أُسدل الستار بشكل رسمي على مونديال قطر 2022 بعد ماراثون استمر 28 يومًا (20 نوفمبر/ تشرين الثاني – 18 ديسمبر/ كانون الأول 2022)، شهد خلالها الكثير من المعارك الجدلية التي حوّلت البطولة من منافسة رياضية إلى صراع ثقافي، وربما سياسي، بين الحضارات المتعددة المشاركة فيها.
لا ينكر أحد حجم الإبهار الذي شهدته البطولة، تنظيم لم يكن متوقعًا حتى من أكثر المتفائلين، فقد استطاعت الدوحة تقديم نسخة استثنائية من كافة الجوانب، فوفق لغة الأرقام تفوقت البطولة الحالية عن جميع البطولات السابقة، في معدلات الحضور وأعداد الأهداف المسجّلة والزخم الإعلامي.
في المقابل، كانت النسخة القطرية مختلفة حتى في معاركها الجانبية، فالتمسُّك القطري بالهوية الثقافية والدفاع عن المبادئ المستمدة من الشريعة الإسلامية في بعض المواقف، وعلى رأسها ملف “دعم المثلية”، أثار حفيظة العديد من الدول المشاركة التي رأت في ذلك تقييدًا للحريات.
ورغم التحديات والضغوط نجحت قطر في رهانها على التمسك بثوابتها مهما كانت العقبات، لتقدّم في نهاية المطاف نسخة هي الأفضل في تاريخ كأس العالم وفق تصريحات رئيس الفيفا، جياني إنفانتينو، لكن ما حدث لن يمرّ مرور الكرام داخل أروقة الاتحادات الكروية لبعض البلدان الأوروبية، والتي بلا شكّ ستدرس تلك النسخة بشكل مفصّل، وستعيد النظر في مسألة استضافة دولة عربية أخرى للبطولة مستقبلًا، فالهزيمة الثقافية التي تلقاها الغرب على أيدي القطريين والعرب عمومًا من المرجح أن تكون لها ردة فعل وتداعيات قد تحرم المنطقة من استضافة مثل تلك الفعاليات الدولية مرة أخرى.
الفوقية الغربية
شهدت البطولة المنتهية مؤخرًا 5 مشاهد رئيسية عكست وبشكل كبير حجم العنجهية والفوقية الغربية خلال هذا المحفل، وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع. الأول حين أجبرت قطر والاتحاد الدولي لكرة القدم طائرة المنتخب الألماني على إزالة شعار “OneLove” (دعم المثلية) من عليها وإلا فلن يسمح لها بالدخول، وذلك قبيل انطلاق البطولة، وبالفعل اضطر المنتخب تغيير الطائرة في مشهد كشف مبكرًا عن طبيعة المعارك المحتملة خلال هذا الماراثون.
الواقعة أثارت حفيظة الألمان وتعاطف معهم بعض المنتخبات الأوروبية مثل الدنمارك وإنجلترا وهولندا، إذ أعلنوا مشاركة لاعبيهم حاملين شارات دعم المثلية، لتأتي الصفعة الثانية من الفيفا الذي هدد بفرض عقوبات على أي منتخب يرتدي شارة القيادة التي ترمز للمثلية، وأمام تلك العقوبات رضخت اتحادات إنجلترا وويلز وبلجيكا وهولندا وسويسرا وألمانيا والدنمارك إلى هذا القرار وتراجعت عن موقفها السابق.
المشهد الثاني كان في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، حين وضع لاعبو المنتخب الألماني أيديهم على أفواههم في إشارة إلى “قمع حرية التعبير”، قبل بداية مباراتهم مع المنتخب الياباني، والتي انتهت بخسارتهم التي وصفها البعض حينها بـ”الفضيحة”.
لم يعتاد الغرب أن يظهر في تلك الصورة المهزوزة، دون أن يمتلك أي مقومات لفرض رأيه بالقوة كما هو معتاد، ليقف اللاعبون في مشهد أثار استهجان العالم، وأفقدهم احترام الشارع الكروي لهم، وكان أحد الأسباب وراء خروجهم المبكر من البطولة، وفق ما ذكر محللون بأن انشغالهم بما هو خارج الملعب كان سببًا رئيسيًّا في هزيمتهم داخل الملعب.
دفعت هذه الأحداث اتحادات بعض المنتخبات الأوروبية للضغط على قطر والفيفا على حد سواء، حيث لوّحت إنجلترا والدنمارك بجانب ألمانيا بالانسحاب من المونديال، ليقابل هذا التهديد بتجاهل تام من اللجنة المنظمة والاتحاد الدولي للعبة، وهو ما كان بمثابة الصدمة لتلك البلدان.
وبعد الفشل في فرض الأجندة الثقافية، لم تجد وزيرة الداخلية الألمانية، نانسي فيزر، بدًّا من الدخول على خط الأزمة بحضورها من المدرجات وهي ترتدي شارة المثلية بعدما أخفتها حين دخلت الملعب أول الأمر، وهو المشهد الذي يكشف حجم الوقاحة الأوروبية، إذ تحول المونديال إلى قضية كبرياء أكثر منها مسألة رياضية محدودة، وهو ما جسّدته وزيرة الرياضة الفرنسية، أميلي أوديا كاستيرا، التي حاولت البحث عن انتصار معنوي ولو زائف، حين ألمحت إلى احتمالية ارتداء قائد منتخب فرنسا للشارة الملونة عند رفع كأس العالم حال الفوز به، وهو ما لم يحدث حيث فاز المنتخب الأرجنتيني، لتفقد كاستيرا آخر أمل لها في تحقيق أي انتصار معنوي.
تفوق عربي كاسح
اكتسى المونديال منذ انطلاقته الأولى باللون العربي الخالص، بداية من كلمة أمير قطر في حفل الافتتاح التي حرص فيها على العمق العربي في تنظيم المونديال، وأنه بطولة العرب كلهم وليست قطر فقط، وصولًا إلى ارتداء نجم الأرجنتين، ليونيل ميسي، البشت الخليجي خلال تسلُّمه جائزة أفضل لاعب في المونديال، وما لذلك من دلالة رمزية قوية، مرورًا بالحالة العربية التي خيّمت على الأجواء داخل الملاعب وخارجها، وارتداء مشجعي المنتخبات المشاركة الزيّ العربي وحمل الأعلام والشارات العربية.
كما استطاعت قطر الوقوف أمام موجات الضغوط، رافضة الابتزاز الغربي في التنازل عن ثوابتها بدعوى استمرار البطولة وعدم إفشالها بانسحاب المنتخبات الكبرى، وواصلت مضيّها قدمًا على درب التحدي مستخدمة كل ما لديها من أدوات ونفوذ.
ومع مرور أيام المونديال كانت قطر ترسّخ أقدامها في إنجاح البطولة شيئًا فشيئًا، فعالية تلو الأخرى تعزز الثقافة العربية وتروّج للتراث العربي وتتمسك بالهوية العربية والإسلامية، شارك في ذلك الديوان الأميري والحكومة ومؤسسات الدولة من جانب والشعب من جانب آخر، الجميع تشارك في هذا الهدف، وسط دعم وتأييد من الشارع العربي الذي رأى في قطر حاملة شارة العروبة في هذا المحفل في مواجهة الغرب الذي يحاول فرض أجندته بالقوة.
كما حوّلت قطر ملاعبها وشوارعها وأسواقها وإعلامها إلى منصات قوية لدعم القضية الفلسطينية، غير معنية بالانتقادات التي تتعرض لها بسبب ما أسموه “تسييس الرياضة”، في رسالة سياسية قوية على عمق تلك القضية عربيًّا في ظل وجود العديد من البلدان المشاركة في المونديال والداعمة لدولة الاحتلال.
هذا التفوق العربي الكاسح أوغر صدر المنتخبات الغربية المشاركة وحكومات بلدانها بصورة كبيرة، خاصة بعد فشل الضغوط ومساعي الابتزاز التي شاركت فيها أنظمة ومدرّبون ولاعبون واتحادات رياضية، وتعمق الجرح أكثر مع الخروج المبكر للمنتخبات التي صدّرت الأزمة (ألمانيا وإنجلترا والدنمارك)، لتواجه هجومًا وانتقادات عنيفة من مشجعيها الذين حمّلوا الانشغال بالقضايا الجانبية مسؤولية توديع المونديال من الأدوار الأولى.
هل يستضيف العرب المونديال مرة أخرى؟
هناك شعور مترسّخ لدى الغرب الآن بالهزيمة النكراء أمام العرب في معركة المونديال الثقافية والفكرية، وهو ما بدا يلوح في الأفق من خلال ردود الفعل الأولية الصادرة عن اتحادات القارة الأوروبية، لتُطرح مسألة منح دولة عربية أخرى شرف استضافة المونديال أو أي فعالية عالمية مشابهة على مائدة النقاش والحوار الأوروبي خلال المرحلة المقبلة.
النجاح الذي حققته قطر عبر تنظيم مبهر وتقديم نسخة استثنائية، بجانب الدفاع عن الهوية الثقافية العربية وإجبار الجميع على احترامها والالتزام بها، وشعور الانتصار المعنوي المنتشي به المواطن العربي خلال هذه الأيام، من المرجّح أنه سيكون محل دراسة وتقصّي وبحث من قبل مراكز الأبحاث الأوروبية المعنية بدراسات الشرق الأوسط والمنطقة العربية.
التناطح العربي في مواجهة قوى أوروبا، سواء داخل الميدان الكروي وما قدمته الكرة العربية من أداء مبهر ورائع حيث وصلت إلى المربع الذهبي بأقدام لاعبي المنتخب المغربي، أو خارج الميدان عبر فرض الأجندة الثقافية العربية وإفشال مخططات الغرب في تمرير أجندته، سيكون له رد فعل محتمَل من قبل الغرب الذي لم يعتاد مثل هذا التناطح وتلك الندية.
بعيدًا عن جدلية منح العرب حق استضافة المونديال مجددًا، تبقى نسخة قطر 2022 هي الأفضل عالميًّا، ومحطة فارقة في مسيرة العرب وتشابكهم مع القوى الغربية، ونقطة تماسّ محورية في إحياء الندّية العربية والتخلص من الشعور بالدونية، حتى لو لم تتكرر مرة أخرى.
ثمًة تخوفات تسيطر على العقل الغربي في تلك المرحلة من استفاقة عربية محتملة خلال الآونة المقبلة، انطلاقًا من النقطة الكروية إلى نقاط أخرى أكثر جدية وتأثيرًا، إذ نجح مونديال قطر في وأد الشعور بالدونية الذي كان نقطة ضعف العرب الأبرز، وهنا مكمن الخطر الذي قد يهدد التفوق الغربي التاريخي على حساب الانبطاح العربي.
ومن هنا يرى البعض أن فكرة استضافة دولة عربية لنسخة مونديالية قادمة أمر مستبعد على الأرجح، فالخطأ لن يتكرر مرة أخرى، والغرب لن يمنح العرب فرصة جديدة لفرض هويتهم وتحقيق انتصارات جديدة تساعدهم في الخروج من عباءة التبعية، وهو التوجُّه الذي ربما يحظى بقبول بعض القوى العظمى الأوروبية كألمانيا وفرنسا وإنجلترا على وجه التحديد.
وفي سياق آخر، وعلى أقل تقدير في حال السماح لأي دولة عربية باستضافة البطولة، فإن الاتحاد الدولي لكرة القدم سيضع ضوابط وشروط جديدة لتنظيم المونديال، تدور حول أحقية الغرب في فرض أجندته وتمرير مخططاته دون تقييد أو عراقيل، وضرورة موافقة أي دولة تتقدم لاستضافة أي بطولة عالمية على تلك الشروط ابتداءً.
وبعيدًا عن جدلية منح العرب حق استضافة المونديال مجددًا، تبقى نسخة قطر 2022 هي الأفضل عالميًّا، ومحطة فارقة في مسيرة العرب وتشابكهم مع القوى الغربية، ونقطة تماسّ محورية في إحياء الندّية العربية والتخلص من الشعور بالدونية، حتى لو لم تتكرر مرة أخرى.