ترجمة وتحرير: نون بوست
علا صوت الهتاف في متنزه واشنطن سكوير في مانهاتن على الأصوات المتزامنة لمزيج من موسيقى الجاز ومكبر صوت يدوّي بموسيقى الراب؛ حيث تجمع حوالي 200 متظاهر بالقرب من القوس الأيقوني للحديقة، وانضموا إلى الأغنية هاتفين “أنهوا الإغلاق!”، “ألغوا سياسة” صفر كوفيد“!”، وقام طالب جامعي بالمرور أمام المشاركين موزعًا عليهم أوراقًا بيضاء فارغة.
انضم الحشد الصغير الذي اجتمع في نيويورك في 4 كانون الأول/ديسمبر إلى لحظة غير عادية على بعد حوالي 7000 ميل، فقبل أيام في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر، وقف مئات المواطنين الصينيين في الهواء الليلي البارد لشانغهاي وبكين وغوانزو، حاملين عاليًا أورقًا بيضاء في احتجاج صامت للمطالبة بالتحرر من سياسات “صفر كوفيد” التي تفرضها البلاد، والتي فرضت قيودًا صارمة في محاولة للقضاء على فيروس كورونا بالكامل داخل حدود البلاد؛ حيث كانت احتجاجاتهم الإستراتيجية استكمالًا لتقليد عالمي طويل من الاحتجاج الصامت، الذي يسجل النشطاء فيه استيائهم عبر المسيرات الصامتة والإضرابات الطويلة عن الطعام، أو من خلال الركوع أو إغلاق أفواههم بشريط لاصق، أو – في بعض المجتمعات العقابية – محاربة الدعاية والكذب بقطع من الورق الفارغ.
الاحتجاجات الصامتة تدعو الجمهور لملء الفراغات وإضافة مظالمهم الخاصة؛ حيث يقول كريستوفر ريا، عالم الأدب الصيني الحديث بجامعة كولومبيا البريطانية في كندا: “إنها مساحة للخيال تهدف إلى إثارة أي شخص ينظر إليها، تحاول هذه القطعة الفارغة عمدا إحباط نظام المراقبة هذا”.
احتجاجات الأوراق الفارغة في الصين
بعد ثلاث سنوات من انتشار جائحة كوفيد-19؛ لا تزال الصين تهدف إلى قمع الفيروس من خلال عمليات الإغلاق التي تستمر لعدة أشهر، وقيود السفر، وإغلاق أماكن العمل، والتتبع المستمر من خلال الكاميرات والهواتف المحمولة، والاختبارات اليومية الصارمة؛ حيث يتم تنفيذ البروتوكولات في بعض الأحيان بقوة غاشمة يصفها السكان بأنها لا مبالاة بالمعاناة الإنسانية. فقد أدت عمليات الإغلاق التي يُزعم أنها تهدف إلى وقف المرض إلى وفيات كان من الممكن تجنبها؛ حيث تكهن المستخدمون على وسائل التواصل الاجتماعي بأن أحد هذه الإغلاقات لعب دورًا في حريق شقة أدى إلى مقتل عشرة أشخاص في أورومتشي في 24 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي.
يعرف المواطنون الصينيون أنه على الرغم من وجود العدوى، فإن بقية العالم – سواءً كان الأمر جيدًا أو سيئًا – قد عاد إلى حياة ما قبل الوباء تقريبًا – مع شبكة أمان من اللقاحات الفعالة والأدوية المضادة للفيروسات؛ حيث يذهب الناس في أماكن أخرى إلى مكاتب العمل، ويتسوقون في مراكز التسوق، ويسافرون إلى الخارج، ويشجعون من المدرجات في مباريات كأس العالم. فلا مكان في العالم تقريبًا باستثناء الصين استمرت فيه الحكومة في إبقاء مواطنيها في منازلهم، كما كان الحال في جميع أنحاء العالم في حقبة ما قبل اللقاح سنة 2020.
يعد مدى فعالية إستراتيجية “صفر كوفيد” في الصين أمرًا مثيرًا للجدل، لا سيما مع ميل الحكومة إلى تقليل عدد الحالات والوفيات، وقد راهن الرئيس شي جين بينغ في مطالبته بالسلطة على نجاح هذه السياسات. ولكن مع ظهور متحورات جديدة للفيروس باستمرار، فإن أعداد الحالات آخذة في الارتفاع (ويرجع ذلك جزئيًا إلى استخدام لقاحات محلية أقل فاعلية) مع تصاعد الاضطرابات. إن القمع الشامل هو الأسلوب المفضل لدى الحكومة لاحتواء كوفيد-19، كما تقول حركة الورقة البيضاء الوليدة على موقعها على الإنترنت: “لأن الوباء هو أفضل طريقة لتعزيز السيطرة الاجتماعية والحفاظ على الهيمنة”.
طالبت الحملة الشعبية التي انطلقت في 28 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي بإنهاء عمليات الإغلاق التي دفعت بالملايين إلى البطالة والفقر، مما أدى إلى توقف النمو الاقتصادي للبلاد، ووسّعت الحشود التي خرجت تهتف ضد شرطة مكافحة الشغب مطالبها في وقت لاحق لتطالب بالديمقراطية وإنهاء الرقابة وحتى عزل الرئيس الصيني، الذي ألغى حدود الولاية القانونية في 2018 ليظل في منصبه مدى الحياة. في بلد يمكن أن يختفي فيه المعارضون في سجون ذات مواقع سوداء لسنوات في انتظار المحاكمة؛ وهو ما أذهل الغضب العام حتى بعض المشاركين.
بعد أيام من ظهور هذا السخط على نطاق واسع، خففت الحكومة الصينية العديد من قواعد وسياسات كوفيد -19 الأكثر تقييدًا – وهي خطوة يقول الخبراء إنها قد تؤدي إلى موجات من العدوى والوفيات في بلد غير مجهز للتعامل مع حالات الاستشفاء الجماعية.
ومع ذلك فإن النشطاء يقولون إنهم ما زالوا يبدأون؛ حيث جذبت إمكانية حدوث تغيير حقيقي في الدولة الاستبدادية مجموعة من المتظاهرين – من بينهم الأويغور والتبتيون و سكان هونغ كونغ والطلاب الصينيون الذين يدرسون في الخارج – إلى واشنطن سكوير بارك في أوائل كانون الأول/ديسمبر.
وقال موزع الورق في احتجاج مانهاتن، الذي ذكر بأن اسمه “ريك” (الاسم الذي تبين بأنه مزيف بسبب قلق الطالب من تسبب الحكومة في مشاكل لعائلته في غوانزو): “لا توجد طريقة لمشاركة الفكر الحقيقي في الصين”، وقد كان لريك أصدقاء انضموا إلى المسيرات في الوطن، حيث ظل المراقبون مشغولين بمحو أي إشارة للاحتجاجات من وسائل التواصل الاجتماعي، أحيانًا في ثوانٍ. وأضاف موضحًا: “الورقة البيضاء تعني أننا نريد أن نقول إن لكل طبقة اجتماعية مطالبها الخاصة، “نحن” نريد أن نعامل بكرامة، لكسب لقمة العيش، “نحن” نريد الديمقراطية “.
احتجاجات صامتة حول العالم
عادة ما يُنظر إلى الاحتجاجات على أنها أمور كبيرة ومزعجة وصاخبة في بعض الأحيان؛ حيث يطالب المشاركون الغاضبون بالتغيير من خلال الهتافات الجذابة واللافتات المبهرجة، لكن الصمت يمكن أن يكون أداة فعالة بنفس القدر لإحداث التغيير.
ففي دولة استبدادية تتمتع بالرقابة الجماعية، يمكن اعتبار الكلمات والصور البسيطة جرائم؛ حيث يقول جيفري واسرستروم، مؤرخ متخصص في التاريخ الصيني الحديث بجامعة كاليفورنيا في إيرفين، إن امتلاك الصمت في ظل هذه الظروف يخلق القوة، فعندما ينضم متظاهر إلى الحشد ولا يقول شيئًا، فإنه يحرم الدولة من أدوات القمع؛ حيث لا يجوز استخدام كلام المواطن الصامت ضده.
Police in Nizhny Novgorod arrested a demonstrator today for protesting with a blank sign. Welcome to Russia in 2022. pic.twitter.com/YprwDqex8V
— Kevin Rothrock (@KevinRothrock) March 12, 2022
ألقت الشرطة في نيجني نوفغورود القبض على متظاهر اليوم بسبب احتجاجه بلافتة بيضاء، مرحبًا بكم في روسيا سنة 2022.
في السنوات الأخيرة؛ واجه المتظاهرون في جميع أنحاء العالم حكوماتهم بلافتات بيضاء. ففي وقت سابق من هذا العام، تم إبعاد الروس الذين عارضوا غزو فلاديمير بوتين لأوكرانيا من الشوارع بعد أن حملوا قطعًا فارغة من الورق ردًا على قانون يحظر نطق أو نشر كلمة “حرب” في الإشارة إلى الحملة العسكرية.
وفي هونغ كونغ سنة 2020، تسبب صدور قانون جديد للأمن صدم المواطنين في تعبيرهم عن غضبهم من خلال حمل أوراق طابعة بيضاء؛ حيث اعتقلت السلطات ما يقرب من 200 شخص بموجب القانون، فيما حُكم على رجل بالسجن تسع سنوات لحمله علمًا يحمل الشعار المحظور: “حرروا هونغ كونغ، ثورة عصرنا”.
تاريخ الاحتجاج الصامت
تعد النسخة السمعية من الورقة الفارغة صامتة. فلطالما كان الاحتجاج بدون كلمات أسلوبًا استخدمه الأمريكيون السود في حزيران/ يوليو 1917، عندما سار حوالي عشرة آلاف مواطن، نظمتهم الجماعات الدينية والجمعية الوطنية للنهوض بالملونين (NAACP)، في الجادة الخامسة في مانهاتن للاحتجاج على العنف العنصري والتمييز. كما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن “مثل أولئك الموجودون في المسيرة كل منظمة وكنيسة زنجية في المدينة. ومع ذلك، فقد ساروا ليس كمنظمات، ولكن كشعب من عرق واحد، تجمعهم روابط الدم واللون، ويعملون من أجل قضية مشتركة”.
في أيلول/ سبتمبر 1968، نظم عشرات الآلاف من الطلاب مسيرة صامتة مطالبين بمزيد من الديمقراطية في المكسيك. وخلافا لاتهامات الحكومة المكسيكية بأنهم كانوا يلجأون إلى العنف، احتج الطلاب ببساطة عن طريق حمل الأعلام. (في نفس الوقت تقريبًا، رفع نشطاء الحقوق المدنية في الولايات المتحدة أعلاما تحمل أهدافا مماثلة). ويقول ديفيد ماير، عالم الاجتماع في جامعة كاليفورنيا، إيرفين: “إنك تأخذ رموز النظام وتكشف عن عدم شرعية النظام في نفس الوقت”.
استخدمت احتجاجات أخرى رموزا أكثر وضوحا للقمع، بما في ذلك الأصفاد وعصابات العينين والكمامات. وانتشر آخرها على نطاق واسع كدعم سياسي بعد محاكمة شيكاغو سفن، للمتظاهرين المناهضين للحرب الذين اُتهموا بالتحريض على أعمال شغب في المؤتمر الوطني الديمقراطي لسنة 1968 في شيكاغو. وخلال محاكمة سنة 1969، أمر القاضي بتكميم فم المدعى عليه بوبي سيل وتقييده بالسلاسل إلى كرسيه.
قبل عقود من قيام لاعب كرة القدم كولن كايبرنيك بإحداث ضجة بعد ركوعه أثناء النشيد الوطني، حيث استخدم الرياضيون السود مكانتهم بصمت لمحاربة القمع. وفي حفل توزيع جوائز سباق 200 متر في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية لسنة 1968 في مكسيكو سيتي، رفع كل من الحائزين على الميداليات تومي سميث وجون كارلوس قبضة قفاز مشدودة في دعوة لحقوق الإنسان العالمية.
تتمثل النظرية العملية وراء الاحتجاجات الصامتة في أنه عندما تكون القضية واضحة وصالحة، لا يوجد سبب للصراخ بشأنها – وهو مبدأ أظهرته الأمثلة الحديثة للاحتجاجات الصامتة أيضًا. وفي سنة 2009؛ انتهت مسيرة سلمية في إيران ضد الانتخابات غير العادلة بإطلاق النار والانفجارات. وللتنفيس عن غضبهم، التقى مئات الآلاف من الإيرانيين على الطريق المركزي الرمزي لطهران، شارع الثورة الإسلامية، وساروا بهدوء إلى ساحة الحرية، على أمل تجنب قمع الشرطة. وفي سنة 2011، وقف المتظاهرون في الرياض بالمملكة العربية السعودية بهدوء تضامناً مع النشطاء المحتجزين دون محاكمة من قبل نظام البلاد. وفي عدة مرات في هونغ كونغ، سار المحامون في صمت للاحتجاج على توغل بكين في دستور المدينة وشؤونها القانونية.
الوقوف من أجل الصمت
يمكن أن تمثل الشعارات والنكات والألوان المشاعر المعقدة؛ ففي هونغ كونغ، حمل المتظاهرون مظلات صفراء – مفيدة أيضًا للدفاع ضد رذاذ الفلفل – كرموز لمطالبتهم بالديمقراطية. وفي تايلاند، استعار المتظاهرون إيماءة من سلسلة أفلام “ألعاب الجوع“؛ حيث رفعوا تحية بثلاثة أصابع عالياً في أعقاب انقلاب عسكري. وفي مكان آخر، دلت أعلام قوس قزح واسم “التضامن” على المعارك الناجحة التي خاضها مؤيدو حقوق العمل ومجتمع الشواذ (LGBTQ).
وفي بعض الدول الاستبدادية، يصنع المنشقون النكات والصور لبناء أتباع وإضعاف الدعم للنظام. ففي عهد الاتحاد السوفيتي في حقبة الحرب الباردة، كان الوصول إلى الآلات الكاتبة وآلات النسخ يخضع لرقابة شديدة. ولكن كان بإمكان المتظاهرين مشاركة الأخبار وإثارة غضب المسؤولين بأدب ساميزدات تحت الأرض (باللغة الروسية تعني “النشر الذاتي”)، والتي كُتبت يدويا وانتقلت من شخص لآخر. وقد استخدمت هذه المنشورات أيضا حكاية، أو مزاحا من الرثاء الساخر، للمزاح حول المجتمع السوفيتي ما بعد ستالين. وفي أحد الأمثلة، يوزع رجل منشورات فارغة في شارع للمشاة. وعندما يعود شخص ما للتشكيك في معناه، يقول الرجل، “ماذا هناك للكتابة ؟ كل شيء واضح تماما على أي حال”.
في أوائل القرن العشرين، قادت أجيال من الكتاب والفلاسفة الصينيين ثورات فلسفية وثقافية هادئة داخل بلادهم. وقد دفع زو شورين، المعروف بالاسم المستعار لو شون، المواطنين للتخلص من التقاليد القمعية والانضمام إلى العالم الحديث، وقد كتب: “لطالما شعرت بأن سور الصين العظيم مُحاصرا من جميع الجوانب؛ هذا الجدار من الطوب القديم الذي دائما ما يتم تعزيزه عبارة عن مؤامرة قديمة وجديدة لمحاصرتنا جميعا. متى سنتوقف عن إضافة طوب جديد إلى الحائط ؟”.
بمرور الوقت، أتقن المواطنون الصينيون فن الاستياء ضد الرقابة الجماعية والسيطرة الحكومية. وقد كان هذا هو الحال بالتأكيد خلال الحركات التي ازدهرت بعد وفاة ماو تسي تونغ في سنة 1976. وفي احتجاجات سنة 1989 في ساحة تيان آن من في بكين؛ حيث استخدم المشاركون شرائط من القماش الأحمر كعصابات لأعينهم. وقبل أن تقوم الدبابات بتحويل التجمع الذي دام أسابيع إلى مأساة في 4 حزيران/ يونيو، عزف الموسيقي كوي جيان النشيد الوطني “قطعة من القماش الأحمر“، مدعيا أنه رمز وطني للحكم الشيوعي كراية أمل لجيل محبط.
وبعد أن قتل الجيش المئات، إن لم يكن الآلاف، حظرت الصين أي إشارة إلى الأحداث في ساحة تيان آن من. وأصبح الشعب الصيني بارعا في ملء هذا الفراغ، باستخدام الوكلاء للإشارة إلى المأساة. وعلى الرغم من أن الرقابة الصينية تحجب المصطلحات المتعلقة بالتاريخ، مثل “سيكس فور”، إلا أن الرموز التعبيرية يمكن أن تتحايل أحيانًا على هذه الإجراءات. ووفقا لمنغ وو، المتخصص في الأدب الصيني الحديث في جامعة كولومبيا البريطانية، فإن رمزًا تعبيريًّا بسيطًا للشموع نُشر في الذكرى السنوية يخبر القراء أن المؤلف يراقب المأساة، حتى لو لم يتمكنوا من القيام بذلك بشكل صريح. وفي السنوات الأخيرة، أزالت الحكومة الوصول إلى الرموز التعبيرية للشموع قبل الذكرى السنوية.
وعندما تحدث أحد الناجين من مذبحة ساحة تيان آن من إلى الحشد المتجمع في واشنطن سكوير بارك، أعرب الطالب الجامعي الذي أطلق على نفسه اسم ريك عن قلقه بشأن صديق احتجزته الشرطة في مقاطعة قوانغدونغ مسقط رأسه. وبالنظر إلى حملة القمع الحكومية، أشار ريك إلى أن الاحتجاجات العامة قد انتهت إلى حد كبير في الوقت الحالي. ومع ذلك، توقع أن الحركة “ستصبح شيئا آخر” – شيء لم يكتب بعد.
المصدر: مجلة سميثسونيان