ترجمة وتحرير نون بوست
ماذا يحدث إذا دعا أحدهم لانتخابات ثم لم يلبّي أحد تلك الدعوة؟! هذا هو ما أشعر به حيال الانتخابات الإسرائيلية القادمة في مارس، والتي يبدو أن بيبي (نتنياهو) قد دعا لها دون سبب واضح، اللهم إلا تمديد عمره السياسي كرئيس وزراء لإسرائيل.
عصر اليمين
إذا ظلت الأمور على ما هي عليه، قد يتم تحنيط بيبي في يوم من الأيام في مكتب رئاسة الوزراء في القدس، تمامًا كما يقبع جسد لينين في الكرملين، وقد نضطر لتغيير اسم منصبه إلى رئيس وزراء مدى الحياة. المُضحِك هنا هو أن 60٪ من الإسرائيليين لا يحبذونه كرئيس الوزراء، ولكن المشكلة هو أنهم يكرهون منافسه أكثر.
إذا ما أمعنت النظر في النظام السياسي الإسرائيلي، قد يأخذك عقلك إلى الاعتقاد بأن بيبي يدبر كل ما وقع من أحداث على مدار الأشهر الماضية لإجراء تلك الانتخابات، لا سيما عملية الجرف الصامد ضد غزة، والحروب كثيرًا ما تعزز أرصدة السياسيين — ولكن ليس دائمًا. نتنابني الشكوك أحيانًا في أن هذه الحرب لم تكن إلا جزء من خطته لإجراء انتخابات مبكرة، وحتى لو لم تكن، يبدو أنها كانت هدية من السماء لحملته الانتخابية.
بالإضافة إلى ذلك، تبدو الأفعال الإسرائيلية التي أدت إلى الهجمات الأخيرة أثناء الشهر الماضي، مثل الاعتداء على الحرم القدسي والتهويد المستمر في القدس الشرقية، بأنها أيضًا جزءًا من تلك الخطة، فهي بمثابة القماشة الحمراء التي توضع أمام الثور الهائج — أو في قول آخر الجناح اليميني المتطرف في صفوف حزب الليكود.
السلسلة الأخيرة من القوانين العنصرية، التي تسميها إسرائيل بقوانين المواطنة، تهيمن هي الأخرى على الرأي العام في إسرائيل، ورُغم توجيه الانتقادات للكثير من المقترحات العنصرية في الخارج، والتي غالبًا لن تمر في المستقبل دون بعض التعديلات، يبدو أنها تجد صدى لدى أكثر من نصف الإسرائيليين الذين أظهرت الاستطلاعات رؤاهم العنصرية عن الفلسطينيين، وقد تكون بذلك سندًا للحكومة في الانتخابات.
علاوة على ذلك، يمثل رفع الحد الأدنى من نسبة الأصوات لدخول الكنيست، من 2.5 إلى 4 بالمائة، حركة جديدة من الكنيست لشل حركة اليسار، والرقم 4 تحديدًا لم يأتي مصادفة، إذ أن الأحزاب العربية لا تفوز أبدًا بهذه النسبة، وهو ما يعني أنه ما لم تتحد كل تلك الأحزاب معًا، فإنها لن تكون جزءًا من الكنيست القادم، وهو ما يعني عدم حصول العرب على أي تمثيل، بعد أن كان تمثيلهم أصلًا ضعيفًا ولا يتجاوز نصف نسبىتهم الحقيقية على الأرض.
كانت تلك خطوة عنصرية خبثية بكافة المقاييس، إذ ستثبط بشكل واضح العرب عن التصويت، حتى وإن انضوت أحزابهم تحت لواء أحزاب يسارية أكبر، إذ سيرفضون في الغالب التصويت لأحزاب إسرائيلية من الأصل، لا سيما وأن الأحزاب العربية ستكون حركتها أقل حرية إذا ما التزمت بالخطوط العامة لأي حزب إسرائيلي.
بالإضافة إلى تهميش 20٪ من سكانها باسم اليهودية الدولة، ستضر هذا الخطوات الممنهجة بشكل واضح أيضًا اليسار الإسرائيلي، وستكون أغلبية الكنيست، مع اليمين القومي المتطرف، مساندة للاستيطان.
يعني هذا ببساطة أن الديمقراطية الإسرائيلية في طريقها إلى الموت.
في هذا السياق يمكننا فهم إقالة نتنياهو الاستعراضية لاثنين من الوزراء المعتدلين في حكومته، وهما يائير لبيد وتسيبي ليفني، والتي تمت تحت ذريعة تآمر أحزاب الوسط داخل الائتلاف للهيمنة على الحكومة وإقصاء اليمين، وهي نظريات مؤامرة خيالية بطبيعة الحال، ولكنها ذات تأثير جيد على ناخبي الليكود الذين يرتابون دومًا في أمر اليسار.
هكذا إذن تبدو فرص نتنياهو في تلك الانتخابات أفضل من سابقتها، حيث اضطر إبان الانتخابات الماضية لبناء ائتلاف هشّ مع الوسط الليبرالي وقوميّي اليمين، في حين نجح هذه المرة في تعطيل الوسط سياسيًا وتعزيز فرص اليمين بسياساته وتحركاته الأخيرة، مما يُنذر بفوز مريح لليمين الإسرائيلي.
قطار المحسوبية
دعوني أقول شيئًا قد يعتبره الكثيرون غريبًا: لن يهم في الحقيقة من سيفوز في تلك الانتخابات! في الحقيقة، لو فاز لبيد أو ليفني، لن يُحدِث ذلك تحولًا جذريًا، رُغم بعض التحسينات الطفيفة فيما يخص العدالة الاجتماعية، وربما التعامل بشكل أفضل مع محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، الذي قد يُدعَى للزيارة الرسمية، ولكنه ليس ممكنًا لأي رئيس وزراء إسرائيلي مقبل، مهما كانت خلفيته السياسية والأيديولوجية، أن يعقد اتفاق سلام مع الفلسطينيين، أو أي دولة مجاورة كلبنان أو سوريا، حيث ينعدم ببساطة أي إجماع داخل إسرائيل حول هذه المسألة، كما تغيب الشخصيات القوية القادرة على اتخاذ خطوات كهذه، مثل بيجين في السابق.
لن تُحدث هويات المنتخبين إلى الكنيست أي فارق أيضًا، فرُغم أنه الكيان التشريعي في إسرائيل، إلا أنه نادرًا ما يتخذ خطوات ذات أثر حقيقي في المجتمع الإسرائيلي، حيث يتم تطبيق سياسات الحكومة من خلال دائرة ضيقة للنخبة السياسية والعسكرية، تتضمن رئيس الوزراء ووزراء الدفاع والمالية، وقيادات المخابرات والجيش. يقتصر دور الكنيست على كونه منصة لأصوات المؤيدين والمعارضين، وهو ما أتاح للأحزاب الأرثوذكسية والمزراحية والحريدية أن تلعب دورًا في الحكومات السابقة، إذ لم تكن لتلك الأحزاب أي نية في المشاركة بالفعل في صنع القرار، بقدر ما أرادت خلق منبرًا سياسيًا تنشر منه رؤاها عن الأخلاق اليهودية وسلطان الحاخامات الاجتماعي.
في الديمقراطيات الأخرى، يكون دور المجلس التشريعي مراقبة الحكومة والسلطة التنفيذية، ومراجعة السياسات والمصروفات، والتأكد من قيام الحكومة بعملها بشكل شفاف وعادل، ولكن الكنيست لا يقوم بأي من ذلك، ولا يراقب عمل رئيس الوزراء ولا الجيش ولا المخابرات كما يجب أن يكون في الديمقراطيات الحقيقية، فأعضاؤه يستخدمونه كمنبر لإطلاق مزايداتهم، والإدلاء بأحاديث وتصريحات للصُحُف، وتملّق الناخبين الذين يدعمون قمع الفلسطينيين من أجل الانتخابات المقبلة؛ فكلما ارتفع صوتك في صحف “إسرائيل اليوم” و”إسرائيلي ديلي”، كلما علا قدرك على قائمة الحزب، وأصبح دخولك الكنيست أمرًا مرجحًا، وربما حصولك على حقيبة وزارية.
هذه هي السياسة الإسرائيلية اليوم: قطار وقوده المحسوبية.
ليس أدل على ذلك من المسيرة السياسية لإيهود أولمرت، الذي بدأ وزيرًا على هامش إحدى الحكومات ليصبح عمدة القدس ومن ثم رئيسًا للوزراء، وكانت مسيرته ثمرة للاحتيال قبل أي شيء، إذ أنفق عليه الإسرائيليون، أو يهود الشتات مثل الملياردير دانييل أبراهام، والذي أغدق عليه بأمواله.
يحدثنا الآن أولمرت عن قُبح السياسية الإسرائيلية وكيف تفتقر إلى أي حلول لمشاكل البلاد الحقيقية، ولكنه هو من تردد لعقد اتفاق سلام مع سوريا أو الفلسطينيين حين كان في موقع السلطة، وشن حربًا على غزة بدلًا من ذلك.
هؤلاء هم السياسيون الإسرائيليون: تتلبسّهم روح هاملت فقط عندما يتركون مقاعدهم.
“بيبي”
لا يهدف بيبي إلى ترك بصمته كرجل دولة مر على تاريخ إسرائيل، ولا لحل أزمتها القومية، وإنما هدفه الوحيد هو البقاء ليس إلا، فهو يحب سماع صوته وهو يخطب في الأمم المتحدة، أو أمام أعضاء الكونجرس؛ يشعره ذلك بالنشوة.
لا يملك بيبي أي رؤية استراتيجية، ولا يملك رغبة حقيقية في العبور بإسرائيل من النقطة التي تقف فيها اليوم إلى مستقبل أفضل سياسيًا، فهو راضٍ عن الحماس الأيديولوجي الذي يمده به المستوطنون، ويشعر بالسعادة وهو يحرِّك تلك الأوركسترا اليمينية حريصًا ألا يعلو صوت أحد عليه.
في الحقيقة، أنا أفضّل انتصار شخص من اليمين الأكثر تطرّفًا مثل ليبرمان أو بينيت أو دانون، ليصبح رئيسًا للوزراء ويكشف فاشية اليمين الإسرائيلي للعالم، حينها سيكون صعبًا تصديق تلك الكلمات البراقة عن المستقبل — أو الهراء لنكون أكثر دقة.
حين تنتخب إسرائيل اللحظة المشيحانية نفسها، ستنطوي صفحة الشعب الإسرائيلي صاحب الديمقراطية الليبرالية، وتبدأ مرحلة الثيوقراطية اليهودية، ولن يكون هناك أي حنين لأيام الكيبتوتز والديمقراطية الاجتماعية، وسيُكنَس كل ذلك في كتب التاريخ لتظهر إسرائيل على حقيقتها، وكما وصف أحدهم، لتحين ساعة ميلاد ذلك الوحش الهمجي في القدس.
كلما ظهر ذلك الوحش سريعًا، كلما كان ذلك أفضل ليُدرك العالم أهمية التحرّك لوقف تلك الكارثة، وإلا ستزداد الأمور انحدارًا بشكل يصعب تداركه، قبل أن تحين فرصة تاريخية أخرى للتقدّم من جديد.
المصدر: ميدل إيست آي