واجهت إيران خلال عام 2022 العديد من التحديات الداخلية والخارجية، التي رسمت بدورها المشهد السياسي الحالي، ومن المرجّح أن تكون حاضرةً في العام 2023، إذ أدّت الوتيرة المستمرة التي سار عليها النظام السياسي في إيران، إلى تواصل هذه التحديات.
فمنذ نجاح الثورة الإسلامية عام 1979 وحتى اللحظة، ما زالت إيران تواجه الملفات ذاتها التي حرص النظام على تحويلها إلى مداخل أيديولوجية من أجل ترسيخ شرعيته، الذي أصبح إلى جانب مؤسسات أخرى يواجه تحدي الوجود، وذلك نظرًا إلى الطبيعة المعقّدة والجامدة التي يقوم عليها.
فعلى المستوى الداخلي، واجهت إيران منذ مطلع العام الجاري عدة ملفات بمستويات مختلفة، سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية، فعلى المستوى السياسي، مع استمرار عدم استقرار الحالة الصحية للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، أخذت قضية خلافته تثير العديد من الحساسيات في الداخل الإيراني، وتحديدًا حول ماهية المرشح الذي سيخلفه، وارتبط بهذه الحالة تصاعد حالة “الإقصاء السياسي” داخل مؤسسات النظام، ما أثار بدوره الهويات الفرعية غير الفارسية، والتي بدأت تطالب بمزيد من الاستحقاقات السياسية.
أما على صعيد الملف الاقتصادي، فقد أدّى استمرار عقوبات الضغوط القصوى الأمريكية، بعد 4 سنوات تقريبًا على انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في مايو/ أيار 2018، إلى مزيد من الاستنزافات الاقتصادية التي عانت منها إيران، وتحديدًا على مستوى ارتفاع نسب التضخم والبطالة، ورفع الدعم الحكومي، إلى جانب فقدان العملة الإيرانية لـ 60% من قيمتها النقدية أمام الدولار الأمريكي، ما أدّى إلى انخفاض القوة الشرائية للمواطن الإيراني.
في حين كان الملف الاجتماعي أكثر الملفات حضورًا خلال العام الجاري، فإلى جانب تصاعد المطالبات بمزيد من الحريات السياسية في إيران، والتي قابلتها حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي بمزيد من التشدد، جاءت قضية إلزامية الحجاب التي تُرجمت على شكل احتجاجات شعبية على خلفية مقتل المواطنة الكردية الإيرانية مهسا أميني، بعد تعنيفها من قبل شرطة الأخلاق الإيرانية، لتمثل مدخلًا مهمًّا لترجمة جميع المظالم الاجتماعية على شكل حراك شعبي يرفع شعارات سياسية تطالب بإسقاط النظام.
وبدوره لم يكن الملف الأمني بعيدًا عن الأحداث خلال هذا العام، فرغم السطوة الأمنية التي رسّخها الحرس الثوري في الداخل الإيراني، إلّا أن إيران شهدت خلال هذا العام العديد من الخروقات الأمنية والاستخباراتية، سواء على صعيد الاستهداف المستمر للمنشآت والمواقع النووية الإيرانية، أو على مستوى الاغتيالات المستمرة التي طالت العديد من العناصر الأمنية العاملة في برامج الصناعات الدفاعية الخاصة بتطوير الصواريخ البالستية والطائرات المسيَّرة، فضلًا عن التغيرات المستمرة داخل الأجهزة الاستخباراتية الإيرانية، ما كشف بدوره عمق الأزمة الأمنية التي واجهتها إيران هذا العام.
أما على المستوى الخارجي، فقد وجدت إيران نفسها أمام عدة ملفات ساهمت في بروزها البيئة المحيطة بها، إلى جانب تلك التي أنتجتها أدوارها في المنطقة، فعلى صعيد العلاقات الأمريكية الإيرانية لم تشهد أي تطور جديد، رغم 8 جولات من محادثات فيينا الهادفة لإعادة إحياء الاتفاق النووي، كما استمرت التوترات بين إيران وأذربيجان على خلفية نجاحها في استرداد إقليم ناغورنو قرباخ عام 2020، إلى جانب خلافات مماثلة مع حركة طالبان في أفغانستان.
وفي الصعيد ذاته أيضًا، شهد العام الجاري قيام إيران بشنّ هجمات صاروخية على إقليم كردستان العراق، بحجّة ملاحقة عناصر المعارضة الكردية الإيرانية التي تتهمها طهران بدعم الاحتجاجات في الداخل الإيراني، إلى جانب انغماسها الكبير في الحرب الأوكرانية، عبر الدعم العسكري والاستشاري الذي قدّمته لروسيا.
كما شهد هذا العام استمرار الهجمات الإسرائيلية على المواقع التي تتواجد فيها القوات الإيرانية في سوريا، إلى جانب توقُّف جولات الحوار الإقليمي مع السعودية في بغداد، وبروز الدعوات التي تطالب بإعادة تقييم العلاقات مع الصين، على خلفية القمة العربية الصينية التي عُقدت في الرياض مؤخرًا.
يحاول هذا التقرير رصد أبرز الملفات التي واجهتها إيران خلال العام 2022، والكيفية التي تعاطت بها طهران معها، والدور الذي يمكن أن تؤديه تلك الملفات في تشكيل أحداث عام 2023.
الملفات الداخلية
شكّلت الملفات الداخلية العنوان الرئيسي في الحدث الإيراني لهذا العام، وهو ما أجبر إيران على تسكين العديد من الملفات الخارجية، من أجل معالجة التحدي الداخلي الذي بدأ يواجهه النظام، إذ برزت العديد من الملفات الداخلية على السطح، وعلى مستويات عديدة، أهمها:
الملف السياسي
1. أزمة الخلافة
إلى جانب التداعيات السياسية التي يمكن أن تفرضها وفاة المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في أي لحظة، فإن الخشية تزداد يومًا بعد آخر، بسبب حالة عدم اليقين التي تمرّ بها إيران اليوم، إذ لم تتضح حتى اللحظة ملامح المشهد القادم في إيران، ومن هو المرشح الأوفر حظًّا لخلافة خامنئي، حيث إن الظروف التي تمرّ بها إيران اليوم تختلف عن الظروف التي ترافقت مع وفاة الخميني مؤسّس الجمهورية الإسلامية، سواء على مستوى التحديات الداخلية أو الخارجية، أو على مستوى شرعية النظام السياسي.
إذ من المتوقع أن تكون هناك تقاليد سياسية ستلعب دورها في حالة خلوّ منصب المرشد الأعلى، فإيران كغيرها من الدول التي تحكمها أنظمة استبدادية، سيؤدي فيها القائد والنخبة السياسية دورًا مهمًّا في عملية الانتقال السياسي، خصوصًا أن هناك تداخلًا مهمًّا بين مؤسسات النظام، من حيث العلاقة الزبائنية ووحدة المصير، إذ تلعب العديد من المؤسسات الإيرانية دورًا مهمًّا في تهيئة الأرضية الملائمة للمرشد القادم، حتى لو توفي خامنئي دون أن يحدد بديلًا له، وأبرزها مكتب المرشد الأعلى والحرس الثوري والمؤسسات الاقتصادية والدينية.
وفيما يتعلق بأبرز المرشحين لخلافته، فإلى جانب كل من إبراهيم رئيسي ومجتبى خامنئي، تُطرح أسماء أخرى أبرزها صادق لاريجاني رئيس السلطة القضائية السابق، إلى جانب حسن الخميني نجل الخميني، بالإضافة إلى حسن روحاني ومحمد خاتمي، إلّا أن جميع هذه الأسماء لا تحظى بذلك الحيز الكبير من العلاقات القوية مع باقي مؤسسات النظام، كما أن أغلبها شخصيات محسوبة على التيار الإصلاحي، ما قد يجعلها خارج دائرة المنافسة بشكل كبير.
وبالتالي، إن الاسم الذي يمكن أن ينافس مجتبى على خلافة خامنئي، هو رئيسي بصورة كبيرة، ولكن طبيعة المفاضلة بينهما ستكون خاضعة لمتغيرات عديدة، أبرزها تأييد مكتب المرشد لأي منهما، إلى جانب طبيعة علاقة كل منهما بالحرس الثوري، ورغم أن الواقع الإيراني يشهد اليوم تضخيمًا لصورة مجتبى على حساب رئيسي، وتحديدًا على مستوى وسائل الإعلام، إلّا أن التحدي الأبرز يكمن في مدى قدرة خامنئي المضيّ قدمًا نحو عملية التوريث، وتعيين مجتبى خلفًا له.
إجمالًا، يمكن القول إن رفض خامنئي حتى اللحظة تعيين خليفة له، يأتي في سياق ترك الأمور تذهب إلى تعيين مجلس قيادة مؤقت في حالة وفاته أو عجزه، ومن ثم المراهنة على العلاقات الوثيقة التي نسجها مجتبى مع باقي مراكز القوى في إيران، وتحديدًا الحرس الثوري.
إذ يخشى خامنئي من مسألة توريث مجتبى بالوقت الحالي، خشية أن يتمّ تفسير خطوته على أنها تمثل انقلابًا على مبادئ الثورة الإسلامية ورؤية الخميني، الذي كبح جماح ابنه أحمد الخميني الذي كان يتطلع إلى شغل مكانه، وترك الأمور تذهب لمجلس خبراء القيادة، والأكثر من ذلك قد تؤدي خطوة خامنئي إلى ضرب شرعية النظام السياسي، الذي أصبح اليوم يواجه أزمة شرعية تتصاعد يومًا بعد الآخر، وقد تتصاعد بصورة أكبر بعد وفاة خامنئي بأي لحظة.
2. تصدُّع هيكل النظام
أشارت الاحتجاجات الأخيرة التي تشهدها إيران على خلفية قضية إلزامية الحجاب، إلى بروز تحدٍّ آخر يعيشه النظام، إلى جانب تحدي الخلافة، وهو تحدي تصدُّع هياكل النظام، إذ أشارت عملية عدم انصياع العديد من العناصر الأمنية للأوامر المتعلقة بقمع الاحتجاجات، إلى حالة تفكُّك بدأت تتّسع يومًا بعد آخر على مستوى الأجهزة الأمنية، حتى بدأت العديد من العناصر الأمنية الإيرانية تطرح تساؤلًا حول “من أجل ماذا وهذه الحكومة فاسدة من أعلى إلى أسفل؟”.
وليس هذا فحسب، بل شهد هذا العام عملية إقصاء ممنهَجة قادها خامنئي ونجله مجتبى على مستوى الأجهزة السياسية والأمنية في البلاد، في ما يبدو تحضيرًا مسبقًا لأي وفاة مفاجئة لخامنئي، عبر المجيء بشخصيات أكثر وفاءً للنظام، كما حصل مع هيكلية مجلس تشخيص مصلحة النظام وهيكلية جهاز استخبارات الحرس الثوري والقيادة العسكرية المسؤولة عن أمن طهران، فضلًا عن ذلك ومع تصاعد واستمرار الاحتجاجات المناهضة للنظام، بدأت العديد من الأصوات المرتبطة بالنظام تنتقد سلوكه، إلى جانب توجيهها سهام النقد لخامنئي مباشرة.
وتأتي هذه الانتقادات من شخصيات ذات ثقل كبير داخل النظام، إذ أعرب الرئيس الإيراني الأسبق، محمد خاتمي، عن تأييده الحركة الاحتجاجية، ووصف الرئيس الأسبق، البالغ 79 عامًا، شعار “امرأة… حياة… حرية” (أبرز هتاف يردّده المحتجون) بأنه “رسالة رائعة تعكس التحرك باتجاه مستقبل أفضل”، وقال في بيان له عشية إحياء مناسبة “يوم الطالب”: “يجب ألّا يتمّ وضع الحرية والأمن كل في مواجهة الآخر”، وأضاف: “يجب ألا يُداس على الحرية من أجل المحافظة على الأمن… وينبغي عدم تجاهل الأمن باسم الحرية”.
3. تصاعُد أزمة الهويات الفرعية
بالتوافق مع تعدد المظالم الاجتماعية التي وجدت طريقها إلى الاحتجاجات الأخيرة، برزت قضية تهميش الهويات الفرعية، العرقية والدينية، كتحدٍّ مهم واجهه النظام السياسي في إيران هذا العام، وتحديدًا في أقاليم الأهواز وسيستان بلوشستان والأكراد.
ففي سبتمبر/ أيلول الماضي، وبعد خطبة ألقاها عبد الحميد مولوي، إمام أهل السنّة في محافظة سيستان بلوشستان، خرج المتظاهرون إلى الشوارع، وفُتحت عليهم قوات الأمن الإيرانية النار، وأوقعت بينهم عشرات القتلى في ما عُرف باسم “الجمعة الدامية”، وفي خطبه اللاحقة طالب الإمام بتقديم المسؤولين عن قتل المحتجين في زاهدان إلى العدالة.
ولفت عبد الحميد إلى أن المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، شدد على ضرورة تهميشه وتشويه سمعته، وتابع إمام أهل السنّة في إيران: “لقد سئمنا التمييز والضغوط والفقر بعد 44 عامًا (…) لا تسجنونا، ولا تضربوا الناس، الشعب جائع، اجلسوا معهم واسمعوا كلامهم”، ووجّه عبد الحميد كلمته إلى كبار المسؤولين الإيرانيين، قائلًا إن “الشعب هو الذي يقودني أنا وأنت إلى زمام الحكم”، مردفًا: “يجب على الحاكم أن يعترف بأخطائه ويحلّ القضايا عبر الحوار والمنطق، وإلا فإن قتل وضرب الناس واتهامهم بالحرابة لن يعالج المشاكل”.
إن تصاعد حدة الأزمة بين الهويات الفرعية غير الفارسية والنظام هذا العام، كشف عنه امتداد حدة الاحتجاجات إلى أغلب الأقاليم التي تقطنها قوميات غير فارسية، وهي لحظة سياسية بدأ يدرك فيها النظام أن التركيز على القبضة الأمنية سيكلّفه الكثير، وهو ما ترجمته المواجهات المسلحة التي انطلقت في أغلب هذه الأقاليم، والتي أوقعت العديد من القتلى والجرحى في صفوف عناصر الباسيج والحرس الثوري، ما دفع النظام إلى إجراء تغييرات عديدة على مستوى القيادات الأمنية في هذه الأقاليم، للتخفيف من حدة الاحتقان السياسي فيها.
فإلى جانب قضية إلزامية الحجاب، عمل النظام السياسي في إيران على تفريس هذه الأقاليم ثقافيًّا واجتماعيًّا، بتغيير الأسماء العربية للمدن والقرى والأنهار إلى أسماء فارسية، كما اعتمد سياسة التهميش والإقصاء على مستوى التمثيل السياسي والتنمية، ويضاف إلى ذلك التهجير والتغيير الديموغرافي عبر تقليص مساحة المحافظات التي تقطنها قوميات غير فارسية، وإلحاق أجزاء منها بالمحافظات الفارسية، وهو ما أوجد بدوره أكثر من سبب لالتحاق هذه الأقاليم بالاحتجاجات الأخيرة التي تشهدها إيران، للحصول على فرصة أكبر لترجمة هذا التمايز الهوياتي مع النظام إلى واقع ملموس.
الملف الاقتصادي
رغم البرامج الاقتصادية التي طبّقتها حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي، من أجل مواجهة تداعيات استمرار عقوبات الضغوط القصوى الأمريكية، إلّا أن الواقع الاقتصادي الإيراني لم يشهد تغيُّرًا كبيرًا هذا العام، وبحسب تقارير إعلامية إيرانية محلية، فإن “الجراحة الاقتصادية” في إيران على طريقة حكومة رئيسي، دفعت المريض إلى حافة الموت.
وفي هذا السياق، أعلن مركز الإحصاء الإيراني في آخر تقرير له بتاريخ 26 يونيو/ حزيران الماضي، أن معدل التضخم في البلاد في الفترة من 22 مايو/ أيار إلى 21 يونيو/ حزيران 2022 بلغ حوالي 12%، بينما كانت حكومة رئيسي قد توقعت أن يكون معدل التضخم نحو 8%.
وتفيد التقارير بأن أسعار المواد الغذائية ارتفعت بنسبة 80% في إيران خلال 3 أشهر فقط، والحكومة لم يبقَ أمامها إلا الكوبونات، وبرّر الرئيس الإيراني ذلك بالقول: “في أوروبا أيضًا يقدمون كوبونات”.
إلى ذلك، ارتفع سعر الزيوت بنسبة 208%، وهي الأعلى مقارنة بسائر السلع، كما ارتفعت أسعار منتجات الألبان والبيض والدواجن بنسبة 46%، والفواكه والخضرَوات 11%، والسكّر والحلويات والشوكولاتة 16%، أما بخصوص مواد الغسيل والتعبئة ومعجون الطماطم والتونة والنقل والمطاعم، فقد ارتفعت الأسعار من 10% إلى 35% للمستهلكين.
قال موقع “إيران انترناشيونال” إن الأزمة الاقتصادية في إيران قد تتحول إلى فوضى، بعد وصول العملة الإيرانية إلى أدنى مستوى تاريخي مقابل الدولار الأمريكي، وهو ما يمكن أن ينذر بقدوم تضخم حقيقي خارج نطاق السيطرة قريبًا، ولفت إلى أنه لا يوجد مؤشر أو تحليل اقتصادي آخر يمكن أن يصوّر الكارثة بوضوح.
وتابع أنه في خضمّ الاحتجاجات على مستوى البلاد منذ منتصف سبتمبر/ أيلول الماضي، يمكن أن تصبح الفوضى الاقتصادية كارثة محتملة للنظام، الذي يبدو غير قادر على إدارة اقتصاد يعتمد على النفط، ناهيك عن اقتصاد إنتاجي.
ورغم العقوبات الأمريكية، فقد استطاعت إيران تصدير 800 ألف برميل من النفط يوميًّا في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، معظمه للصين، ورغم أنه يباع بأسعار مخفّضة إلا أن التصدير يظل مصدرًا مهمًّا للعملة الصعبة في بلد لا يملك الكثير من المصادر المالية.
اللافت هنا أن النظام لا يستخدم هذه العوائد المالية لتجاوز الأزمة الاقتصادية الحادة، وإنما لدفع المعاشات والإغراءات المالية للعاملين في قطاع النفط والبنوك، من أجل دفعهم إلى عدم الانخراط في الاحتجاجات الدائرة في البلاد، مع تزايد الدعوات لبدء اعتصام مفتوح ضد النظام.
الملف الاجتماعي
مثّلت قضية إلزامية الحجاب التمظهر الأبرز للملف الاجتماعي في إيران هذا العام، إذ أعادت حادثة مقتل المواطنة الإيرانية الكردية مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق، الحديث مرة أخرى عن قضية الحجاب في إيران، وهي قضية عادةً ما تُثار مع كل حدث يشهده الداخل الإيراني مؤخرًا، الذي بدأ يستشعر حاجاته الاجتماعية مع دخول الثورة في إيران عقدها الرابع.
ممّا لا شكّ فيه أن قضية الحجاب هي إحدى أبرز القضايا التي حرص المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، الخميني، على معالجتها بحساسية كبيرة، بل كان حريصًا على عدم إثارة هذه القضية في الفضاء العام، لما لذلك من تداعيات خطيرة على الجمهورية.
فالتداخُل الكبير بين السياسي والاجتماعي، وحِرص المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، على التقليل من شأن هذه القضية، جعل المرأة الإيرانية أحد أبرز معارضي هذا النظام، بل إن إصرارها المستمر على إعادة تشكيل دور النظام في موضوع الحجاب، وتحديدًا منذ عام 2017، وما شهده ميدان طهران من حادثة مثّلت آنذاك تحديًا كبيرًا لسلطة خامنئي، عندما اعتلت ويدا موحدي منصة في شارع انقلاب/ الثورة، وخلعت حجابها وعلّقته على عصا بيدها.
والأكثر من ذلك، بدأت شعارات رفض إلزامية الحجاب تمتزج مع شعارات “الموت للديكتاتور”، التي رفعها العديد من المواطنين الإيرانيين الذين تظاهروا في شوارع وجامعات في طهران وتبريز وكرمان وأصفهان، احتجاجًا على طريقة تعامل السلطات الإيرانية مع أميني.
ومن ثم، هذا ما أشار بدوره إلى حجم التفاوت الكبير بين ما يريده النظام وما يريده الشارع، وبالشكل الذي قد يُعيد رسم العلاقة بين الطرفَين خلال الفترة المقبلة، إذ من المتوقع أن يتجاوز النظام هذه الحادثة، لما يمتلكه من خبرة كبيرة في التعامل مع الظاهرة الاحتجاجية الملازمة للشارع الإيراني، إلا أنه من جهة أخرى سيخسر المزيد من شرعيته التي بدأت بالتآكُل يومًا بعد آخر.
إن إصرار النظام الإيراني على عدم التفاعل مع هذه القضية، سيجعل الأحقاد الاجتماعية تتراكم يومًا بعد آخر، وإذا كان سيناريو الثورة على الشاه بعيدًا بالوقت الحاضر، فإن إصرار النظام على الحل الأمني سيجعله سيناريوهًا مطروحًا في المرحلة المقبلة، وهو ما يدلّل أيضًا على عدم وجود نية حقيقية لدى النظام الإيراني في معالجة المظالم الاجتماعية، وحصر الحركة الاحتجاجية في دائرة المؤامرة الكونية التي تحيط بالثورة الإيرانية وقيمها.
ممّا لا شكّ فيه أن العام 2022 كشف حجم الهوة الاجتماعية التي تزداد يومًا بعد آخر بين النظام والمجتمع الإيراني، فالمسألة اليوم لم تعد قاصرة على موضوع الحجاب، إنما بدأت تتعدّاها لمطالب أخرى، تتمثل بتوسيع الحريات الاجتماعية والاقتصادية، وفسح المجال لتغييرات سياسية، تمسّ بعضها جوهر النظام.
إذ ظهرت في الأسابيع الماضية دعوات صريحة من قبل العديد من التيارات السياسية والاجتماعية التي بدأت تطالب بتنظيم استفتاء شعبي على شرعية النظام، ما يجعل النظام الإيراني والحرس الثوري أمام تحديات حقيقية، فعملية التغيير في الأنظمة الجامدة هي عملية صعبة لكنها ليست مستحيلة، وفي نظام مثل النظام الإيراني تصبح عملية التراجع في الأنظمة التي تتمترس خلف الأيديولوجيا الجامدة، أشبه بكرة تتدحرج لتسقط ما يقف أمامها من موانع حتى تصل إلى قمّة النظام.
الملف الأمني
شهدت إيران خلال العام الجاري تحولات أمنية خطيرة، تمثلت أبرزها بتصاعد عمليات الاغتيال التي طالت العديد من العلماء النوويين والضبّاط التابعين للحرس الثوري، ويمكن القول إن هذا العام هو الأعلى بين الأعوام السابقة، من حيث تصاعد نسبة عمليات الاغتيال في الداخل الإيراني، والتي نُسبت بعضها إلى “إسرائيل”، والبعض الآخر لجماعات مسلحة “معادية” لإيران، وتحديدًا في أقاليم سيستان بلوشستان والأكراد.
وكانت أبرز عمليات الاغتيال هذه، قتل ضابط برتبة عقيد في الحرس الثوري يدعى صياد خدائي في يونيو/ حزيران الماضي، بإطلاق نار عليه من قبل مسلّحَين يستقلان دراجة نارية في شرق طهران، في عملية حمّل الحرس المسؤولية عنها لعناصر مرتبطين بالولايات المتحدة وحلفائها.
كما أفادت وسائل إعلام إيرانية بمقتل أحد عناصر الحرس الثوري ويُدعى رضا داستاني، في يوم 28 نوفمبر/ تشرين الثاني في أصفهان وسط إيران، برصاص مجهولين، إلى جانب اغتيالات أخرى في زاهدان وسنندج وغيرهما ترافقت مع الاحتجاجات الأخيرة.
دفعت سلسلة عمليات الاغتيال التي طالت مسؤولين في الحرس الثوري وعلماء نوويين، المرشد الأعلى وبالتنسيق مع قيادة الحرس، لإجراء تغييرات أمنية كبيرة في البلاد، وتمثّلت أبرز هذه التغيرات إقالة حسين طائب رئيس جهاز استخبارات الحرس الثوري، وتعيين العميد محمد كاظمي بديلًا عنه، ويعتقد البعض أن الإقالة ناجمة عن فشل الحرس في مواجهة هذه الاغتيالات المنسوبة إلى “إسرائيل”.
لم تتوقف الإخفاقات الاستخباراتية التي واجهت طائب عند هذا الحد، بل استمرت حتى مع وجود كاظمي على رأس الجهاز، وفي هذا السياق أدّى نجاح “إسرائيل” في تحقيق سلسلة من الاختراقات داخل جهاز استخبارات الحرس الثوري، وتجنيدها لعدد كبير من الضباط والعناصر الأمنية الإيرانية لصالح جهاز الموساد الإسرائيلي؛ إلى كشف جزء واسع من قاعدة بيانات الحرس الثوري في الداخل والخارج.
هذا فضلًا عن الحصول على معلومات حساسة عن المواقع النووية والبرامج الصاروخية، ما رسخ قناعة بأن الوضع الأمني في إيران أصبح مكشوفًا للداخل والخارج، ولعلّ تصاعد أعداد القتلى في صفوف عناصر الباسيج جرّاء الاحتجاجات الأخيرة، كشف حجم الضعف الأمني الذي يعتري الأجهزة الأمنية في إيران.
الملفات الخارجية
إلى جانب الملفات الداخلية، لم تكن الملفات الخارجية بعيدة عن الاهتمام الإيراني، فقد شهد العام 2022 العديد من الملفات التي كانت حاضرة في أجندات السياسة الخارجية الإيرانية.
استمرار حالة المدّ والجزر مع الولايات المتحدة
مثّلت عملية توقف المحادثات النووية في فيينا الخاصة بإعادة إحياء الاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى، إلى جانب فشل المحادثات غير المباشرة التي جمعت طهران وواشنطن في الدوحة، الحدث الأبرز في مسار العلاقات الأمريكية الإيرانية خلال العام 2022.
فالإصرار الإيراني على تضمين الاتفاق النووي التزامات تعاقدية تجبر الولايات المتحدة على التعهُّد بعد الانسحاب من الاتفاق مستقبلًا، إلى جانب رفع كامل للعقوبات المفروضة على إيران، وهو ما رفضته الولايات المتحدة؛ أدّى إلى وصول العلاقات بين الطرفَين إلى طريق مسدود، بل زاد من تعقيد هذه العلاقات اتهام إيران للولايات المتحدة بدعم الاحتجاجات الحالية، مقابل تنديد أمريكي بالدور الإيراني في الحرب الأوكرانية.
ممّا لا شكّ فيه أن لكل من طهران وواشنطن رؤية مختلفة لطبيعة أدوار كل منهما، ليس فيما يتعلق بالاتفاق النووي والعلاقات الثنائية فحسب، بل بمجمل أدوارهما بالشرق الأوسط، وتحديدًا في العراق ولبنان، ففي الوقت الذي تعقّدت فيه العلاقات الثنائية، أظهر كلاهما من جهة أخرى توافقًا هشًّا حيال بعض القضايا الإقليمية.
إذ دعم كل منهما تشكيل الحكومة العراقية بقيادة محمد شياع السوداني، كما دعما اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان و”إسرائيل”، وهو ما يشير إلى أن كلا الطرفَين يريدان الإبقاء على قواعد الاشتباك كما هي، للحفاظ على فرص العودة إلى الاتفاق النووي من جديد العام القادم.
الخلاف مع أذربيجان
شهدت العلاقات بين إيران وأذربيجان توترات حادة في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ومع ذلك سعى البلدان لاحقًا إلى تخفيف هذه التوترات وإدارة الخلافات بينهما، ففي 26 يناير/ كانون الثاني 2022، زار وزير الدفاع الأذربيجاني، ذاكر حسنوف، طهران والتقى بنظيره الإيراني محمد رضا أشتياني، وكذلك الرئيس إبراهيم رئيسي.
إلّا أن التوتر عاد مجددًا، حيث أجرت قوات أذربيجانية، يوم 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، مناورات عسكرية قرب الحدود مع إيران، ردًّا على إطلاق الحرس الثوري في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الماضي مناورات عسكرية واسعة النطاق على طول حدود البلاد مع أذربيجان.
إذ شنّت أذربيجان هجمات على أهداف في جنوب أرمينيا، في 13 سبتمبر/ أيلول 2022، في محاولة للسيطرة على ممرّ زانجيزور الذي يقع على الحدود بين إيران وأرمينيا، ويربط بين جمهورية أذربيجان وإقليم ناخيتشيفان التابع لها، والمتمتع بالحكم الذاتي داخل أرمينيا، الأمر الذي تنظر إليه طهران على أنه مؤامرة دولية لتطويقها جغرافيًّا، متعهّدة بمنع أي محاولة لتغيير الجغرافيا السياسية في هذه المنطقة.
وترجع حساسية العلاقات بين طهران وباكو إلى كون أذربيجان حليفًا وثيقًا لتركيا، التي توصف بأنها خصم تاريخي لإيران، التي تنحاز بدورها إلى أرمينيا في نزاعها الحدودي مع أذربيجان، كما تخشى طهران من أن تستعمل “إسرائيل” الأراضي الأذربيجانية في هجوم محتمَل ضدّها، لا سيما أن تل أبيب هي المورّد الرئيسي للأسلحة إلى باكو.
وتنظر إيران إلى محاولة أذربيجان السيطرة على الأراضي الأرمينية المتاخمة لحدودها على أنها تهديد لأمنها القومي، خصوصًا أن باكو تعتزم استغلالها من أجل إقامة ممرّ يصلُ إلى جيبها ناخيتشيفان ومنه إلى تركيا، ويعبر الممر على طول الحدود الأرمينية الإيرانية، وهو ما يعني عزل إيران عن أرمينيا.
تصدُّع العلاقات مع طالبان
مع سيطرة حركة طالبان الأفغانية على مقاليد السلطة في البلاد منتصف العام 2021، بدأت العلاقات بين أفغانستان وإيران تتراوح بين التصعيد والتهدئة بين الحين والآخر، فمنذ مطلع شهر أبريل/ نيسان الماضي أخذت العلاقات بين طهران وحكومة حركة طالبان في أفغانستان تسير نحو التوتر، بعد خروج مظاهرات أفغانية ضد إيران بتصريح من طالبان، على خلفية ما تردد عن تعرُّض لاجئين أفغان لسوء المعاملة في إيران.
جاء هذا الاحتجاج بعد يوم من هجوم شنّه أفغان على القنصلية الإيرانية في مدينة هرات ذات الأغلبية البشتونية التي تنتمي إليها طالبان، مردّدين شعارات منها “الموت لإيران”، وأحرقوا الإطارات والباب الأمامي، وحطّموا كاميرات المراقبة، ورشقوا المبنى بالحجارة.
وإلى جانب ذلك، شهد العام 2022 أيضًا العديد من الاشتباكات الحدودية بين الطرفَين، ومنذ سيطرة حركة طالبان على المعابر التجارية بين أفغانستان وإيران قبيل سقوط الحكومة الأفغانية السابقة، وقعت حتى الآن 3 اشتباكات بين طالبان وقوات إيرانية.
كما شهد هذا العام خلافات بين البلدَين تمحورت حول المياه، فالخلاف الأفغاني الإيراني حول المياه يتمحور بالأساس حول نهر هلمند، الذي ينبع من جبال هندوكوش في الشمال الشرقي لأفغانستان، ويصبّ في بحيرة هامون داخل الأراضي الإيرانية، قاطعًا ما يزيد عن 1300 كيلومتر، ويعدّ هذا النهر أهم مورد ماء للبلدَين، ومنه سبب الخلاف الحالي بينهما حول اقتسام حصصهما من تلك المياه.
الهجموم على كردستان العراق
في الوقت الذي تشهد فيه إيران تصاعدًا في الاحتجاجات المناهضة للنظام، جاءت عمليات الهجوم بقذائف صاروخية وطائرات مسيَّرة انتحارية من قبل الحرس الثوري، لأهداف عسكرية تابعة لمواقع جماعات المعارضة الكردية الإيرانية في إقليم كردستان العراق، التي بدأت منذ يوم 28 سبتمبر/ أيلول 2022، وراح ضحيته العديد من القتلى والجرحى في صفوف المدنيين، جرّاء تعرُّض مواقع مدنية لهذا الهجوم أيضًا، لتُثير بدورها العديد من التساؤلات حول التهديدات التي تشكّلها هذه الجماعات لإيران، خصوصًا في ظل حالة الاستهداف العسكري المستمر الذي يقوم به الحرس الثوري لمواقعها داخل الإقليم بين الحين والآخر.
مثّل ملف تواجد المعارضة الكردية في الإقليم أحد أبرز الملفات المعقّدة بين طهران وأربيل، إذ عادة ما يعمل الحرس الثوري على استهداف المناطق الحدودية المجاورة لإيران مع محافظات أربيل والسليمانية، عن طريق استخدام المسيَّرات والصواريخ لضرب مواقع المعارضة الكردية التي تتواجد هناك.
إذ تعتقد طهران أن هذا التواجد يشكّل تهديدًا أمنيًّا عليها، من حيث اتّهام الإقليم بتسهيل نشاطات الأحزاب المعادية لطهران، وحذّرت أربيل من أن العمليات الصاروخية التي تستهدف هذه الجماعات مستمرة، وربما تتوسع مستقبلًا على شكل عملية اجتياح برّي.
يشير استمرار الهجمات الإيرانية على مواقع المعارضة الكردية في إقليم كردستان، إلى تصميم إيراني واضح على التعامل الأحادي مع هذا الملف، وفق المسارات التي تقتضيها المصلحة الإيرانية، بعيدًا عن مراعاة مبدأ السيادة العراقية، أو حتى بيانات الإدانة التي صدرت عن المجتمع الدولي.
إذ تأتي محاولات الحكومة العراقية لحلّ معضلة وجود المعارضة الكردية في الإقليم عبر الوسائل السياسية والدبلوماسية متعثرة للغاية، وذلك بسبب وجود فاعل آخر متحكّم بهذا الملف، والحديث هنا عن إقليم كردستان، وهو فاعل له أهداف وغايات متمايزة عن توجُّه الحكومة العراقية، هذا إلى جانب الخلافات المستمرة بين بغداد وأربيل، وهو ما يفاقم من معضلة العراق في هذا السياق.
الانغماس في الحرب الأوكرانية
شهد العام الحالي دورًا إيرانيًّا متعاظمًا في الحرب الأوكرانية، ليسجَّل الحضور الإيراني الثاني في حرب تندلع بالقارة الأوروبية، بعد مشاركتها السابقة في الحرب البوسنية عام 1996، إلا أن الفارق الرئيسي هنا هو أن المشاركة الإيرانية في أوكرانيا أكثر حضورًا وأوسع انتشارًا.
ففي الوقت الذي اقتصر فيه الدور الإيراني بالحرب البوسنية على مشاركة مقاتلين من الحرس الثوري فقط، مع تقديم دعم محدود بالأسلحة الخفيفة للمقاتلين البوسنيين، إلا أنه في أوكرانيا أخذ مجالات أخرى، أبرزها تقديم دعم واسع لروسيا، وتحديدًا على مستوى الطائرات المسيَّرة والصواريخ البالستية وحضور مستشاري الحرس الثوري، ما يثير بدروه العديد من الأسئلة والاستفسارات حول طبيعة الدوافع الاستراتيجية التي تقفُ خلف الدور الإيراني.
إذ تحاول إيران عبر انغماسها بالحرب الأوكرانية توسيع مجالات التعاون مع روسيا، خصوصًا على مستوى صفقات السلاح، والاستفادة من دروس الحرب في أوكرانيا، سواء على مستوى تطوير العقيدة العسكرية ورفع الكفاءة القتالية وتحسين القدرة الفنية للطائرات المسيَّرة.
والأكثر من ذلك، تدرك إيران أهمية استنزاف الغرب، وتحديدًا الولايات المتحدة، سياسيًّا واقتصاديًّا في هذه الحرب، لتخفيف الضغوط الاستراتيجية عليها في الشرق الأوسط، إذ تنظر إيران إلى أن إطالة أمد الصراع في أوكرانيا وتقديم الدعم لروسيا، قد يؤدّيان إلى تشتيت انتباه الغرب عن مواجهة سعيها للهيمنة في الشرق الأوسط، رغم الكُلَف الاستراتيجية الخطيرة التي تقف خلف هذا المسعى، وأبرزها إمكانية اندفاع الولايات المتحدة وحلفائها نحو سياسة أكثر تشددًا لمواجهة إيران.
تدرك إيران أن القيمة الاستراتيجية التي توفّرها الساحة الأوكرانية، ستجعلها قادرة على معالجة الكثير من التحديات التي تقف في وجه صناعاتها الدفاعية، وتحديدًا في إمكانية زيادة فعالية طائراتها المسيَّرة وصواريخها البالستية على تجاوز الأنظمة الدفاعية الغربية المستخدَمة من قبل الجيش الأوكراني، وأبرزها صواريخ ستينغر الأمريكية المضادة للطائرات.
فالغاية العسكرية الإيرانية تتمثّل بسعي إيران لتطبيق الدروس المستفادة من المسرح الأوكراني، على تطوير الأسلحة والتكتيكات العسكرية المستقبلية في الشرق الأوسط، إذ إنه بالنسبة إلى المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي وجنرالات الحرس الثوري، دعم الحرب الروسية في أوكرانيا يأتي أيضًا في سياق توسيع إيران لهجومها ضد الغرب.
فعلى مدى عقود، سعت إيران لتوسيع نفوذها وإضعاف منافسيها من خلال توفير الأسلحة -بما في ذلك الطائرات المسيَّرة والصواريخ التي قدمتها لروسيا- لحلفائها في الشرق الأوسط، مثل حزب الله اللبناني والحوثيين في اليمن والفصائل الشيعية المسلحة في العراق، والآن، في الواقع، تطبّق طهران استراتيجية انتشار الأسلحة ذاتها في أوروبا عبر أوكرانيا هذه المرة.
استنزاف إسرائيلي في سوريا
شهد العام 2022 استمرارًا للهجمات الإسرائيلية على المواقع التي تتواجد فيها القوات الإيرانية والجماعات الحليفة في سوريا، إذ شهدت الأشهر الثمانية الأولى من عام 2022 ارتفاعًا ملحوظًا في عدد الأهداف العسكرية الإيرانية التي استهدفتها الغارات الإسرائيلية على الأرض السورية، حيث وصلت إلى 49 هدفًا، أي بزيادة نسبتها 22.5% مقارنة بالمدة نفسها من العام الماضي.
ويأتي هذه الارتفاع الملحوظ في الغارات الجوية الإسرائيلية متناسبًا مع تصاعد النشاطات الإيرانية على الأرض السورية بقيادة فيلق القدس، لنقل معدّات الأسلحة والمكوّنات الدقيقة الخاصة بالصواريخ والمسيَّرات (الانتحارية والقتالية) وأنظمة الدفاع الجوي الإيرانية، إلى مواقعها على الأرض السورية.
وفي هذا السياق، أفادت صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية، نقلًا عن مسؤولين إسرائيليين كبار، بتدمير 90% من البنى التحتية العسكرية الإيرانية في سوريا نتيجة الهجمات الإسرائيلية، وحسب المسؤولين الذين لم يُكشَف عن أسمائهم، أضافت الصحيفة أن “إسرائيل” نجحت في الحد بشكل شبه كامل من قدرة طهران على نقل الأسلحة إلى دمشق وتصنيعها هناك.
ونقلت الصحيفة عن المسؤولين أنفسهم أن الجيش الإسرائيلي “ألحق أضرارًا بالغة بمسارات التهريب الإيرانية، من البحر والجوّ، وحتى من البرّ، من إيران إلى سوريا”، مضيفة أن الهجمات أضرّت أيضًا بقدرة الجيش السوري على إنتاج أسلحة وذخائر.
توقُّف جولات الحوار الإقليمي مع السعودية
في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الجاري، أعلنت السعودية وبصورة غير مباشرة عن توقُّف جولات الحوار السعودي الإيراني التي انطلقت بداية العام بوساطة عراقية، قام برعايتها رئيس الحكومة العراقية السابق مصطفى الكاظمي، ورغم محاولة طهران إعادة إحياء مسارات الحوار مع السعودية عبر الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، إلّا أن السعودية لم تتفاعل مع هذا المسعى الإيراني حتى الآن، بسبب فشل الهدنة في اليمن.
ورغم رغبة السوداني في استثمار الحوار السعودي الإيراني لكسر حالة عدم الثقة الخليجية والعربية به، باعتباره ثمرة تحالف سياسي مقرّب من إيران، إلّا أن إمكانية نجاحه في هذه المهمة ستتوقف على مدى الرغبة السعودية في التماهي مع هذا المسعى.
حيث سبق أن أعلنت السعودية عن إيقاف جولات الحوار مع إيران مع الساعات الأولى لتولّي السوداني رئاسة الوزراء خلفًا للكاظمي، وهذا الرفض السعودي قابله تأكيد عراقي عبر الكلمة التي ألقاها رئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد في القمة العربية الأخيرة في الجزائر، مبديًا رغبة العراق في استمرار جهود استضافة المباحثات السعودية الإيرانية.
ورغم حاجة السعودية وإيران إلى استئناف الحوار، لعدة اعتبارات إقليمية ودولية، أبرزها سوريا واليمن وأمن الخليج، إلّا أن السعودية بدأت تدرك جيدًا أن السوداني وعبر ارتباطه السياسي الحالي، لا يمكن أن يشكّل عنصر توازن بين الطرفَين، كما أنه لا يمكن أن يأخذ المخاوف السعودية بعين الاعتبار، خصوصًا إذا ما اصطدمت مع الضرورات السياسية للفصائل المسلحة الموالية لإيران، ما يجعل مهمة السوداني معقّدة جدًّا في هذا الإطار، ويأتي جزء كبير من هذا التعقيد من حالة عدم الاستقرار السياسي الذي تشهده البلاد.
تقييم العلاقات مع الصين
أثار انعقاد القمة العربية الصينية بالرياض في 9 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، العديد من التحفظات الإيرانية على الخطوة الصينية الأخيرة، خصوصًا أنها عُقدت في عاصمة الخصم الإقليمي لإيران، وهو السعودية.
قوبلت هذه الخطوة الصينية بردود أفعال إيرانية متشنّجة، بدءًا من مؤسسة الرئاسة إلى وزارة الخارجية حتى الصحف الإيرانية، إذ أمر الرئيس إبراهيم رئيسي بتأجيل توقيع عدد من الاتفاقيات مع بكين، وطلب إبلاغ الصينيين أن طهران لم تعد معنية بتأمين أي حماية للشركات الصينية العاملة في العراق أو سوريا.
أما وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، فقد أكّد موقف بلاده الرافض لما جاء في البيان الختامي للقمة العربية الصينية، حول الجُزر الخليجية الثلاث، حيث قال إن جُزر أبو موسى وطنب الصغرى والكبرى جزء لا يتجزّأ من أراضي إيران الخالصة التي ستبقى تنتمي إلى وطنها الأم للأبد.
وفي السياق، أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، أن مساعد وزير الخارجية الإيراني عقد جلسة مع السفير الصيني لدى طهران، عبّر فيها عن استياء طهران الشديد من إدراج قضايا متعلقة بإيران، مثل الجُزر الثلاثة ومفاوضات الاتفاق النووي خلال القمة، كما تمَّ التأكيد على أنّ الجُزر الثلاث جزء لا يتجزّأ من الأراضي الإيرانية.
تدرك إيران أن علاقات أوثق مع الصين تصبّ بالنهاية في خدمة موقعها ضمن معادلة التوازنات الإقليمية بالمنطقة، فالظهير الدولي يؤدي دورًا مهمًّا في هذا الإطار، وفي ظلّ التعثُّر والانشغال الروسي بالأزمة الأوكرانية، لم يتبقَّ أمام إيران إلّا الورقة الصينية كي تناور بها أمام القوى الإقليمية الأخرى، أبرزها السعودية وتركيا.
ومن ثم، إن دخول السعودية على خط العلاقات الفاعلة مع الصين، إلى جانب الإغراءات الاقتصادية التي يمكن أن تقدمها، قد يدفعا الصين بالنهاية إلى تقليل التزامها الاستراتيجي بإيران، وهو ما يشكّل خشية رئيسية لإيران.
وليس هذا فحسب، بل إن إمكانية حصول الصين على بيئة استثمارية أكثر أمانًا من إيران التي تواجه الاحتجاجات، والعراق الذي يواجه حالة عدم استقرار سياسي وأمني، عبر الاستثمار في الدول الخليجية، قد يسحب بدوره ممرًّا اقتصاديًّا مهمًّا تمكّنت من خلاله إيران التحايل على العقوبات الأمريكية طيلة الفترة الماضية، ما يضيف بدوره مزيدًا من الضغوط على إيران التي راهنت منذ 3 سنوات ماضية على خيار التوجُّه نحو الشرق، كردّ فعل مباشر على انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، والعجز الأوروبي على إعادة إحياء الاتفاق من جديد.
استنتاجات في ضوء المشهد القادم
بالنظر إلى طبيعة الملفات الداخلية والخارجية التي واجهتها إيران خلال العام 2022، يمكن القول إن المشهد القادم سيشهد استمرارًا للكثير منها، بمعنى آخر إن النظام السياسي في إيران سيجد نفسه مجبرًا على التعاطي مع العديد من هذه الملفات في عام 2023.
فاستمرار النظام على ممارسة السياسات ذاتها حيال العديد من الملفات، سيجعلها ملفات مرتبطة بهذه السياسات، صعودًا ونزولًا، فهذا النظام يعد من الأنظمة الجامدة غير القادرة على تقديم تنازلات يراها جزءًا من شرعيته السياسية، وما يدلّل على ذلك أن الكثير من الملفات التي تعامل معها النظام خلال العام الجاري، هي ملفات مرحّلة من عام 2021.
وفي هذا السياق أيضًا، قد تساهم العديد من المتغيرات، وأبرزها وفاة خامنئي أو نجاح الاحتجاجات، في تغيير المشهد العام في إيران، أو حتى في إحداث تغيير في طريقة التعاطي مع الملفات الداخلية والخارجية.
فعملية إيقاف عمل شرطة الأخلاق مؤخرًا، جعلت خامنئي والنظام أمام حالة ضعف مقابل الشعب، إلّا أنها كشفت من جهة أخرى قدرة النظام التحايُل على الأزمات لكسب الوقت، ومن ثم إن الفرضية التي تتحدث عن سقوط النظام بفعل الاحتجاجات، ستكون أمام تحدٍّ حقيقي في العام 2023، فيما لو تمكّنت هذه الاحتجاجات فرض المزيد من الضغوط على النظام، أو حتى إسقاطه عبر التصعيد في العمل الاحتجاجي.
إن التحدي الأبرز الذي يطرح نفسه في العام 2023، يتمثّل بطبيعة الدور المقبل للحرس الثوري، بالنظر إلى طبيعته الأيديولوجية كقوة حامية للنظام والثورة، حيث إنه من جهة أخرى لاعب رئيسي في المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني، بل حتى في الملف الخارجي، ومن ثم إن طبيعة الدور المقبل للحرس ستحدد إلى درجة كبيرة الاتجاه الذي سيسلكه النظام عام 2023، وتحديدًا على مستوى التعاطي مع الاحتجاجات المستمرة، أو على مستوى العلاقة مع الولايات المتحدة، ما يجعل المشهد الإيراني عام 2023 معقّدًا جدًّا.
إجمالًا، هناك العديد من السيناريوهات التي تطرح نفسها في العام 2023، أبرزها استمرار الوضع الراهن على ما هو عليه، أو نجاح الاحتجاجات في إسقاط النظام، أو تمكُّن النظام من قمع الاحتجاجات، ويعتمدُ نجاح أي سيناريو على مدى قدرة كل من النظام أو المحتجّين على المضيّ قدمًا في برنامجه السياسي، ما يجعل مسألة استشراف الوضع في إيران عام 2023 تتصف بدرجة كبيرة من عدم اليقين، وذلك بفعل التعقيد والتداخل الذي تشهدهما الملفات الداخلية والخارجية التي يتعامل معها النظام.