ترجمة: حفصة جودة
ربما وصلت مسيرة أسود الأطلس في كأس العالم قطر 2022 إلى نهايتها، لكن الانتصارات التي حققوها ما زال يتردد صداها خارج الملعب، فبالنسبة إلينا كشتات مغربي يعيش في أوروبا الغربية، كانت هذه التجربة مثيرة للتغيير.
خلال البطولة، اجتمع المغربيون من جميع الأعمار لمشاهدة المباريات والاحتفال بانتصار الفريق الوطني للمغرب، لقد شعرنا بفخر غير مسبوق منحنا حماسة جديدة لهويتنا المتطورة.
تاريخيًّا، واجه بناء الهوية في المجتمع المغربي بأوروبا الغربية تحديات عديدة، فقد شعرنا لفترة طويلة بعدم الانتماء الحقيقي لدولنا المضيفة، ولم يكن لنا مطلقًا هوية متماسكة نظرًا إلى التنوع الكبير بين سكّان المغرب من أمازيغ وعرب وأفارقة.
لكن كأس العالم غيّر ذلك، ففي حديثي مع المغاربة الذين يعيشون في أوروبا، رأيت كيف ألهمتهم انتصارات أسود الأطلس الهائلة لاحتضان هويتهم المغربية والافتخار بها.
لست هناك ولست هنا
تضرب كلمات الشاعر الفلسطيني العظيم محمود درويش عن النزوح والانتماء، على وتر حسّاس لدى الشتات المغربي في أوروبا، حيث يقول: “أنا من هناك أنا من هنا، ولست هناك ولست هنا”، هكذا يشعر الكثير منا.
هناك اليوم ما بين 3 إلى 5 ملايين مغربي وأشخاص من أصول مغربية يعيشون في أوروبا، بعضهم جاء إلى دول مثل هولندا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا وبلجيكا وألمانيا كعمّال أثناء فترة النمو الاقتصادي في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية.
في مناخ سياسي يرى التنوع والهجرة كمشكلة بينما تتزايد الإسلاموفوبيا، شعر المغربيون في أوروبا بأنهم مختلفون، فقد شعر الكثير من الجيل الأول والثاني من المغاربة الأوروبيين بالانفصال عن البلد الذي يعيشون فيه والبلد الذي ينحدرون منه، بمن فيهم أنا.
يعتقد الكثير من المغاربة أن جهود الاندماج تلك ستجعل مجتمعهم المضيف يتقبّلهم، ومع ذلك إن هذا الاستيعاب اللغوي لا يغيّر مكانتهم في المجتمع، ويبعدهم كذلك عن مجتمعهم الأصلي.
تزايدَ شعوري بالخوف من الإقصاء في بلجيكا -حيث ولدت- بسبب المواجهات الروتينية العنصرية وصعود وتطبيع الخطاب اليميني المتطرف عبر أوروبا وسط ما أسموه “أزمة المهاجرين”، وبدلًا من إثارة التعاطف، ساهمت صور اللاجئين القادمين عبر البحر المتوسط في تضخيم وتبرير إقصاء مجتمعي في أوروبا.
ومع ذلك لم يجد الكثير منا شعورًا بالانتماء إلى أرض أجداده كذلك، فعندما نزور المغرب يقولون إننا “لسنا مغاربة حقيقيين”، يرجع جزء من ذلك إلى الضغط الذي نشعر به لاضطرارنا إلى إخفاء هويتنا المغربية.
يقول صديقي نور الدين الذي وُلد ونشأ في إسبانيا: “أشعر بالخجل من إظهار هويتي المغربية لأن ذلك يجعلني أقل إسبانية، ولأنني أيضًا لست مغربيًّا تمامًا فأنا لم أنشأ هناك”.
أخبرني زوجان مغربيان يعيشان في بلجيكا أنهما يتحدثان الفرنسية فقط مع أطفالهما، لأنهما يخافان من الإساءات العنصرية إذا تحدّثا معهم باللغة العربية أمام الجميع، وأضافا: “إننا نندم على هذا القرار، فأطفالنا يشعرون بالانعزال عن ثقافتهم المغربية لأنهم لا يتحدثون لغة تراثهم”.
يعتقد الكثير من المغاربة أن جهود الاندماج تلك ستجعل مجتمعهم المضيف يتقبّلهم، ومع ذلك إن هذا الاستيعاب اللغوي لا يغيّر مكانتهم في المجتمع، ويبعدهم كذلك عن مجتمعهم الأصلي الذي لا يفهم قرارهم بل يحكم عليهم.
التحدي الآخر الذي يواجه الشتات المغربي هو الافتقار إلى التماسك داخل المجتمع المغربي الذي تحرّكه الانقسامات العرقية واللغوية والثقافية، فتقاطع الثقافة العربية مع الأفريقية مع الأمازيغية إضافة إلى التاريخ يجعل الهوية المغربية معقّدة ومرنة في الوقت نفسه، وكما أظهر كأس العالم، هناك نقاشات داخل وخارج المغرب حول أكثر العناصر هيمنة وأيها يحدد الأمة.
كمتخصّصة لغوية أبحث حاليًّا في اللغة كعائق أمام الرعاية الصحية للمجتمع المغربي في بروكسل، حيث إنني أواجه تحديات التنوع اللغوي داخل مجتمعي، فلدينا 4 لغات هي العربية المغربية أو ما يُعرَف بالدارجة، والأمازيغية لغة السكان الأصليين للمغرب والتي تتفرّع إلى 3 لهجات: تاريفيت وتمازيغت وتشلحيت.
ورغم أنني أستطيع التحدث بالدارجة والتشلحيت، إلا أنني أواجه عقبات مع أفراد المجتمع الذين يتحدثون لهجتَي الأمازيغ الأُخريين فقط، يمتدّ هذا الحاجز اللغوي إلى بقية أفراد مجتمعي، فهؤلاء الذين لا يتحدثون الدارجة كلغة مشتركة يتمسّكون بنفس اللهجة الأمازيغية التي تتحدثها جماعتهم.
من “أشبال” إلى “أسود”
التقيت رشا -التي تدرس الطب ونشأت في فرنسا- عندما كنا نشاهد عرضًا بمكان عامّ لمباراة المغرب وكندا، ورغم أن الواحدة منّا غريبة عن الأخرى تمامًا، إلا أننا تواصلنا فورًا كمغاربة وابتهجنا واحتفلنا معًا.
أرسلت رشا رسالة لاحقًا تقول فيها: “أعتقد أنني لم أكن فخورة من قبل بكوني مغربية، ولأول مرة في حياتي أرى تمثيلًا جيدًا للمغرب: هتافات المشجعين وملابسهم التقليدية وقيم احترام الوالدَين، خاصة الأمهات، والحفاظ على صلاتنا سواء فزنا أو خسرنا”.
بالنسبة إلى الكثير منّا، كانت تغطية انتصارات الفريق المغربي هي أول شيء إيجابي نراه عن المغاربة، ورغم تصاعد التوترات مع الشرطة في عدد من المدن الأوروبية والتي غطّت على بعض الاحتفالات، إلا أن وسائل الإعلام الدولية احتضنت المشجعين المغاربة وفريقهم.
أثارت منشورات وسائل التواصل الاجتماعي ومقالات مدح اللاعبين المغاربة ومشجعيهم عرضًا مغاربيًّا لم أشهده من قبل في أوروبا، لقد فتحت الباب أمام أفراد مجتمعي لإظهار فخرهم بثقافتهم المغربية في الشوارع وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.
كانت تجربة للشعور بالتمثيل والقبول وليس الاختلاف، في أثناء المباراة بين بلجيكا والمغرب أخبرتني نورا -محاسبة ومواطنة بلجيكية- أنها تشجّع المغرب بكل فخر لأن الفريق المغربي “يشبهنا”.
إن رؤية أنفسنا ممثَّلين في المراحل النهائية لكأس العالم، ذلك المكان الذي بدا أنه من المستحيل الوصول إليه، قد منح الأجيال القادمة من المغاربة في الشتات الشجاعة للحلم بأحلام عظيمة.
عزّز الركراكي من هويتنا المتقاطعة بالتأكيد على تمثيل الفريق للمغرب ولأفريقيا أيضًا، كان ذلك تأكيدًا هامًّا على التنوع الثقافي المغربي الذي لا يمكن اختزاله بالجزء العربي من هويته فقط.
أصبح آدم ذو الـ 9 سنوات، والذي وُلد ونشأ في فرنسا لأبوين مغربيَّين، مهووسًا بأسود الأطلس منذ رأى أخبارهم تتصدر الصفحات الأولى من الصحف الفرنسية، كما يقول والداه إنه كان يرتدي قميص المغرب في المدرسة أيام المباريات، وقرر أن حكيم زياش لاعبه المفضل لأنه “وُلد في أوروبا” أيضًا.
يقول والداه إنها المرة الأولى التي يبدي فيها اهتمامًا بتراثه المغربي، قضى آدم ساعات يحفظ النشيد الوطني المغربي، وشعر بالفخر والاتصال بالمغرب بطريقة لم يشعر بها من قبل.
وبالإضافة إلى الشعور بالفخر بهويتنا المغربية، فقد وحّدونا أسود الأطلس أيضًا، لقد أظهروا لنا أن الاختلاف قوة وليس عقبة، فأكثر من نصف المنتخب المغربي وُلدوا في أوروبا ولهم نفس التنوع الثقافي واللغوي تمامًا كمجتمعاتنا.
بينما تُرى اللغة الوطنية كعلامة أساسية للهوية وأساس التماسك لمعظم الفرق الوطنية، إلا أن فريق المغرب كشف عن أن هذا التماسك يتجاوز اللغة ويمكن بناؤه بالإخلاص والفخر، لقد ألهمنا قتال اللاعبين المغاربة حتى آخر دقيقة لتحقيق النجاح لبلادهم وتجسيد جميع أطياف الثقافة المغربية “تمغربية”، للفخر بأنفسنا ولنقول إننا مغاربة بغضّ النظر عن مكان ميلادنا أو اللغة التي نتحدث بها.
عندما سُئل مدرّب المغرب، وليد الركراكي، عن تمثيل العالم العربي في كأس العالم، عزّز الركراكي من هويتنا المتقاطعة بالتأكيد على تمثيل الفريق للمغرب ولأفريقيا أيضًا، كان ذلك تأكيدًا هامًّا على التنوع الثقافي المغربي الذي لا يمكن اختزاله بالجزء العربي من هويته فقط.
لقد ذكّرنا أسود الأطلس بأن المغربية تشمل التنوع اللغوي والثقافي، لقد منحونا الأمل بأننا نستطيع تعريف أنفسنا كمغاربة وأوروبيين، وأننا لسنا بحاجة لأن نتخلى عن واحدة من أجل الأخرى، بسببهم أصبحنا نجرؤ على الحلم بأن تقبل أوروبا التعددية الثقافية وتحتضنها أيضًا.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية