يترقب الخمسيني عبد الله العبيد موسم الزيتون لشراء تنكة زيت وتأمينها لأسرته منذ بداية موسم عصر الزيتون، أملًا في الحصول عليها بسعر يناسب دخله الشهري، قبل أن ترتفع أسعار الزيت مع دخول منتصف الشهر الحادي عشر والثاني عشر.
يقول العبيد، مهجَّر من الغوطة الشرقية وربّ أسرة مؤلفة من 8 أفراد، لـ”نون بوست”، إنه لم يستطع هذا العام شراء أكثر من تنكة زيت واحدة رغم محاولته تأمينها بداية الموسم، نظرًا إلى ارتفاع سعرها، مضيفًا: “كنت أنوي شراء واحدة أخرى لاستخدامها في صنع المكدوس (أكلة محلية شعبية)، لكن حاليًّا أنا مضطر لشراء الزيت بالكيلو الأغلى ثمنًا كونه يباع بالمفرّق”.
يستحضر العبيد ذكريات ما قبل العام 2011، قائلًا: “كنا نعيش في منطقة لا تقلّ شهرة بمزروعاتها عن عفرين، بل تتجاوزها من حيث التنوع، فعفرين لا يصلح فيها إلا زراعة الزيتون وبعض الزراعات الأخرى القليلة، أما الغوطة الشرقية فهي تصلح لزراعة كل شيء وأولها الزيتون”.
مضيفًا: “يكاد مطبخ بيتنا يتفجّر من مؤونة الشتاء ما بين تنكات زيت الزيتون والمكدوس والمربى والزيتون والتين والزبيب المجفّف، أما اليوم فقد بات الكيلوغرام الواحد من الزيت يحتاج إلى تفكير قبل شرائه، أوضاعنا المعيشية باتت معروفة لدى الجميع”.
ويعدّ الزيت من المؤن التي لا يمكن أن تغيب عن بيوت الأسر السورية، إذ يستخدَم في وجبات الفطور والعشاء، ويدخل كمكوّن أساسي في طبخهم اليومي، إضافة إلى مؤونات الشتاء كالزيتون بأنواعه المختلفة والمكدوس، فضلًا عن استخداماته الطبية المعروفة.
وتفيد إحصاءات رسمية بأن سوريا أكثر الدول العربية من حيث استهلاك الفرد لزيت الزيتون، حيث سجّل استهلاك الفرد 4.6 لترات سنويًّا، ما جعلها ذلك الأعلى عربيًّا والرابعة عالميًّا.
عفرين الأولى بين المناطق السورية بالزيت
احتلت سوريا عام 2011 المركز الثاني عربيًّا في إنتاج الزيتون بعد تونس، والخامسة عالميًّا بعد إسبانيا وإيطاليا واليونان، فيما حلت في المركز الثالث على الصعيد العربي والسادس عالميًّا في مجال إنتاج زيت الزيتون بعد إسبانيا وإيطاليا واليونان وتونس والمغرب، بمحصول ناهز نحو 105 ملايين لتر، حسب إحصاءات المجلس الدولي للزيتون لموسم 2020-2021، وهو منظمة حكومية دولية تضم 44 دولة تستحوذ على 98% من الإنتاج العالمي من زيت الزيتون.
وتأتي عفرين بريف حلب في مقدمة المدن السورية بإنتاج الزيتون وزيتها، والذي يعتبَر من النخب العالي، بعدد أشجار وصل إلى 10 ملايين وأكثر من 696 ألف شجرة حسب ما قاله مدير زراعة غصن الزيتون بريف حلب، غازي عجينة، لـ”نون بوست”، كما تمثل أشجار الزيتون نسبة 90% من المساحة المزروعة التي تقدَّر بـ 92 ألفًا و981 هكتارًا.
وتقسم منطقة عفرين لـ 7 نواحٍ، هي عفرين، المعبطلي، راجو، بلبل، شران، الشيخ حديد وجنديرس؛ بمساحة تقدَّر بـ 3850 كيلومترًا مربعًا، أي ما يعادل 2% من مساحة سوريا تقريبًا.
أسعار لا تناسب واقع المعيشة
في حديث “نون بوست” مع آزاد عثمان، المتحدر من عفرين ومدير مكتب رابطة المستقلين الكرد السوريين بعفرين، أشار إلى أنه “قبل العام 2011 كان متوسط إنتاجية الشجرة الواحدة من الزيت الصافي تنكة (صفيحة معدنية سعة 16 كيلوغرامًا)، وهو إنتاج يكفي في كل الجغرافيا السورية أمام عدد الأشجار الكبير فيها، وكان سعرها آنذاك ما بين 2500 إلى 3000 ليرة سورية، أي ما بين 50 و60 دولارًا، حسب النوعية والجودة والعرض والطلب، أما اليوم فالشجر في عفرين يعاني من ضعف الاهتمام والعناية ما أثّر على إنتاجية الزيت”.
وحسب عثمان، فإن ضعف الاهتمام بالأشجار يعود لغياب أصحابها الأصليين عنها، وتولي مهمة العناية بها أشخاص لا يهمهم من الشجر إلا الإنتاج، والشجر عمومًا لا يعطي ما لم تقدّم له، كما أن عمليات التهريب إلى مناطق النظام ساهمت في ارتفاع أسعار الزيت الذي تراوح ما بين 44 و47 دولارًا للتنكة الواحدة حسب النوعية والنخب، في الوقت الذي يعاني فيه المواطن من ضعف الدخل وارتفاع مقومات المعيشة.
ووفقًا لفريق منسقو استجابة سوريا (فريق إحصائي)، فإن حدّ الفقر شمال سوريا ارتفع إلى مستويات جديدة بنسبة 0.21%، ما يرفع نسبة العائلات الواقعة تحت حد الفقر إلى 88.02%، كما تزايدت معدلات البطالة بين المدنيين بنسب مرتفعة للغاية وصلت إلى 85% بشكل وسطي (مع اعتبار أن عمّال المياومة ضمن الفئات المذكورة).
عوامل تؤثر على إنتاج زيت الزيتون
يشتكي أبو يوسف (اسم مستعار)، أحد مالكي حقل زيتون في ناحية راجو بريف عفرين، من ضعف إنتاج محصوله هذا العام مقارنة بالعام الماضي، وما زاد الطين بلة -حسب وصفه- هو قطفه للموسم في أوقات متقدمة عن الوقت الطبيعي لقطافه، بسبب كثرة السرقات ليلًا، بدل تأخير قطافه حتى تنضج الحبة، ما أدّى إلى تقلُّص إنتاجية أشجاره للزيت، وتسجيل ربح قليل لا يتناسب أبدًا مع الجهد والكلفة.
ورأى أبو يوسف أنه من الطبيعي ارتفاع أسعار زيت الزيتون بسبب ارتفاع تكاليف زراعته والعناية به، من أجور الحراثة والكسح (تقليم الأشجار بشكل دوري) وأجور القطف والعصر والنقل والسماد الذي سجّل 900 دولار للطنّ الواحد، فضلًا عن الأتاوات التي تفرضها الفصائل المسلحة على كل شجرة، هذا غير السرقات الحاصلة داخل المعاصر، وفق قوله.
ويضيف أبو يوسف أن هناك عوامل أخرى تؤثر على كمّية الإنتاج، كانخفاض نسبة الأمطار والجفاف، وعدم قدرة عدد من أصحاب حقول الزيتون على العناية بها وسقايتها وملاحقتها عندما تصاب بالأمراض، نظرًا إلى ارتفاع أسعار السماد والأدوية وضعف الدخل عند كثير من الفلاحين، كما أنه من المعروف أن أشجار الزيتون لا تحمل الثمار كل عام بالكمية ذاتها، وهو ما يعرَف بـ”المعاومة”، وهذا كله يؤثر على إنتاج الزيت.
عجز حكومي
لا توجد إحصائية دقيقة تتعلق بإنتاج زيت الزيتون لهذا العام في منطقة غصن الزيتون (منطقة عفرين وما حولها)، إلا أن التقديرات تشير إلى انخفاضه بنسبة 20 إلى 25% عن السنة الماضية، بحسب غازي عجينة، مدير زراعة غصن الزيتون بريف حلب، وعزا عجينة ذلك إلى موجة الصقيع التي أثّرت على حبات الزيتون، وبالتالي ضعف الإنتاج.
يرى عجينة، في حديثه لـ”نون بوست”، أن ارتفاع الأسعار يعود إلى ارتفاع كلفة الإنتاج، كما أن الأسعار تحدَّد بحسب الجودة وكمية الأسيد ونوع الزيتون، مشيرًا إلى أنه لا يوجد تصدير للزيت خارج سوريا.
ونفى عجينة وجودَ مشاكل تعيق إنتاج زيت الزيتون، باستثناء الحاجة إلى تبديل بعض قطع الغيار لمعاصر الزيتون، كما نفى بالعموم وجودَ معوقات كقَطْع الأشجار وفرض أتاوات على الأراضي المزروعة بالزيتون وعمليات احتكار من التجار، واصفًا التجاوزات إن حصلت بـ”الطفيفة”، مضيفًا أنه لا يوجد أي شكوى مسجّلة لدى المديرية من أي فلاح عن قَطْع شجرة واحدة.
في مقابل ذلك، أشار آزاد عثمان إلى أن مديرية الزراعة في غصن الزيتون بريف حلب لم تستطع أن تقدّم أي حلول لرفع سوية الإنتاج، ولم تستطع إيجاد حل لمسألة قَطْع الأشجار المنتشرة، ولا الضغط على الفصائل العسكرية لوضع حدّ لهذه الكارثة، حتى السلطات المحلية غير قادرة على ضبط السرقات والتحكُّم بالسعر.
مضيفًا أن عددًا من المنظمات حاولت طرح خطط لرفع سوية الإنتاج، لكن الإشكالية الكبرى من بين كل الإشكالات تكمن في اضطرار الفلاح قطف الزيتون قبل وقت نضوجه خوفًا من سرقته.
وتداول ناشطون مقاطع فيديو وصورًا على مواقع التواصل الاجتماعي، أيلول/ سبتمبر الفائت، تظهر قَطْعًا كثيفًا للأشجار في ميدانكي وشران في عفرين، مشيرين إلى أن القَطْع تمَّ على يد عناصر من فرقة السلطان مراد المنضوية في صفوف الجيش الوطني الموالي لتركيا.
فيما أفادت منظمة حقوق الإنسان في عفرين عبر فيسبوك، أن فصيل كتائب الوقاص المنضوي أيضًا في صفوف الجيش الوطني قطعَ 3 آلاف هكتار من الأشجار في جنديرس، فيما قطع عناصر فرقة السلطان مراد ما بين 500 ألف و650 ألف شجرة محيطة بسدّ ميدانكي وقرى أخرى في عفرين، حسب المنظمة.
وتقطع تلك الأشجار من أجل استخدامها كحطب في التدفئة.
ختامًا.. إنه لمن المحزن أن يواجه أهالي عفرين، صاحبة الـ11 مليون شجرة مباركة، غلاء زيت الزيتون وهم أكثر من ينتجه في سوريا، وتحديات لبيعه بسعر مجدٍ يغطي تكاليف الفلاحة والقطاف والعصر والنقل والتخزين والتسويق، وأكثر من ذلك عدم الأمان على أشجارهم ومحصولهم إن من السرقة أو من تسلط المجموعات المسلحة.