في عام 2016 كُشِف عن سيارة إيطالية مصنوعة بأكملها من معدن التيتانيوم، عُرفت باسم “إيكونا فولكانو تيتانيوم“، ووصل سعرها آنذاك إلى 2 مليون و780 ألف دولار أمريكي، كانت بمثابة ثورة في عالم صناعة السيارات لما تتمتع به من شكل رائع ومادة فولاذية قوية دفعت البعض لتسميتها بـ”سيارة الأحلام”.
كانت تلك التجربة إيذانًا باستخدام التيتانيوم منفردًا في إحدى الصناعات المعدنية الثقيلة، ما جعله يتبوّأ مكانة كبيرة في بورصة الاهتمامات، لا سيما بعدما تعددت المجالات والصناعات التي يتداخل فيها، والتي تشكّل في معظمها قائمة الصناعات المستقبلية التي تركز عليها القوى الاقتصادية الكبرى.
أصبح هذا العنصر الذي يتّسم بالصلابة والصمود والمقاومة العالية للتآكُل، ساحة للتنافس بين أباطرة الاقتصاد والصناعة في العالم، وتحوّلَ في غضون سنوات معدودة إلى مادة رئيسية في صناعة أجسام الطائرات وهياكل الصواريخ وقطع المحركات، بجانب استخداماته الأخرى التي زادت من قيمته ومكانته وعززت من جهود التنافس لأجل استخراجه والحصول على أكبر قدر ممكن منه.
ما هو التيتانيوم؟
يحتل التيتانيوم المرتبة التاسعة الأكثر وفرة في القشرة الأرضية، وهو عنصر كيميائي يحمل الرقم (42) من حيث ترتيبه في الجدول الدوري، ووزنه الذري (22)، وهو فلز خفيف الوزن ذو لون أبيض فضّي وأحيانًا رمادي، لمّاع، يشبه في خواصه السيليسوم من ناحية خفته بالمقارنة مع الحديد، إذ تبلغ كثافته 3.34.
كما أنه أصلب من الألومنيوم بنحو 12 مرة، وذلك سرّ تميُّزه وقيمته، كما أن مقاومته للتآكل والصدأ عالية جدًّا وينافس البلاتين في تلك الخاصية، ولديه قدرة كبيرة على تحمل درجات حرارة تفوق 600 درجة مئوية، ويحتفظ بتماسكه وقوته عند درجات حرارة تبلغ 500 درجة مئوية.
وفي الغالب يتمّ العثور على التيتانيوم ممتزجًا ببعض الأشكال الأخرى كالورتيل والإلمنيت في رمال الشواطئ، ويتم إنتاجه من خلال الجمع بين الورتيل مع فحم الكوك أو القطران مع غاز الكلور، ثم بعد ذلك يتم استخلاص رابع كلوريد التيتانيوم بعد التعرض لدرجات حرارة عالية، من أجل تحويله إلى منتج إسفنجي من خلال عملية كيميائية، ثم يذوب ذلك المنتج إلى سبائك.
اُكتشف المعدن لأول مرة على يد العالم الجيولوجي وليام غريغور عام 1791، حين عثر على تضمين لهذا الفلز داخل تشكيلة من المعدن في مقاطعة كورنوال البريطانية، وبعد إجراء بعض التجارب تبيّن وجود عنصر معدني جديد، وعلى الفوز قام بمراسلة “الجمعية الملكية الجيولوجية في كورنوال” بالإضافة إلى مجلّة علمية ألمانية متخصّصة في الكيمياء، لبحث هذا المعدن وتركيباته وخصائصه.
بعد 4 سنوات من إجراء الأبحاث المعملية الكيميائية والفيزيائية على هذا العنصر الجديد، تمكّن مارتن كلابروت من التوصُّل إلى اكتشاف المعدن بشكل رسمي وأطلق عليه “تيتانيوم” نسبة إلى “تيتان” إله الأساطير عند الإغريق قديمًا، في إشارة إلى أهمية هذا العنصر الجديد الذي من المتوقع أن يصنع المعجزات.
ظلَّ التيتانيوم أسير المختبرات، مكتفيًا بالتجارب المعملية حتى عام 1932، حين بدأت إرهاصات إنتاجه بشكل عملي لاستخدامه في المجالات الحياتية، وذلك عندما أنتج العالم وليام كرول هذا الفلز باستخدام الكالسيوم ثم طوّره باستخدام المغنسيوم، لتبدأ مرحلة إقحامه الصناعات المختلفة.
كان الاتحاد السوفيتي الأسرع في توظيف هذا المعدن الجديد لخدمة أهدافه الصناعية، وفي خمسينيات وستينيات القرن العشرين كثّف السوفيت من استخدام التيتانيوم في التطبيقات العسكرية فوظفوه في صناعة الغواصات النووية، مثل غوّاصات المشروع 705 ليرا وغواصة كي-278 كومسوموليتس.
وفي المقابل ارتأت الولايات المتحدة لنفسها أن تحذو حذو السوفيت في هذا المسار، في ظل الحرب الباردة المشتعلة بين القطبَين، وبالفعل وضعت أمريكا التيتانيوم ضمن المعادن الاستراتيجية التي أولتها أهمية كبيرة، رغم ضآلة الإنتاج في ذلك الوقت وهيمنة الشركات السوفيتية على السوق، حيث كانت شركة فيسيمبو-أفيسما الروسية أكبر منتج للتيتانيوم، بحصّة سوق تبلغ 29% من الإنتاج العالمي.
يدخل التيتانيوم في العديد من الصناعات الحيوية
خارطة الإنتاج
تحتل 6 دول فقط النصيب الأكبر من الإنتاج العالمي من التيتانيوم، على رأسها الصين التي تتصدّر القائمة بحجم إنتاج بلغ 100 ألف طن متري، يتمّ استخراجها من 108 مناجم موزعة في 21 مقاطعة، وتعدّ مقاطعة سيتشوان هي المنطقة الرئيسية لإنتاج هذا المعدن في البلاد.
وتأتي في المرتبة الثانية روسيا بإنتاج يصل إلى 45 ألف طن متري، ويتم استخراج الكمية الأكبر من هذا المعدن من 3 مناجم فقط هي منجم بودودجسكي في جمهورية كاريليا ، ومنجم روشار في منطقة الأقصى الشرقية الفيدرالية، ومنجم يوغو فوستوشنايا جريميخا في منطقة مورمانسك.
وقد أعلنت موسكو عمّا أسمته بـ”وادي التيتانيوم” في سفيردلوفسك أوبلاست عام 2010، وهي منطقة اقتصادية تركّز على صناعة منتجات التيتانيوم وترأسها الشركة الروسية VSMPO-AVISMA، أكبر منتج للتيتانيوم في العالم.
تحل اليابان ثالثًا بواقع 40 ألف طن متري، ويعدّ منجم كاباساوا الواقع في مدينة سينداي في منطقة توهوكو، أكبر المناجم المنتجة لهذا المعدن، كما تعدّ شركة Osaka Titanium Technologies Corporation ثاني أكبر منتِج لهذا المنتَج في العالم.
تأتي في المرتبة الرابعة كازاخستان بحجم إنتاج بلغ 27 ألف طن متري، وتتركز مناجم التيتانيوم شرق البلاد، فيما تعددت الاكتشافات خلال السنوات الأخيرة والتي جعلت من كازاخستان قبلة للشركات العالمية للتنقيب عن المعادن الاستراتيجية ذات القيمة الاقتصادية الكبيرة، والتي تحولت إلى مورد اقتصادي كبير للشعب الكازاخي.
وتحل أوكرانيا خامسًا في قائمة الستة الكبار، بإنتاج بلغ 10 آلاف طن متري، ورغم قلة الإنتاج لكنه أنعش الصناعات الأوكرانية بشكل ملحوظ، وفتح الباب أمام الكثير من صناعات السبائك للمنتجين الصغار، وفي المركز السادس تأتي الهند بإنتاج يبلغ 500 طن متري، فيما تعدّ الدولة الهندية موطنًا لرواسب الروتيل الرئيسية، وهي أحد المعادن الأساسية التي تمتزج بالتيتانيوم.
أهميته الاقتصادية
تتعدد استخدامات التيتانيوم في الكثير من الصناعات الكيميائية الهندسية والطبّية والعسكرية وغيرها، حتى أنه أصبح عنصرًا أساسيًّا في العديد من المنتجات التي باتت تشكّل عصب الحياة لملايين البشر، ويعدّ مجال الطلاء والدهانات هو الأكثر استخدامًا لهذا المعدن، إذ إن أكثر من 95% من خامات التيتانيوم تستخدَم في إنتاج الأكسيد TiO2، المستخدم في صناعة الطلاءات ومعاجين الأسنان واللدائن، وكذلك في الورق.
يعود هذا الاستخدام إلى ما يتميز به ثنائي أكسيد التيتانيوم من خصائص كيمائية كمقاومته للبُهُوت الناتج عن أشعّة الشمس، ولديه قدرة على مقاومة درجات الحرارة العالية والتعامل مع الظروف المناخية البحرية، بجانب أنه داكن معتم غير شفاف، لذلك يتم إضافته إلى المنتجات البلاستيكية من أجل منحها اللون الأبيض.
ومن المجالات المهمة التي يستخدَم فيها التيتانيوم تحضير السبائك، وذلك بإضافة كميات قليلة منه تتراوح بين 0.01% و0.1% في صناعة الفولاذ للحصول على عدة أنواع من السبائك الصلبة مثل سبيكة فرّوتيتانيوم بسبب قدرة المعدن على التقليل من حجم الحُبَيبَات البلّورية والحيلولة دون التآكُل بينها، بجانب أنه يعمل على سحب الأكسجين من الوسط وتقليل المحتوى الكربوني من الفولاذ، بما يساعد في النهاية على خلق سبائك قوية وذلك بالخلط مع معادن أخرى مثل الألومنيوم والفاناديوم والنحاس والحديد والمنغنيز والموليبدنوم.
وخلال السنوات الأخيرة فرض التيتانيوم نفسه كأحد المقومات الأساسية في تركيب المنشآت الصناعية، مثل المبادلات الحرارية والحاويات والخزّانات والصمّامات وغيرها، كما أصبح عنصرًا محوريًّا في الصناعات الكيميائية والنفطية، نظرًا إلى مقاومته للتآكُل ما جعله مطلبًا للكثير من التطبيقات الصناعية وتركيباتها.
كما يستخدَم كذلك في صناعة الحليّ والمجوهرات، خاصة تصميم الخواتم المصنوعة من التيتانيوم النقي والتي تأخذ قيمة كبيرة في هذا المجال، هذا بجانب استخداماته في صناعة هياكل ساعات اليد، وسكّ بعض النقود التذكارية والميداليات، وكان أول استخدام للمعدن في سكّ النقود عام 1999 في منطقة جبل طارق احتفالًا بقدوم الألفية.
برزت أهمية هذا المعدن أيضًا في الصناعات الطبية، مثل صناعة الأدوات الجراحية وزراعة العظام والمفاصل الاصطناعية، ومؤخرًا في مجال زراعة الأسنان، ولدى التيتانيوم قدرة كبير على الالتحام بالعظم، ما يجعله ذا قيمة كبيرة في عمليات التثبيت الداخلي للجهاز العظمي، وتعتمد عليه جراحة العظام بشكل كبير خلال السنوات العشر الأخيرة، إضافة إلى استخداماته في التصوير بالرنين المغناطيسي، إذ يوفّر عنصر الأمان للمرضى لإجراء مثل تلك الأشعة بما يملكه من خصائص وقدرات.
استخدامات التيتاتنيوم
دخل معدن التيتانيوم ضمن زمرة المعادن الاستراتيجية التي تشكّل عصب الصناعات المستقبلية، مثل الطيران والملاحة وصناعة السيارات والمركبات الفضائية وغيرها من المجالات الحيوية التي يعتبرها الباحثون جسر العبور نحو المستقبل، وهو ما زاد من قيمة المعدن ووضعه في منزلة متقدمة في أولويات القوى الاقتصادية الكبرى.
خصائصه الفلزية الفولاذية ومقاومته الشديدة للحرارة المرتفعة جعلته عنصرًا أساسيًّا في صناعة الطائرات وتدريع المركبات وصناعة السفن الحرية، وعبر مزجه مع بعض المعادن الأخرى كالزركونيوم والفاناديوم والنيكل دخل كذلك في صناعة المركبات الملاحية والفضائية من خلال حضوره القوي في الأنظمة الهيدروليكية.
يدخل التيتانيوم في صناعة هياكل العديد من الطائرات مثل لوكهيد إيه-12، لوكهيد إس آر-71 بلاك بيرد، بوينغ 737، بوينغ 747، بوينغ 777، إيرباص إيه 320، إيرباص إيه 330، إيرباص إيه 340.
وفي مجال السيارات والدرّاجات النارية، يحتلّ التيتانيوم مكانة كبيرة خاصة في السنوات الأخيرة منذ عام 2016 وحتى اليوم، حين بدأ الدخول في مجال صناعة السيارات كاملة من هذا المعدن، بمواصفات أكثر قوة وثباتًا، فالخواص الفلزية التي يتمتّع بها التيتانيوم، من ارتفاع المتانة وخفة الوزن بجانب الصَّلادة، جعلته أفضل وأكثر قوة في صناعة السيارات مقارنة بالمعادن الأخرى، ما يعني الدخول إلى المستقبل بأقدام ثابتة.
القيمة ذاتها اكتسبها التيتاتنيوم في مجال الإنشاءات المعمارية والفنية، حيث دخل في صناعة المعالم الشهيرة كنصب عالم الفضاء يوري غاغارين في مدينة موسكو، ومتحف غوغنهايم بلباو المكسوّ بألواحٍ من التيتانيوم في أمريكا الشمالية، فضلًا عن العديد من الأبنية الأثرية الأخرى التي يدخل هذا المعدن في إنشائها.
التنافس على المعدن
شهد العقدان الماضيان تكثيفًا لجهود التنقيب عن التيتانيوم، بجانب المعادن الاستراتيجية الأخرى في الدول التي تمتلك مخزونًا كبيرًا مثل الهند وكندا وجنوب أفريقيا وماليزيا، وذلك بعد النتائج التي توصّلت إليها الأبحاث عن أهمية هذا المعدن وقيمته في الصناعات الحيوية التي ترتكز عليها القوى الكبرى في حربها الاقتصادية.
وتواصل الولايات المتحدة والصين تحديدًا، كونهما طرفَي الحرب الاقتصادية الأكثر حضورًا على الساحة، صراعهما من أجل الحصول على نصيب الأسد من تلك المعادن الحيوية التي أصبحت عصب الصناعات المستقبلية الاستراتيجية، في ظل المنافسة الشرسة بينهما لتوسيع دائرة النفوذ وريادة العالم اقتصاديًّا.
تشير الدراسات إلى أن إمدادات تلك المعادن الاستراتيجية الموجودة في كوكب الأرض لن تستمر أكثر من 100 عام في ظل تزايد الطلب عليها، هذا بخلاف الكلفة الباهظة الخاصة باستخراج بعضها كالتيتانيوم والمشكلات المتعلقة بإضرار البيئة، ما دفع بعض الجهات الأكاديمية إلى البحث عن بدائل أخرى لتوفير تلك المعادن، حتى لو كان ذلك خارج حاجز الأرض بأكمله.
في عام 2009 نشرت صحيفة “التلغراف” البريطانية تقريرًا كشفت فيه عن مساعي الحكومة اليابانية في البحث عن تلك المعادن الحيوية فوق سطح القمر، حيث تحقّق المسبار الياباني “كاغويا” عام 2007 من وجود التيتانيوم في عيّنات أُخذت من سطح القمر بواسطة جهاز لقياس الطيف بأشعة غاما، بالإضافة إلى اليورانيوم والثوريوم والبوتاسيوم والمغنيسيوم والكالسيوم والحديد.
التقرير أشار إلى أن هذا الاكتشاف قد يفتح الطريق أمام البدء بأعمال التنقيب فوق سطح القمر، سواء للاستغلال التجاري أو حتى لبناء محطات طاقة نووية هناك من خلال مزيج المعادن المكتشَفة، فيما نقلت الصحيفة عن أحد أفراد طاقم العمل بالمشروع الفضائي، ويُدعى روبرت ريدي، قوله إنهم توصّلوا إلى نتائج مؤكدة بشأن وجود تلك المعادن بالفعل فوق سطح القمر.