا وشواهد دلّت على أنهم حضروا المكان واستوطنوا فيه.
وبحسب وثائق الانتداب البريطاني، بلغ عدد المواقع الأثرية في فلسطين 35 ألف موقع، تتنوع من مدن وقرى وكهوف ومساجد وكنائس وأبراج ومواقع عسكرية، إلا أن هذه المواقع انخفض عددها بشكلٍ ملموس، وبطبيعة الحال وبينما تكون الآثار دول العالم مهددة للنهب من سماسرة الآثار، فإن فلسطين وخصوصية قضيتها أضافت إلى معضلة الآثار العالمية معضلة الاحتلال الإسرائيلي، الذي يُعد أهم سارقي الآثار الفلسطينية.
الاحتلال الإسرائيلي.. أن تسرق أكثر
ضمّت الضفة الغربية 12 ألفًا و32 موقعًا ومعلمًا أثريًا، وقطاع غزة 184 موقعًا ومعلمًا، وبعد نكسة عام 1967، وما تلاها من احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، انخفض عدد المواقع والمعالم إلى 6 آلاف و963 موقعًا أثريًّا، تزامن معها 171 عملية حفر نفّذها الاحتلال الإسرائيلي في مواقع الضفة الغربية، و90 عملية حفر وتنقيب عن آثار في مدينة القدس المحتلة وحدها، بعد النكسة وحتى عام 1998.
موشيه دايان، وزير دفاع الاحتلال خلال حرب عام 1967، كان عرّاب سرقة القطع الأثرية الفلسطينية، حتى قبل تولّيه وزارة الدفاع، إذ أحصى عالم الآثار راز كليتر 35 موقعًا أثريًّا سرقه دايان ورفاقه في الأراضي المحتلة عام 1948.
وعلى مدار 3 عقود (1951-1981)، جمع دايان أكثر من 800 قطعة أثرية يعود الكثير منها إلى آلاف السنين، بدءًا من قطع أثرية تعود إلى 7 آلاف سنة قبل الميلاد، وحتى فترة ما يعرَف بـ”تدمير الهيكل الأول” في العام 685 قبل الميلاد، واشتملت هذه المجموعة على قطع فخارية وخزفية، وأوانٍ قديمة، وتماثيل، وتوابيت وغيرها.
وفي عام 1992، افتتح الاحتلال الإسرائيلي متحف “بلاد الكتاب المقدس”، بعد تشييده على أراضي قرية لفتا المقدسية المهجّرة عام 1948، عرض هذا المتحف قطعًا أثرية من أوانٍ فخارية وسُرج وجرار تعود للعصور الحديدي والبرونزي الأول والثاني والثالث، بالإضافة إلى قطع تعود للقرنَين السادس والسابع الميلاديَّين.
وبشكلٍ مؤسف، ساهمت اتفاقية أوسلو التي وقّعتها منظمة التحرير الفلسطينية و”إسرائيل” عام 1993، في تخلي السلطة الفلسطينية بشكلٍ ضمني عن أكثر من نصف الآثار الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث يقع 60% منها في المناطق المصنفة “ج”، أي تلك التي تخضع لسيطرة أمنية وإدارية إسرائيلية كاملة، والتي تضم نحو 7 آلاف موقع و50 ألف مبنى تاريخي.
وفي الوقت الذي يفرض فيه القانون الدولي على الدولة المحتلة حماية الموروث الثقافي والمواقع الأثرية للدولة الخاضعة للاحتلال، أجّلت اتفاقية أوسلو موضوع الآثار إلى ملف الحل النهائي المفترض أن يجني ثماره من المفاوضات المتوقفة منذ سنوات، والتي أدار فيها الاحتلال ظهره للسلطة الفلسطينية وحوّلها إلى وظيفة أمن واقتصاد بدلًا من الخوض في الملف النهائي.
جدار الفصل العنصري.. سرقَ الآثار أثناء مروره
استخدمت سلطات الاحتلال جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية كإحدى الوسائل لمصادرة الآثار الفلسطينية في الضفة الغربية، وهو ما أكّده أحد قيادات الاحتلال عام 2003، أي أثناء عملية التخطيط الهيكلي لمسار الجدار، بقوله: “إن إجراء تغييرات في مسار الجدار هو أمر محتمل لأسباب عديدة، منها على سبيل المثال عوامل ذات صلة بالآثار”، حيث تمَّ اكتشاف مواقع أثرية ضمن مسار الجدار المقترح، ليتمَّ إعادة تخطيطه بما يسمح أن يكون الجدار ضمن المناطق المحتلة.
وكان ابتلاع الجدار لمناطق الآثار يتم بـ 3 طرق أحصاها الباحث عادل يحيى عبر مؤسسة الدراسات الفلسطينية:
أولًا: تغيير مسار الجدار لـ”تجنُّب تدمير المواقع الأثرية”، ما شكّل دخول الجدار بشكلٍ أكبر في أراضي الضفة الغربية، وهو ما يتسبّب بمصادرة المزيد من الأراضي.
ثانيًا: عزل الكثير من المواقع التاريخية والأثرية عن محيطها الطبيعي وضمّها إلى “إسرائيل”، ومن أحد أكثر الأمثلة وضوحًا على هذه السياسة، أي مصادرة الأرض والمعالم التاريخية لأسباب أثرية، هو قبر راحيل في بيت لحم، حيث جرى تعديل مسار الجدار عن عمد لعزل هذا المقام وكذلك المقبرة الإسلامية التابعة له عن بيت لحم كليًّا، وصار محظورًا على الفلسطينيين دخول هذا الموقع أو حتى الوصول إليه.
ثالثًا: نظمت سلطات الاحتلال في بعض الحالات عمليات تنقيب سريعة في المواقع الأثرية المكتشفة على مسار الجدار، وخصوصًا المواقع الأقل أهمية من وجهة نظر إسرائيلية لنهب محتوياتها ونقلها إلى “إسرائيل”، وكانت هذه الحفريات تنظَّم من خلال دائرة الآثار التابعة لما يسمّى الإدارة المدنية للاحتلال في الضفة الغربية، والتي هي طبعًا جزء من وزارة دفاع الاحتلال.
وعندما كانت سلطات الاحتلال تعجز عن حفر بعض المواقع الأثرية الواقعة على مسار جدار الفصل بفعل ضغط الوقت، وعدم توفر الإمكانات المالية والبشرية، تتم تغطية هذه المواقع بطبقة سميكة من الرمل، ثم يُبنى الجدار فوقها مباشرة، للعودة إليها في وقتٍ لاحق، كما هو الحال مع العديد من المواقع في منطقة “ب”.
وحتى هذه الحفريات التي نفّذها الاحتلال الإسرائيلي ألحقت مزيدًا من الضرر بالآثار، لأنها كانت تنفّذ من عمّال عرب بإشراف طلبة الآثار غير المؤهّلين في الجامعات العبرية، بهدف إسراع عملية الحفر واستخراج الآثار من جوف الأرض ونقلها إلى “إسرائيل”، قبل تشييد الجدار فوق المواقع التي تحتويها.
إلى جانب الانتهاكات الإسرائيلية، توثّق تقارير وزارة السياحة والآثار الفلسطينية منع أي محاولة فلسطينية لإعادة تأهيل المواقع الأثرية وترميمها، بحيث لا تستطيع وزارة السياحة والآثار فرض الحماية الكاملة على الآثار من السماسرة والمنقّبين الذين يقومون بتهريب بعض هذه القطع الأثرية خارج فلسطين، كون هذه العمليات تتم في مناطق لا تخضع للسيطرة الفلسطينية، وذلك بناء على توجيهات سلطات الاحتلال.
وشهدت مناطق الضفة الغربية موجات من التنقيب غير المشروع عن الآثار، ويقدّر خبراء عدد القطع الأثرية المهرّبة سنويًّا من فلسطين المحتلة بنحو 200 ألف قطعة بما يشمل النقود الأثرية.
وتزداد عمليات النهب وسرقة الآثار مع تردي الأوضاع الاقتصادي -كحال معظم سرقات الآثار في الدول النامية-، فإبّان الانتفاضة الأولى وحرب الخليج، قدّرت سلطتا الآثار الفلسطينية والاحتلال ارتفاعًا بقدر 300% من حالات نهب الآثار وبيعها، ويشكّل جامعو الآثار الإسرائيليون والأجانب الهواة حوالي 90% من ناهبي الآثار الفلسطينية وسارقيها.
تتراوح عقوبة تجّار الآثار، وفق القانون الفلسطيني، بين 3 و10 سنوات وغرامة مالية تصل إلى 130 ألف دولار، وفي عام 2018 صدر قانون فلسطيني جديد يعتبر كل ما هو قبل عام 1917 جزءًا أساسيًّا من التراث الثقافي الفلسطيني، كما وقّعت فلسطين على عدد من الاتفاقيات الدولية ذات الصلة.