يطوي العراقيون عامًا سياسيًّا بامتياز، بدأ بأزمة في أعقاب أول انتخابات مبكرة يشهدها العراق منذ عام 2003، وانتهت أشهره الأخيرة بانفراجة أسفرت عن تشكيل حكومة برئاسة محمد شياع السوداني، أمامها كثير من التحديات على المستوى الداخلي والخارجي، وأخذت على عاتقها العديد من التعهُّدات لتفكيك تراكمات وتركات ثقيلة، تبدأ بإعادة ثقة الشارع بالعملية السياسية ولا تنتهي بتوفير الخدمات التي طالب بها العراقيون جميع الحكومات منذ 20 عامًا لكنها لم تتحقق.
خلال عام كامل مرَّ الصراع السياسي بمراحل عديدة، بدءًا بالانتخابات والاعتراض على نتائجها، مرورًا بتأويل وتفسير النصوص الدستورية، وليس انتهاءً بعرقلة انتخاب رئيس للجمهورية ورئيس للوزراء، ومن ثم احتجاجات الصدريين واعتصامهم داخل المنطقة الخضراء، والتي خرجت على إثرها احتجاجات مضادة من قبل أتباع أحزاب الإطار التنسيقي.
للأزمة السياسية هذا العام امتداد لتداعيات أحدثتها الانتخابات المبكرة في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، والتي جاءت نتائجها بعكس ما تريد القوى المهيمنة، إذ أطاحت الانتخابات بعد الاحتجاجات بسلطان تلك القوى، ومنذ ذلك الحين حاولت بشتى الطرق تغيير الموازين لصالحها، وإعاقة استكمال الاستحقاقات المتمثلة في اختيار رؤساء البرلمان والجمهورية والوزراء.
بقيت الأزمة السياسية وتصريحات التخوين واتهامات التزوير تلاحق الفائزين بالانتخابات المبكرة، وعلى رأسها الكتلة الصدرية، حتى وجّه زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، نواب الكتلة الصدرية بتقديم استقالاتهم إلى البرلمان، في خطوة فاجأت الخصوم والحلفاء، ليدخل رجل الدين البلاد والعملية السياسية برمّتها في ارتباك وغموض كانا واضحَين في المواقف الداعية إلى التراجع عن القرار والجلوس إلى طاولة الحوار لحلّ الأزمة، حيث منح الصدر بذلك القرار المتسرع خصومه في الإطار التنسيقي الأغلبية وجعلهم الكتلة الأكبر داخل البيت التشريعي.
فتحَ انسحاب الصدر الأبواب لقوى الإطار التنسيقي، والتي قادت قواه حراكًا ومفاوضات مع عديد من الأحزاب الأخرى أفضت إلى حل تأخَّر عامًا كاملًا.
لكن القرار المفاجئ جاء بعد شهور من التعطيل وعرقلة جهود الصدر في تشكيل الحكومة، ليعلن زعيم التيار تعليقه العمل السياسي في 29 أغسطس/ آب احتجاجًا على موقف خصومه وتعطيلهم لنتائج الانتخابات المبكرة، أعقبت قرار الاعتزال اضطرابات اندلعت في بغداد وامتدت إلى عديد من المحافظات الجنوبية، إذ اقتحم أنصار الصدر المنطقة الخضراء ودخلوا إلى قصر الحكومة وإلى القصر الرئاسي ومبنى البرلمان، وبعد ذلك تدخلت القوات الأمنية وأخرجت المعتصمين من المنطقة الخضراء.
نتج عن ذلك وقوع اشتباكات بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة استمرت ليلة كاملة وأسفرت عن وقوع عشرات الضحايا، ليخرج الصدر في خطاب آخر يوبّخ أنصاره ويدعوهم إلى الانسحاب من المنطقة المحصنة أمنيًّا، ويمنح قوى الإطار التنسيقي التفرد بالقرار السياسي من جديد بقرار ابتعاده عن المشهد السياسي.
فتحَ انسحاب الصدر الأبواب لقوى الإطار التنسيقي، والتي قادت قواه حراكًا ومفاوضات مع عديد من الأحزاب الأخرى أفضت إلى حل تأخَّر عامًا كاملًا، ففي 13 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي تمكّن البرلمان من انتخاب عبد اللطيف رشيد رئيسًا للبلاد، ليكلّف بدوره محمد شياع السوداني بتشكيل الحكومة الجديدة بعد نحو عام من الانتخابات المبكرة التي أُجريت العام الماضي.
وبذلك منحت الأحزاب باتفاقها على حسم الرئاستَين -الجمهورية والوزراء- فرصة لإنعاش النظام السياسي في العراق، لكن الخلافات الحزبية يرجَّح أن تعود من جديد، إذ تشير التسريبات إلى أن الخلافات حاضرة في صفوف جميع الأحزاب المتحاصصة، لكنّ الخصام الشيعي الجديد هو الأبرز ويتمحور حول منح الوزارات الأمنية لجهات لها ارتباط بأجنحة وفصائل مسلحة في العراق وولاء للخارج.
ماذا بعد تشكيل الحكومة؟
قطع رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، بعد إتمام كابينته الوزارية، عديدًا من الوعود للعراقيين، وألزم نفسه بكثير من التوقيتات لإنهاء ملفات عالقة ومرحّلة من حكومة إلى أخرى، منها ما يتعلق بمطالب خدمية شعبية، وأخرى تتعلق باتفاقات سياسية وقّعها مع أطراف مختلقة خلال مفاوضات تشكيل الحكومة، منها ما يتعلق بالعلاقة بين بغداد وأربيل، وتصفير الأزمات بين الحكومتَين الاتحادية والإقليم، وسنّيًّا فيما يتعلق بإعادة النازحين والكشف عن مصير المغيّبين، وإعادة إعمار المدن المدمّرة خلال الحرب على تنظيم “داعش” الإرهابي.
في مقابل ذلك، تنتظر المدن الجنوبية إيجاد حلّ لأزماتها الموسمية، والتي تشهد بين فترة وأخرى على إثر عدم تحقيقها احتجاجات تطالب بالحياة الكريمة، ومحاسبة قتلة المحتجين خلال احتجاجات أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019 .
وبعد نحو شهرَين من تسلُّم السوداني الحكم وتشكيل كابينته، لا يبدو أنّ أيًّا ممّا اتُّفق عليه سياسيًّا قد تحقق، وهو ما ينذر بمشاكل جديدة قد تظهر إلى العلن في أي لحظة، خصوصًا أن المطالب السنّية لا تزال باقية كما هي، والمطالب الكردية هي الأخرى تنتظر التحقق، والمطالب الشعبية في المجمل بحاجة إلى قرارات سريعة.
بدا ذلك واضحًا في غياب الاتفاق السياسي الذي بانت ملامحه لدى فشل البرلمان في عقد جلسته الأخيرة، والتي كان من المفترض أن تشهد التصويت على الدرجات الخاصة، لكن الخلافات وغياب التوافق حالا دون أن تُعقد الجلسة التي كانت مقررة في 6 ديسمبر/ كانون الأول 2022.
ويتحدث كثير من النواب عن عودة الخلافات مرة أخرى إلى داخل البيت التشريعي، ويجري ذلك بعيدًا عن الصدريين الذين يراقبون المشهد من كثب من دون أي تصريح أو إشارة سياسية لزعيم التيار منذ قرار سحب أنصاره من البيت التشريعي.
اقتصاديًّا، وضع ارتفاع أسعار النفط عالميًّا العراق في مأمن من الاقتراض الخارجي، إضافة إلى تراجع حدة العجز في الموازنة التي من المفترض أن تستكمَل خلال الفترة المقبلة، إذ تتحدث الحكومة عن عزمها إعادة العمل في عدد من المشاريع التي تمَّ إيقافها خلال السنوات الماضية، بسبب العجز المالي الذي صاحب الانخفاض في أسعار النفط، منها مشاريع بنى تحتية في بغداد وعدد من المحافظات.
تنطلق الحكومة العراقية في بناء علاقتها مع الجوار والعالم من احتياجات داخلية تتعلق بالأمن الغذائي والدوائي والطاقة، ولا يمكن تأمينها إلا من خلال علاقات إقليمية ودولية ناجحة.
لم يسعف الانتعاش -الذي يعيشه العراق بسبب ارتفاع أسعار النفط- الدينار العراقي الذي يشهد تراجعًا غير مسبوق أمام الدولار الأمريكي، وسط ارتفاع مستمر لأسعار السلع في الأسواق المحلية، ويعزو خبراء الاقتصاد التراجع إلى أسباب عديدة، من بينها انخفاض كمّيات الدولار التي يبيعها البنك المركزي بشكل يومي عبر نافذة بيع العملة، ومن ثم انخفاض المباع من الدولار للتحويل الخارجي، الأمر الذي يتسبّب في طلب كبير لأغراض التحويل، ما أدّى إلى رفع سعر الدولار في السوق.
ورغم تعهُّد السوداني قبل توليه منصبه بإعادة سعر الصرف إلى ما كان عليه في عام 2020، فإنه لم يلتزم بتعهُّده، وأن موازنة 2023 هي الأخرى في طريقها إلى التأخر، من خلال عدم تقديمها إلى البرلمان والتصويت عليها، وهذا ما نتج عنه تقاطعات مختلفة تتحدث عن احتمالية تغيير سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار من عدمه.
على صعيد العلاقات الدولية، يتحرك السوداني بحذر شديد، من خلال زياراته لعدد من الدول المجاورة وحضوره القمة العربية الصينية، وتحدث في مرات عديدة عن تبنّي حكومته وانتهاجها سياسة الانفتاح الخارجي تجاه الدول الإقليمية والعالمية، بهدف كسب التأييد لحكومته التي تشكّلت بعد عام من التعطيل وأزمة داخلية استمرت أكثر من عام.
يريد رئيس الوزراء العراقي ومرشح قوى الإطار التنسيقي المقرّبة من إيران، كسر الصورة النمطية لولاء تلك الأحزاب لإيران بتجاوز إخفاقات الماضي التي ارتكبها سابقوه، من خلال تعزيز مكانة العراق الدولية ضمن المحيط الإقليمي وداخل المجتمع الدولي أيضًا.
تنطلق الحكومة العراقية في بناء علاقتها مع الجوار والعالم من احتياجات داخلية تتعلق بالأمن الغذائي والدوائي والطاقة، ولا يمكن تأمينها إلا من خلال علاقات إقليمية ودولية ناجحة، خصوصًا أن عام 2022 شهد توترات عند الحدود العراقية مع إيران وتركيا، وهو ما يمثل تحديًا آخر أمام الحكومة العراقية.
العراق في عام 2023؟
مع هيمنة أحزاب الإطار التنسيقي الموالية لإيران على البرلمان ووجود حكومة اختارتها هذه الأغلبية، تعزز طهران قبضتها على العراق الذي أصبح بمثابة “رئة اقتصادية”، خصوصًا أن الدور الإيراني سيكون أكبر بكثير ممّا كان عليه خلال الحكومات السابقة، على اعتبار أن هناك ضرورة إيرانية باستمرار العراق كدولة تابعة.
أما داخليًّا فيرجّح كثير من الخبراء بتفجُّر الخلافات من جديد، لا سيما فيما يتعلق بإجراء الانتخابات المبكرة والتي تضمّنها البرنامج الحكومي للسوداني، وصوّت عليه البرلمان خلال جلسة منحها الثقة، ويتوقع أيضًا ألّا يستمر صمت الصدريين كثيرًا، خصوصًا بما يتعلق بإجراء الانتخابات.
والانتخابات هي أحد أهم المطالب التي يريدها التيار الصدري، كما أن الخلافات لا تنحصر في ذلك، إذ يتوقع مسؤولون غياب الدعم السياسي الشامل لحكومة السوداني وحصره بأحزاب الإطار التنسيقي، بسبب عدم وفاء الحكومة بوعودها التي قطعتها للأحزاب السنّية والكردية.
ومن المحتمل أن تعود الأزمة السياسية، وأن يذهب العراق إلى حالة غير مسبوقة من هيمنة قوى الإطار على القرارَين السياسي والأمني بعد حملة تغييرات شملت مئات المسؤولين بين سياسي وأمني وعسكري، وتعيين عناصر من التنسيقي أو مقرّبين من قياداته مكانهم.
وطبقًا لما سبق، فإن احتمالات بقاء الحكومة قوية تتصرف بشكل يخدم جهة سياسية وحيدة صعبة، خصوصًا في حال قرار الصدر كسر اعتزاله العمل السياسي، إضافة إلى فرصة عودة الاحتجاجات الشعبية مرة أخرى، والتي أرغمت عبد المهدي على الاستقالة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.