في يونيو/ حزيران الماضي، أعلن وزير المالية في الحكومة العسكرية السودانية عن توقيع مذكرة تفاهم مع دولة الإمارات لإنشاء مشروع زراعي “ضخم”، يربطه طريق برّي بميناء جديد تبنيه دولة الإمارات على البحر الأحمر، وأضاف جبريل إبراهيم في تصريحه لوكالة “رويترز” أن الجانبَين يعملان حاليًّا على الانتهاء من تفاصيل المشروع، دون الإدلاء بمزيد من التفاصيل.
لم تمضِ سوى أيام فقط من تصريح وزير المالية المعيَّن من قبل سلطة الانقلاب، إلا وعادت “رويترز” بتفاصيل صادمة عن الصفقة الإماراتية الضخمة -التي جرى التفاوض بشأنها سرًّا وفي الظلام-، حيث تستولي أبوظبي بموجبها على المزيد من ثروات الشعب السوداني، بعد أن استولت على كميات مهولة من ذهب البلاد وفق تقارير صحفية موثوقة.
يمكن أن نلخّص أبرز ما تسرّب عن بنود الصفقة المشبوهة في النقاط التالية، بحسب ما أدلى به “الشريك السوداني” رجل الأعمال أسامة داود عبد اللطيف، رئيس مجلس إدارة “مجموعة دال”:
– تبلغ قيمة الصفقة 6 مليارات دولار تتضمن إنشاء منطقة للتجارة الحرة، ومشروعًا زراعيًّا كبيرًا، ووديعة وشيكة في البنك المركزي السوداني بقيمة 300 مليون دولار.
– من بين الـ 6 مليارات دولار تمَّ تخصيص 4 مليارات دولار لإنشاء الميناء الجديد الذي يقع على بُعد نحو 200 كيلومتر إلى الشمال من بورتسودان، وهو مشروع مشترَك بين مجموعة دال ومجموعة موانئ أبوظبي المملوكة لشركة أبوظبي القابضة.
– سيشمل الميناء أيضًا منطقة تجارية وصناعية حرة على غرار جبل علي في دبي، إضافة إلى مطار دولي صغير، وسيكون الميناء قادرًا على التعامل مع كل أنواع السلع ومنافسة الميناء الرئيسي في البلاد بورتسودان.
– الصفقة الإماراتية تشمل كذلك أعمالًا توسعية وتطوير مشروع زراعي بتكلفة 1.6 مليار دولار، تنفّذها الشركة العالمية القابضة (آي إتش سي) وشركة “دال للزراعة” في مدينة أبو حمد بشمال السودان.
ما يثير الريبة حقًّا هو إقدام مستثمر أجنبي على إدخال مليارات الدولارات إلى البلاد في ظل عدم وجود حكومة
– سيتمّ زراعة البرسيم الحجازي والقمح والقطن والسمسم ومحاصيل أخرى في مساحة تبلغ 400 ألف فدان من الأراضي المستأجَرة، كما سيجري رصف طريق بطول 500 كيلومتر (برسوم عبور) يربط المشروع بالميناء بتكلفة 450 مليون دولار، بتمويل من صندوق أبوظبي للتنمية.
– المشروع وصل “مرحلة متقدمة” بالفعل مع اكتمال الدراسات والتصاميم، أي أنه تجاوز “مذكرة التفاهم” التي تحدّث عنها وزير مالية السلطة الانقلابية.
بعد حوالي 6 أشهر، وبالسرّية والضبابية نفسهما، وقّع وزير المالية في حكومة الانقلاب، جبريل إبراهيم، مع موظف صغير يُدعى محمد جمعة راشد الشامسي (نيابة عن مجموعة موانئ أبوظبي)، اتفاقية لتطوير وتشغيل ميناء أبو عمامة على ساحل البحر الأحمر باستثمارات تصل إلى 6 مليارات دولار. أثار خبر التوقيع على الصفقة المشبوهة ردود فعل غاضبة في شرق السودان وعلى منصات التواصل الاجتماعي.
أعلن المجلس الأعلى لنظارات البجا رفضه القاطع للاتفاق الذي تمّ توقيعه لإنشاء ميناء أبو عمامة شمال البحر الأحمر، وقال عبد الله أوبشار، مقرر المجلس، لراديو “دبنقا” إن الاتفاق عبارة عن “صفقة مشبوهة لتجفيف الموانئ وإنشاء ميناء بديل”، معربًا عن استغرابه من توقيع الاتفاق في ظل عدم وجود أي حكومة، وأكّد أن المجلس يسعى لوضع رؤية واضحة لإيقاف العمل الممنهَج لتدمير عمل الموانئ.
من جانبه، أعلن عثمان طاهر، القيادي النقابي في الموانئ البحرية، مناهضتهم الاتفاق الذي تمّ توقيعه بين وزارة المالية وشركة أبوظبي بشأن إنشاء ميناء أبو عمامة بساحل البحر الأحمر، وأكّد أن العاملين انخرطوا في سلسلة من الاجتماعات للإعلان عن التصعيد خلال الأيام المقبلة.
“رشوة” للنظام بقيمة 300 مليون دولار
تسجيلات صوتية على تطبيق واتساب لعدد من الخبراء، تمَّ التحقق من صحّتها، أجمعت على خطورة الصفقة وشكّكت في توقيتها، إذ قال إبراهيم أونور، أستاذ الاقتصاد والتمويل في جامعة الخرطوم، إن الاتفاق في شكله الحالي استثمار غريب، فيه عدم وضوح وضبابية شاملة.
الحكومة الحالية غير مخوّلة لإبرام اتفاقات طويلة الأمد، ما يعني أن المستثمر استغل البلد المضطرب وحاجة النظام إلى النقد الأجنبي
وشكّك أونور في أن تكون هذه الصفقة عُرضت على مستشارين متخصّصين لدراستها من كل الجوانب ثم الرفض أو الموافقة عليها، مشيرًا إلى أن ما يثير الريبة حقًّا هو إقدام مستثمر أجنبي على إدخال مليارات الدولارات إلى البلاد في ظل عدم وجود حكومة، وضبابية الوضع السياسي في بلد لا تتوفر فيه أبسط المقومات من استقرار وحكومة مدنية.
كما يتساءل أونور، وهو أحد أبناء شرق السودان، عن عدم توضيح فترة وصيغة الاستثمار التي تمَّ الاتفاق عليها، هل هي فترة قصيرة أم متوسطة أم طويلة؟ وهل تشمل صيغة الاستثمار الإماراتي بناء وتشغيل الميناء وتحويله أم تملُّكه نهائيًّا؟ وما مدة العقد؟ 30 عامًا؟ 50 عامًا؟
لافتًا إلى أن الحكومة الحالية غير مخوّلة لإبرام اتفاقات طويلة الأمد، وقال بشكل صريح: “المستثمر استغل البلد المضطرب وحاجة النظام إلى النقد الأجنبي”، حيث ستوفر الصفقة منحة قدرها 300 مليون دولار، كما سبق توضيحه.
مشروع في غاية الخطورة
أما محمود الحبر، الخبير والمستشار السابق لوزارة النقل، فقد وصف الاتفاق بأنه يؤسّس لمشروع في غاية الخطورة، موضحًا أن عبارة “الميناء الجديد أبو عمامة سينافس الميناء الوطني الرئيسي” مضلِّلة، قائلًا إن العبارة الصحيحة هي أنه “سيقضي تمامًا على ميناء بورتسودان” الذي يعمل به 16 ألف عامل مباشرة وتعتمد عليه بورتسودان كلية، وزاد على ذلك: “ماف باخرة تاني ح تمشي بورتسودان. أُهمل ميناء بورتسودان خصيصًا لتدميره واستبداله بميناء آخر”.
يلفت الحبر إلى أنه يدعم الاستثمارات الخارجية، وهي ضرورية لأي بلد، لكنه يتحفّظ على عدم وجود دراسة الجدوى التي يفترض أن تشمل كل الجوانب، بما في ذلك تأثير الميناء على السكان، وكذلك الأهداف التي من أجلها سيتم بناء الميناء، ويبدي هو الآخر شكوكًا في مسارعة المستثمر الإماراتي على التوقيع في ظل عدم وجود أي دولة في السودان “في الوقت الحالي”.
ويختتم المستشار حديثه بتوجيه رسالة لسكان البحر الأحمر، داعيًا إياهم إلى عدم الانخداع، ومعارضة الطريقة السرّية التي تمَّ بها هذا المشروع في الظلام.
وبخلاف جشع ومطامع دولة الإمارات في ثروات المنطقة، فإنها لا تكتفي فقط بالاستيلاء على الموانئ، بل تقوم أيضًا بإنشاء قواعد عسكرية ضخمة في الموانئ التي تستولي عليها، مثل الميناء الذي شيّدته على جزيرة ميون اليمنية. فقد ذكرت وكالة “أسوشيتد برس” في تقرير لها العام الماضي، أن الإمارات تقوم (دون أن تعلن عن ذلك) بتشييد قاعدة جوّية في جزيرة ميون اليمنية الاستراتيجية الواقعة في قلب مضيق باب المندب، والتي تربط بين البحر الأحمر والبحر العربي وخليج عدن.
السودان يحتاج ميناءً جديدًا.. ولكن
ربما من أهداف أبوظبي من الصفقة التي تضمّ الميناء الجديد والمشروع الزراعي الضخم بعيدة المدى، نهب الثروات الموجودة في أعماق البحر الأحمر، واستغلال المطار الصغير المضمّن في الصفقة لنهب المزيد من الذهب والمعادن بالشراكة مع المؤسسات الضخمة المملوكة لمحمد حمدان دقلو “حمديتي”، إلى جانب إمكانية توسعة الصفقة لتشمل إقامة مشاريع سياحية أخرى في السواحل السودانية التي تتميز بالعديد من المقومات السياحية، كالجُزُر والشُّعَب المرجانية والشواطئ الخلابة.
نتفهّم تمامًا أن البعض يؤمن بأن البلاد تحتاج إلى استثمارات جديدة وميناء جديد، بعيدًا عن سيطرة مجلس الناظر ترك الذي لعب دورًا كبيرًا في إغلاق الميناء الحالي (بورتسودان) العام الماضي، ما مهّد لانقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول.
لم يتمَّ طرح المشروع في عطاءات للمستثمرين داخل البلاد وخارجها، ولم يتمَّ الكشف عن بنوده أو الإفصاح عن تفاصيل الصفقة لمجلس تشريعي أو حتى لمختصّين في المجال
لكن فرصة تكرار هذا الإغلاق ضئيلة للغاية إن لم تكن مستحيلة، نظرًا إلى أن الوضع لم يعُد كما كان في السابق، إذ لا يزال أهل الشرق يعانون من تبعات الإغلاق السابق، وهذا ما جعلهم يرفضون ويُفشلون بشكل قاطع محاولة إغلاق جديد للميناء قامت به مجموعات موالية لآخر رئيس وزراء في عهد نظام البشير، محمد طاهر أيالا، الأسبوع الماضي.
اختيار الإمارات هذا التوقيت المريب للتفاوض (في الظلام) مع الطغمة العسكرية، التي لم تتوانَ عن سفك دماء ما يزيد عن 122 مواطنًا سودانيًّا بينهم 21 طفلًا، مثير جدًّا للشكّ والريبة كما أوضح الخبراء أعلاه، فبخلاف الضحايا أُصيب نتيجة القمع المفرط نحو 7 آلاف شاب، بحسب تقارير منظمات طبية مستقلة، بعضهم أُصيب بعاهات مستديمة والبعض الآخر فقدوا أطرافهم، هذا بخلاف جرائم الاغتصاب والتعذيب التي ارتكبتها الميليشيات التي يُطلق عليها اسم “قوات نظامية”.
كما لم يتمَّ طرح المشروع في عطاءات للمستثمرين داخل البلاد وخارجها، ولم يتمَّ الكشف عن بنوده أو الإفصاح عن تفاصيل الصفقة لمجلس تشريعي أو حتى لمختصّين في المجال وفق ما أفاد به خبراء النقل والموانئ، فالثابت دائمًا أن من أهم أهداف الانقلابات هو تمرير “الصفقات الفاسدة”.