ترجمة وتحرير: نون بوست
يعود الصعود الصارخ للرئيس الإيراني، الملقب بـ “الجلاد”، الذي انتخب في سنة 2021، إلى موهبته المروعة في المصادقة على أسوأ الانتهاكات. إنه شخصية قاسية تحظى بتقدير كبير من قبل “الحرس الثوري”، الجناح العسكري للنظام، الذي استمر في تطهير صفوفه من العناصر “المعتدلة”، إلى حد ما، حسب ذوقه.
إن تتبع حياة إبراهيم رئيسي، رئيس جمهورية إيران الإسلامية (المنتخب في 19 يونيو/يونيو 2021)، تفترض أولا وقبل كل شيء عدد القتلى الذي يتخلل صعوده القاسي. ففي من بين رجال الدين الذين أسسوا السلطة الجديدة، لم يشارك إبراهيم رئيسي، البالغ من العمر 62 سنة، في الثورة الإسلامية، على عكس معظم جماعات النظام، ولا في الحرب الإيرانية العراقية (1980-1988). كما أنه يفتقر تماما إلى الكاريزما والحس السياسي. ومنذ ذلك الحين، تثير حياته المهنية العديد من الأسئلة.
كيف يمكن أن يكون، في سن صغير جدا، أحد الأطراف الرئيسية في هذه الآلة القمعية التي ستصبح شيطانية فيما بعد؟ هل تطرفه هو الذي أغوى السلطة الإسلامية عندما بدأ يلقي بثقله على كاهل إيران، وأزال أحزاب اليسار التي قاتلت لإسقاط الشاه، الواحد تلو الآخر؟ هل السبب ببساطة هو أنه كان الوصيّ الرئيسي لحُماته، الإمام الخميني، ثم لخليفته، المرشد الأعلى علي خامنئي، أي بمثابة “بيدق” على حد تعبير بعض الباحثين. الشيء المؤكد هو أن إبراهيم رئيسي كان دائما قاسيا، حيث أيد أسوأ انتهاكات النظام، بدعم لا يتزعزع من الحرس الثوري.
في وقت مبكر جدُا، وضع رئيسي نفسه في خدمة المؤسسة القضائية في البلاد، الذراع الأيمن للنظام، والذي هو من يدين ويعاقب. في الوقت نفسه احتاجت الجمهورية الإسلامية إلى ذراع أيسر لا يهاب شيئا، لديه القدرة على الاعتقال والسجن والتعذيب وحتى القتل. وسيتولى هذا الدور الحرس الثوري، الباسدران، وجميع رجال الميليشيات الخاضعين لسيطرتهم. وبين رئيسي وهذا الأخير، ستكون المهام متبادلة وتفسر إلى حد كبير التطرف التدريجي للنظام.
دولة داخل دولة
اليوم؛ في ظل القمع المروع الذي تفشى في البلاد طيلة الثلاثة أشهر الماضية ضد الشباب الإيراني، يعرف الرئيس الحالي أنه يستطيع الاعتماد على هؤلاء الحراس الذين أصبحوا أقوياء للغاية ويتمتعون بقوة بوليسية وعسكرية واقتصادية؛ حيث إنهم بمثابة دولة داخل دولة وأقوى حتى من الدولة.
لكن، على حد تعبير المؤرخ جوناثان بيرون، المستشار في مركز يوتوبيا للأبحاث في بروكسل: “لا يشكل الباسدران مجموعة متجانسة. هناك انقسام بين كبار السن، الذين شاركوا في الحرب العراقية الإيرانية، والأصغر منهم سنا، وبعضهم من القوميين المتطرفين، الذين أظهروا استعدادا أكبر للذهاب إلى أبعد من ذلك في قمع شعبهم”.
من الصعب جدا فرز جميع العناصر التي يتألف منها جهاز الحرس الثوري هذا وترتيبهم حسب القسوة؛ ولكن يمكن القول إنه القوات الأساسية للجمهورية الإسلامية وهي أكثر ما يخافه الشباب الإيراني عندما يظهرون في شوارع طهران، حتى أكثر من العديد من رجال الشرطة والميليشيات الأخرى المكلفة بقمع الاحتجاجات التي أشعلتها وفاة مهسا أميني في 16 أيلول/سبتمبر بعد اعتقالها بتهمة ارتداء حجاب غير لائق.
هذه الكتائب غير مسجلة في أي مكان ولا أحد يعرف إلى أي قيادة تنتمي، حتى شعارهم (بندقية قنص تعبر الكرة الأرضية على خلفية صفراء) يشبه شعار حزب الله اللبناني، مما يوحي بأن هذا الأخير هو انبثاق من الحرس الثوري الإيراني، المعروف أيضا باسم سيباه (“الجيش”، في اللغة الفارسية). أما بالنسبة للقوات الخاصة لمكافحة الإرهاب (NOPO)، الذي يرتبط أيضا بالحرس الثوري، فيمكن تمييزهم من خلال اللون الأسود لملابسهم، الذي أكسبهم لقب أصحاب “الزي الأسود” كدليل عن وحشيتهم المرعبة.
تشكل فيلق النخبة في الحرس الثوري سنة 1979، من تجمع للميليشيات، لتدارك أوجه قصور الجيش الإيراني الذي كان يمر بوضع سيء للغاية منذ سقوط الشاه من تطهير أو نفي الآلاف من ضباطه، وبعد أن انتفضت كردستان في ذلك الوقت ضد الجمهورية الإسلامية الفتية، أعلن الباسدران التدخل في هذه المقاطعة بطريقة دموية بشكل خاص. ومع غزو العراق لإيران في أيلول/ سبتمبر 1980، اندفعوا لصد جيش صدام حسين وتعرضوا لمذابح حقيقية. في ذلك الوقت، احتفلت عشرات الأفلام ومئات القصص بهذه اللفتة “البطولية” طوال هذه الحرب التي لا نهاية لها، والتي دامت ما يقرب تسع سنوات.
تدرب جمران على التعامل مع الأسلحة في كوبا، وفي حرب العصابات في مصر عبد الناصر، ثم انغمس في الصراع السري في السبعينيات، من الجزائر إلى سوريا وليبيا
ومع ذلك؛ يُذكر أنهم ضحوا بعشرات الآلاف من الأطفال، الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و 16 سنة، وأولئك المحرومين القادمين من الأحياء الفقيرة في المدن، وأطفال المزارعين الوافدين من قرى البؤس الذين أرسلوا ليموتوا أثناء هجمات هائلة غير مهيأة بشكل سيئ أو على حقول الألغام لفتح الممرات للمشاة.
من الإساءة للطفولة إلى الانتهاك الإجرامي لبراءة الأطفال؛ فقد أعطى الملالي هؤلاء الأطفال الجنود صورة الإمام الخميني ملفوفا بالبلاستيك حتى لا يتلوث بطين الخنادق، ومفتاحًا بلاستيكيًّا كانوا يلبسونه حول أعناقهم؛ المفروض أنه سيفتح لهم باب الجنة. في وقت لاحق؛ سيتم اكتشاف أن “مفاتيح الجنة” تم تصنيعها في الصين، وهي دولة تعتنق الإلحاد.
مصطفى جمران شخصية الإسلام السياسي
لكن في بداية الحرب؛ كانا الحرس الثوري الإيراني أولا وقبل كل شيء في خدمة السلاح لدرجة أن الزي الرسمي للمقاتلين لم يكن يحمل رتبا. وقد تم الإشادة بأحد مؤسسيه الموجودين في الخطوط الأمامية لشجاعته الأسطورية: وهو مصطفى جمران، والذي أطلق عليه المعجبين به لقب “تشي”، بالطبع في إشارة إلى جيفارا، لأنه كان ذو خبرة عظيمة في الحركة الثورية، وكان أمميًّا ولكن ليس ماركسيًّا بل إسلامي.
تدرب جمران على التعامل مع الأسلحة في كوبا، وفي حرب العصابات في مصر عبد الناصر، ثم انغمس في الصراع السري في السبعينيات، من الجزائر إلى سوريا وليبيا، وخلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، وُجد في بيروت، حيث لعب دورا سياسيا وعسكريا مهما، مشاركا في تأسيس حركة أمل الشيعية المسلحة.
لقد مثل أيضا شخصية الإسلام السياسي، التي بدأت في التطور، هذا الخبير الفيزيائي، الذي كان أستاذا في جامعة بيركلي بولاية كاليفورنيا، ثم نائب رئيس الحكومة الإيرانية الجديدة بعد سقوط الشاه، والمستشار العسكري للإمام الخميني، ووزير دفاع الجمهورية الإسلامية الفتية، والذي اعترف بوجود أفق واحد فقط والمتمثل في الحرب المقدسة. خلال غزو العراق لإيران؛ ترك وزارته ليصبح مقاتلا بسيطا مرة أخرى. وفي سن الثامنة والأربعين؛ حيث لم يعد فتيًّا ليكون على خط المواجهة، أصيب في ساقه بقذيفة، ورغم ذلك رفض مغادرة وحدته، وفي 21 حزيران/ يونيو 1981، قُتل في جبهة خوزستان (جنوب غرب إيران).
قبل وفاته؛ وصف جمران الجهاد بأنه الحياة المثالية التي تسمح للإنسان أن يتفوق على نفسه، وأنه زهد يأخذ الإنسان بعيدا عن الأنانية، بحثًا عن الطهارة التي لا توجد إلا في الخنادق، تحت نيران العدو. في الثقافة الصوفية الفارسية، نواجه الطابع الأسطوري لجافانماردي، أي رجل نزيه وفارس في آن واحد. من ناحية أخرى، نجد أن “ناماردي”، الشخص الذي يفتقر إلى “الرجولة”، الذي لا صوت له ولا شرف، ولا تزال هذه الكلمات مستخدمة في المفردات السياسية الإيرانية.
ظلت صورة “جافانماردي” ملازمة مصطفى جمران، لكن بسبب إراقة الدماء في كردستان عندما قاد القمع، لم يستطع الحفاظ عليها، فلقد حول وقت الـ”ناماردي” عند القادة الحاليين للحرس الثوري الإيراني، الذي يمثله جزء كبير من السكان، إلى قادة العصابات الذين يقتلون المراهقين وحتى الأطفال الذين ظهروا في فيلم العراب الذي صور عشائر المافيا، المدججين بثروة غير مشروعة والفاسدين لدرجة لا يمكن تخيلها.
دورة دينية في قم
من المؤكد أن إبراهيم رئيسي ليس “جافانماردي”، فلقد تدفق الكثير من الدم عبر يديه، فمنذ سن الـ17، شارك في قمع المعارضين. وفي سن العشرين؛ كان قد أصدر بالفعل أحكاما بالإعدام بصفته مساعدا للمدعي العام للمحاكم الثورية لمدن كرج، ثم همدان، العاصمة السابقة للإمبراطورية الفارسية الأولى. في الثامنة والعشرين من عمره؛ كان واحدًا من أربعة أعضاء في “لجنة الموت”، التي عينها آية الله الخميني سنة 1988 للقضاء على المعارضين المحتجزين في سجون البلاد.
وبحسب منظمة العفو الدولية؛ قامت هذه اللجنة بإعدام أكثر من 5000 سجين سياسي، غالبيتهم ينتمون إلى منظمة مجاهدي خلق المنشقة، في 32 مدينة؛ إنه اتفاق دم حقيقي يريد من خلاله مؤسس الجمهورية الإسلامية إلزام جميع قادة البلاد بهذه الموجة من الاغتيالات الجماعية.
إبراهيم رئيسي: الوجه الجديد الصلب لإيران
ولد إبراهيم رئيسي في ظل عائلة متدينة أصيلة من مشهد، المدينة المقدسة الكبرى الواقعة في الشمال الشرقي، حيث دُفن علي الرضا، الإمام الثامن من بين الأئمة الاثني عشر التاريخيين للشيعة، والوحيد الذي يقع قبره في إيران.
ولكن لا ينتمي رئيسي إلى تلك العائلات الثرية ذات الشخصيات الشيعية المرموقة التي رافقت تاريخ إيران؛ لذلك لن يكون رئيسي أبدا شخصية مرموقة مثل سابقيه؛ حيث عاشت عائلته بشكل متواضع وهو ما يحدث غالبا بالنسبة لرجال الدين الإيرانيين الذين لم يشغلوا مناصب عليا، وتوفي والده عندما كان في الخامسة من عمره وسقطت الأسرة في حالة من عدم الاستقرار مما جعله يقول لاحقا: “لقد ذقت الفقر أكثر مما سمعت به. لا أتذكر أنني رأيت عائلتي تشتري كيلو أرز أو نصف كيلو لحم”.
في سن الخامسة عشرة، تابع رئيسي دراسته الدينية في مدينة قم التي كانت مدارسها بمثابة جزء مهم من الأطر السياسية للجمهورية الإسلامية، وقد نال درجة الدكتوراه في الفقه الإسلامي والقانون الخاص، وعلى الرغم من ذلك؛ لم يتخلص رئيسي بعد من الفقر حيث كان يبيع المسابح ليتمكن من متابعة دراسته التي سوف تمكنه من أن يحصل على لقب آية الله، ومن بين المحطات الجيدة في حياته المهنية، أنه كان طالبا لعدة سنوات لعلي خامنئي، المرشد الأعلى الحالي.
انتقل رئيسي سنة 1985 إلى طهران ليصبح نائب المدعي العام للمحكمة الثورية وهو منصب ذو شأن بالفعل، ولدى سؤاله عن إعدام جميع السجناء السياسيين سنة 1988، نفى رئيسي أنه لعب أي دور ولو حتى ضئيل في هذا الأمر رغم أنه أشاد بأهمية “الأمر” الذي أصدره الخميني، وخلال الانتخابات الرئاسية لسنة 2017؛ ذكّر “البراغماتي” حسن روحاني؛ رئيسي بهذا الماضي الدموي من خلال إخباره أن سجله لا يتألف من “شيء سوى الإعدام وأحكام بالسجن”.
العدل بين أيدي “الجلاد” أو كما يسمى منفذ الإعدام
كانت لهذه الجرائم الجماعية نتيجتان: أولا، جعلوا من الممكن القضاء على الرجل الذي كان يُطلق عليه فيما بعد “أمل الإمام الخميني”، أي خليفته آية الله حسين علي منتظري، الذي يكرهه المتشددون لأنه كان أكثر تسامحا من والد الثورة الإسلامية، وفي رسالة أرسلها منتظري إلى الخميني – والتي ظلت سرية لفترة طويلة – ندد بعمليات الإعدام هذه، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى سقوطه بشكل لا يمكن إصلاحه، وسوف يحل محله في وقت لاحق علي خامنئي، الذي لا يتمتع مع ذلك بالمؤهلات الدينية اللازمة ليصبح المرشد الأعلى. أما النتيجة الثانية فهي أن رئيسي قد كسب خطوطه إلى الأبد مع الفصائل الأكثر تطرفاً والحرس الثوري الإيراني، فهم يعرفون الآن أنه ليس بالرجل الليّن، لذا يمكنهم الاعتماد عليه.
الحرس الثوري الإيراني يشكلون الأجهزة الأمنية كما يحلو لهم، فحالما انتهت الحرب ضد العراق، قام “المتشددون” بتطهير عناصر حزب الله الإسلامي الأكثر اعتدالا، فهم لا يسيطرون على الأمن فحسب
في هذه الأثناء، يواصل “الجلاد”، بدعم من الأجهزة الأمنية ومن الخميني وخلفه المستقبلي علي خامنئي، صعوده داخل السلطة القضائية، الركيزة الثالثة للنظام، مع الأجهزة الأمنية والمؤسسات السياسية الدينية؛ حيث عُيّن نائبا عاما لطهران من 1989 إلى 1994، ثم نائباً لرئيس السلطة القضائية من 2004 إلى 2014، وهي السنة التي تم تعيينه فيها في منصب النائب العام للبلاد.
ترأس آية الله رئيسي المحكمة الخاصة لرجال الدين لمدة عشرين سنة، وهو منصب قيادي لأنه يشرف على كل من كبار الشخصيات وملالي القرى الصغيرة ويعلن عقوبات لا حصر لها ضد بعضهم، وبفضل القدرة على تعيين القضاة، أنشأ آية الله رئيسي شبكة سياسية رائدة وكان قادرا في الوقت نفسه على تحديث العدالة لتلبية توقعات السكان. في هذا الصدد؛ قال وزير إيراني سابق لجأ في باريس أن رئيسي “منظّم ممتاز، فقبله لم يكن النظام القضائي بمثابة العمود الفقري الرئيسي للقمع والسيطرة على السكان. إنه قاضٍ استبدادي؛ لكن لديه تصور ميكانيكي للعدالة”.
وبينما يشكل آية الله رئيسي كل ما يتعلق بالقضاء؛ فإن الحرس الثوري الإيراني يشكلون الأجهزة الأمنية كما يحلو لهم، فحالما انتهت الحرب ضد العراق، قام “المتشددون” بتطهير عناصر حزب الله الإسلامي الأكثر اعتدالا، فهم لا يسيطرون على الأمن فحسب، بل لا يمكن المساس بهم حيث سيطر زعيمهم الشاب، محسن رفيق دوست، وقت سقوط الشاه، على ملفات لا حصر لها متعلقة بمنظمة المخابرات والأمن القومي “السافاك”، شرطة الشاه السياسية.
ومع ذلك؛ لا يوجد الكثير ممن لم يتعاون مع هذه المنظمة في وقت أو آخر من بين رجال الدين والسياسة الجدد، فرفيق دوست، الملقب بـ”جيب الذهب” لفساده، على دراية بكل شيء. وعلى العموم، سيستفيد الحرس الثوري الإيراني أيضا من دعم علي خامنئي، كرئيس للجمهورية الإسلامية بين سنتي 1981 و1989، ثم مرشدًا أعلى.
يعتمد الحرس الثوري الإيراني على السلطة الدينية التي تمنحهم الشرعية التي بدونها يمكن التشكيك في دورهم أي أنهم ليس لديهم أي دور بدون سلطة المرشد الأعلى، ولعل هذا الدور متبادل؛ حيث إن المرشد ليس له أهمية بدونهم أيضا، فيقول ستيفان دودوينون، مدير الأبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي ومؤلف كتاب حراس الثورة الإسلامية في إيران: “إنهم يضمنون حماية النظام”.
إضافة إلى أن الحرس الثوري الإيراني هو الذي يدير ويضمن حماية مكتب المرشد الأعلى لإيران أو ما يطلق عليه بيت القيادة. ففي زمن الخميني؛ كان هذا المكتب يتألف من حوالي خمسة عشر مديرًا تنفيذيًا فقط، ولكن تحت سلطة آية الله خامنئي، وصل عدد المدراء إلى 1700، وهنا يكمن قلب القوة الإيرانية.
بعد عمليات التطهير؛ كان اهتمام الحرس الثوري الإيراني الأول هو توحيد البلاد من خلال إنشاء 36 فيلقًا عسكريًا منتشرة في جميع أنحاء البلاد، يستفيد كل منها من الحكم الذاتي الكبير، سواء من حيث القيادة أو من حيث موارده الخاصة؛ حيث يرى ستيفان دودوينون أن “أحد الاهتمامات الرئيسية للحرس الثوري الإيراني هو تحقيق التمويل الذاتي”.
وتابع دودوينون قائلًا: “يعود ذلك إلى الحرب ضد العراق؛ حيث تم إلحاق كل لواء بالمساجد والبازارات في المنطقة التي مولتها. لذلك تم تنظيمهم على أساس إقليمي ولا يزال هذا قائما حتى اليوم. فيما بينهم؛ لديهم تضامن أقوى بكثير مما كان عليه في الجيش التقليدي، فهم ينتمون جميعا إلى نفس المنطقة ويعرفون بعضهم البعض منذ وجودهم معًا في المدرسة. ومنذ ذلك الحين؛ عندما يقول لهم زعيمهم “دعنا نذهب”، لا يترددون في اتباعه حتى الموت إذا لزم الأمر”.
ويتألف الجزء الأكبر من القوات من ميليشيات الباسيج، وهي هيئة أُنشئت أيضا سنة 1979، والتي سيكون لها حوالي 400 ألف رجل، موزعين على آلاف المراكز في جميع أنحاء الإقليم. ومنذ سنة 2007؛ تم دمج هؤلاء الرجال في صفوف الحرس الثوري. وفي انتفاضة الشباب الإيرانيين الحالية؛ يرتدي الكثيرون منهم ملابس مدنية تسمح لهم بالاختلاط بالمحتجين واعتقالهم.
وفقا للباحث سعيد جولكار، مؤلف دراسة حديثة عن هذه الميليشيا الحكومية أجراها معهد كارنيغي للشرق الأوسط المستقل، فإن “الباسيج تضم ما لا يقل عن 22 منظمة مختلفة، بما في ذلك تلك الخاصة بالطلاب في الجامعات الذين يعملون على تحديد المنشقين والقضاء عليهم، وحتى الآن؛ قُتل 31 من أفراد القوات الأمنية البالغ عددهم 56، مما يدل على تواجدهم القوي في الشوارع”.
يعتبر تدخل البسيج حاسمًا في سحق الثورات التي تهز إيران بشكل دوري، فمنهم مئات القتلى الذي بلغ عددهم 1500 في “نوفمبر/ تشرين الثاني الدموي” سنة 2019، وفقا لوكالة رويترز. وقد شكرهم المرشد الأعلى علي خامنئي قائلا “لقد ضحوا بحياتهم لحماية الناس من المشاغبين وأن وجودهم يظهر أن الثورة الإسلامية ما زالت حية”.
الحرس الثوري الإيراني تسيطر على 33 بالمائة من الاقتصاد
يحتكم الحرس الثوري الإيراني أيضًا إلى قوة اقتصادية غير عادية، فبعد انتهاء الحرب ضد العراق؛ قدم مشروع إعادة إعمار البلاد فرصا كبيرة. ثم استولت وحدات الهندسة العسكرية، المجهزة بالجرافات واللوادر ذات الجرافات على أسواق البناء وأنشأت شركات عملاقة. توقعا لنهاية الصراع، أنشأ الحرس الثوري الإيراني أيضًا شركة قابضة عملاقة والتي ستدير قريبا أكثر من 800 شركة داخل إيران وخارجها وتوظف الآلاف من الضباط المسرحين ليصبحوا مديريها التنفيذيين.
نادرة هي المجالات التي أفلتت من شركة الأشغال العامة والهندسة المترامية الأطراف التي تستثمر أولا في التسلح والطاقة والتحكم في استخراج النفط والبتروكيماويات قبل الشروع في كل ما يمكن أن جلبه مثل الاستيراد والتصدير وتقنيات الاتصال والبناء والطب. وبين سنتي 2005 و2013، في ظل رئاسة محمود أحمدي نجاد، الذي كان من المقرر أن يقوم بخصخصة الاقتصاد إلى حد كبير، استحوذت شركة الحرس الثوري الإيراني على أصول في أكثر المجالات تنوعًا مع ميلها إلى قطاع السيارات وحتى الصناعة الفنية، بما في ذلك السينما والمسرح .
ووفقًا لبيانات وزارة الخارجية الأمريكية؛ يسيطر الحرس الثوري الإيراني اليوم على حوالي 33 بالمئة من الاقتصاد الإيراني بينما يرى خبراء آخرين أن هذه النسبة تصل 50 بالمئة، دون احتساب التهريب الذي يتم تحت مراقبته، وإنشاء المجمع الصناعي للتصدير السري للهيدروكربونات فضلا عن السيطرة على تجارة الهيروين، التي ازدهرت على الحدود الإيرانية الأفغانية. نتيجة لمصادرة الاقتصاد، تزايد تورط كبار مسؤولي الحرس الثوري الإيراني في قضايا الفساد.
إنقاذ نظام بشار الأسد
لكن الغريب؛ أن انخراط الحرس الثوري الإيراني في عالم الأعمال والتجارة لا يلغي حماسته الثورية وروحه الدولية وثقافته الجهادية. وعليه، فإن المتقاعدين الشباب من الحرب العراقية الإيرانية شكلوا جزءًا مهما من هيئة الأركان العامة وإدارة القوة الاستكشافية التي عملت على إنقاذ نظام بشار الأسد الفترة الممتدة بين 2010 و2018.
في هذا الخصوص؛ يقول المحامي والخبير السياسي الفرنسي السوري، فراس قنطار: “الحرس الثوري الإيراني ساهم بشكل أكبر في منع النظام من الانهيار مقارنة بمساهمة الجيش الروسي. لقد بادر الأسد بطلب مساعدته بعد ملاحظة نجاح الحرس الثوري الإيراني في قمع “الثورة الخضراء” عام 2009، وتمسكه بمبدأ الوحدة على عكس الجيش السوري الذي شهد العديد من الانقسامات”. وعليه؛ بذل الحرس الثوري الإيراني جهدًا في إظهار أنه سيد الموقف.
أشرف سليماني على معركة حلب، ما أدى إلى تدمير شبه كامل لواحدة من أقدم وأجمل المدن في العالم
في آيار/مايو من عام 2014، صرح حسين حمداني، الضابط في الحرس الثوري الإيراني والمحارب القديم الذي شارك في الحرب العراقية الإيرانية: “بشار الأسد يشن الحرب في سوريا كمساعد لنا”.
في الحقيقة؛ شنت إيران هذه الحرب لمساعدة الحليف السوري، باعتباره الدولة العربية الوحيدة التي دعمتها خلال صراعها مع بغداد ومن أجل منع ظهور أي تطلعات ديمقراطية في الشرق الأوسط وإعادة الطابع الإيديولوجي للنظام في وقت كانت فيه البيروقراطية والبحث عن الربح وتطلعات المجتمع للتخلي عن الاسترشاد بالدين تقوض أسسها الثورية.
واستخدمت جميع الأساطير العظيمة للحرب ضد العراق، بما في ذلك تكريم الشهداء و”الدفاع المقدس” عن الأماكن المقدسة الشيعية العظيمة، المتواجد معظمها في العراق وسوريا لتأمين تأييد جماعي.
تحتاج إيران إلى أبطال من أجل تبرير خوضها هذا التحدي. ففي هذا الصدد؛ يعتبر قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني، الشخصية التي سوف تجسد هذا التجنيد الأيديولوجي، حيث نفذ زعيم أقوى ذراع في الحرس الثوري الإيراني، المسؤول عن العمليات السرية والاستخبارات والحروب في المسارح الخارجية إستراتيجية إيران في الشرق الأوسط، وتابع انتقالها من صراع إلى آخر. ففي سوريا؛ كوّن تنظيم يضم الثوار الشيعيين من مختلف الدول، بمن فيهم مستشارون عسكريون إيرانيون وكتائب عراقية وأفغانية وباكستانية فضلا عن وحدات من حزب الله اللبناني لإنقاذ النظام البعثي بمساعدة الطيران الروسي، وتماما مثل الجنرال مصطفى جمران؛ فهو يحب معارك القتال ويتمعن في التاريخ الشيعي المقدس.
في عام 2015؛ أشرف سليماني على معركة حلب، ما أدى إلى تدمير شبه كامل لواحدة من أقدم وأجمل المدن في العالم. بعد ذلك؛ توجه نحو العراق أثناء معركة الموصل ضد تنظيم الدولة، وهو ما أكسبه شعبية كبيرة. وبعد استطلاع رأي أجري عام 2015؛ صُنف سليماني من طرف موقع “خبر أونلاين” الإيراني الموالي للمحافظين البراغماتيين “رجل العام” آنذاك، مما فتح الباب أمام بروز شائعات من قبيل أنه المرشح شبه الرسمي للحرس الثوري الإيراني لانتخابات عام 2021.
المزيد من فوائد القوة
ونظرا لسعي الحرس الثوري الإيراني على الدوام إلى تعزيز قوته، لم يعد تواجد رئيس “براغماتي” مثل محمد خاتمي الذي تولى رئاسة إيران في الفترة الممتدة بين 1997 و2005 وحسن روحاني، رئيس إيران طيلة الفترة الممتدة من 2013 إلى 2021، اللذين حاولا الحد من نفوذ الحرس الثوري وأيدوا استئناف علاقات طهران مع الدول الغربية؛ يخدم مصالح الحرس الثوري الإيراني.
ففي آيار/مايو من عام 2017؛ ومن خلال جمع حوالي 12 الف من رجال الميليشيات في مسيرة لدعم ابراهيم رئيسي في ساحة المجلس في طهران أظهر الحرس الثوري الإيراني رغبته في التأثير على الانتخابات الرئاسية، غير أن محاولته باءت بالفشل، حيث أُعيد انتخاب حسن روحاني لولاية ثانية. كما باءت محاولة ترشيح الحرس الثوري محمد قاليباف، وهو طيار وضابط عسكري سابق شغل منصب الطيار الشخصي للمرشد بالفشل رغم توليه منصب رئيس بلدية طهران طيلة الفترة الممتدة بين 2005 و 2017.
ورغم العلاقة المتينة التي تجمع الحرس الثوري مع المرشد الاعلى، غير أنه يسلك طريقه نحو تكوين قوة سياسية مستقلة لها مكتب سياسي خاص بها، وأجهزة دعاية مثل وكالات أنباء وصحف والمجلات توليه سلطة تفوق السلطة التي يتمتع بها رئيس الجمهورية.
وبخصوص هذا يقول محمد السلمي، رئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية: “رسميًا، يحتل الرئيس المرتبة الثانية بعد المرشد في عملية صنع القرار، لكن من الناحية العملية فإن سلطة الحرس الثوري الإيراني أقوى من سلطته. ويعد إسقاط الحرس الثوري الإيراني الطائرة الأوكرانية في الثامن من كانون الثاني/ يناير عام 2020، الحادث الذي أودى بحياة 176 شخصا دون إبلاغ الحكومة لمدة ثلاثة أيام، خير دليل على ذلك”.
ومن سخرية التاريخ؛ أن رئيسي يدين بمنصبه الرئاسي إلى الولايات المتحدة، ففي الثاني من كانون الثاني/ يناير 2020؛ لقي الجنرال الأسطوري قاسم سليماني مرشح الحرس الثوري الإيراني، حتفه جراء استهداف موكبه في مطار بغداد بأمر من دونالد ترامب، لدرجة أن احتلال قائد الحرس الثوري الإيراني المرتبة الثانية عام 2021 خلف رئيسي كان أمرًا متوقعًا.
اختار المرشد الإيراني المجبر بحكم منصبه على الالتزام بمبدأ الحياد، رئيسي عام 2016 مشرفا على مؤسسة “آستان قدس رضوي”، الأغنى في العالم الإسلامي، وهي التي تشرف على إدارة ضريح الإمام الرضا الشهير في مدينة مشهد، الذي يستقبل كل عام ما بين 17 و20 مليون حاج والمؤسسات المالية الضخمة التابعة لها.
وبالنظر إلى أن زوجة إبراهيم رئيسي هي ابنة إمام هذه المؤسسة، وممثلة المرشد في هذه المدينة، يمكن القول بأن محافظة خراسان الرضوية؛ حيث تقع مدينة مشهد، بمثابة حصن هائل يستمد منه الرئيس الإيراني الحالي الثروة والدعم الديني والسياسي. وعليه، كان حصول ابراهيم رئيسي على 61.9 بالمئة من جملة الأصوات مجرد إجراء شكلي بعد إلغاء ترشح منافسيه الأوفر حظوظا من قبل مجلس صيانة الدستور، وهو هيئة غير منتخبة قريبة من الجناح المتشدد للنظام ومسؤولة عن التحقق من ولائهم للدولة.
في هذا الصدد؛ يقول المؤرخ وعالم السياسة جوناثان بيرون: “التوافق بين المرشد الأعلى وفيلق الحرس الثوري الإيراني والرئيس الجديد الذي سيمهد الطريق نحو المزيد من الاستقرار داخل النظام إحدى الأفكار التي رُوج لها خلال المناظرات الرئاسية”، ويضيف بيرون أن جميع السلطات تمسكها أفرع النظام الأكثر محافظة، وما دون ذلك مجرد خدع بصرية.
خولت الانتخابات الرئاسية الأخيرة للنظام النظر في ماهية الشخص الذي سيخلف المرشد الأعلى البالغ من العمر 83 عاما والذي يعاني من أزمة صحية. فبعد فوزه في الانتخابات؛ ازدادت فرص رئيسي في ذلك، غير أن الاضطرابات الحالية قلبت الموازين. وعليه؛ يتعين على رئيسي مستقبلا أخذ موقع مجتبى خامنئي، ثاني أبناء المرشد الأربعة – جميعهم رجال دين – الذي يدير “البيت” بعين الاعتبار؛ حيث يعمل مجتبي منذ سنوات سرا ليحل محل والده، لذلك أقام علاقات وثيقة مع الحرس الثوري الإيراني، وفي حال لم يتوصل مجتبي ورئيسي إلى اتفاق، فإن عواقب المعركة ستكون وخيمة.
عن طريق هذه الخلافة؛ يُمنح الحرس الثوري الإيراني إمكانية تحويل إيران من جمهورية إسلامية إلى دولة إسلامية دون تمثيل شعبي.
بدوره أكد مثقف إيراني يعيش في طهران رفض الكشف عن هويته: “لا يجب أن ننسى أن قيادة الحرس الثوري الإيراني ملتزمة تمامًا بالدفاع عن الجمهورية الإسلامية وليس إيران في وقت ينتفض فيه الشباب مطالبا بضرورة الفصل بين هذين المفهومين. لهذا السبب؛ لا تقيد السلطات مواجهة الشعب الإيراني، بما في ذلك مشاهيره وأبطاله الرياضيين وممثليه”.
بدورها تقول امرأة إيرانية تعيش في المنفى في فرنسا إن هذه الرؤية تبدو منتهية الصلاحية وغير مفهومة بالنسبة للشباب، مضيفة: “كلهم نامرادي، غير أن ما ينتظره الشعب الإيراني هو جافانماردي، فمتى سيأتي؟”.
المصدر: لوموند