يظن الكثير أن الدعاية السينمائية بدأت من عند الثورة البلشفية، والحقيقة أن البلاشفة أضافوا الكثير للنظام الدعائي السينمائي، واستغلوا السينما كأداة ووسيط يمكن تطويعه وإحلاله داخل المنظومة البشرية، تبعتها الدعاية النازية، بيد أن الحكومة الإنجليزية أعملت قبلهم بسنوات قليلة نظامًا دعائيًّا سينمائيًّا تشكّلت ملامحه مع اشتعال الحرب العالمية الأولى، وبدأت فعليًّا عام 1915، ففكرة النظام الدعائي ذاتها كانت تراود الحكومة الإنجليزية، خصوصًا مع تصاعد الغضب الشعبي لسوء الأحوال قبل انطلاق الحرب.
شعور بالغضب ينبع من التفوق والامتياز الطبقي لطبقات معيّنة وارتفاع الضرائب خصوصًا مع بداية الحرب، بالإضافة إلى تناقص السلع وارتفاع الأسعار، والحقيقة أن الحرب غيّرت الكثير من الأشياء على المستوى الداخلي للدولة، فالغليان المصاحب لسوء الأحوال الاقتصادية، خمد بنسبة كبيرة مع اندلاع الحرب واتجاه الكثير من الأفراد إلى التجنيد تطوعيًّا.
وجدت الحكومة نفسها في موقف إيجابي، مع تدفُّق غير مسبوق من الحماس الوطني لدرجة أن ثلاثة أرباع مليون رجل توافدوا للتجنيد في أول شهرَين من الحرب، ما خلّف مساحة أكبر على مستوى الوظائف الداخلية، والتي أدّت إلى تحسُّن جذري في عدد كبير من أفراد الطبقة الدنيا.
هؤلاء كانوا متروكين بلا وظائف أو مصدر دخل قبل الحرب، ولكن على الناحية الأخرى اتجهت جميع الموارد الاقتصادية لسدّ حاجة الجيش البريطاني، وأصبح كل شيء في خدمة الحرب، فالمسألة أولًا كانت مسألة شرف، بيد أن ما خلّفته الحرب من نقاط إيجابية سمحت للحكومة بالتنفُّس، لكن لم يحدث أي فارق على المستوى المعيشي تقريبًا، بل ازدادت سوءًا.
التأثير على الرأي العام
مع بداية الحرب، بدأت الأمور تتجاوز المحلي، فرغم هدوء الجوّ العام على المستوى المحلي، تحت مسمّى الحرب والاستثناءات التي أجبرت جميع الأطراف الداخلية التركيز على جبهة واحدة، إلا أن الحكومة البريطانية شعرت بالحاجة للتأثير على الرأي العام الخارجي، وهذا لعدة أسباب مهمة، أولها مواجهة الدعاية الألمانية.
إثر ذلك، قرر رئيس الوزراء، هربرت هنري أسكويث، قبل بداية الحرب بحوالي 11 يومًا فقط، تدشين منظمة منوطة بالتأثير على الرأي العام في الخارج لدحض التصريحات والإشاعات الألمانية المغلوطة، والسبب الثاني لا يقلّ أهمية عن الأول، هو محاولة الاحتفاظ بالحلفاء وتكثيفهم أكثر حول بريطانيا، والتي في باطنها محاولة إقناع الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص والدول المحايدة على وجه العموم، بالانضمام إلى الحرب وتدعيم كفّتهم على كل المستويات.
في ذلك الوقت كانت السينما ظاهرة حديثة نسبيًّا، بيد أنها أثبتت حضورًا مهمًّا في بداية القرن جعلها الوسيط الأقرب لتنفيذ المشاريع الدعائية، رغم وجود أكثر من وسيط ولون دعائي آخر، غير أن السينما رسّخت لمكانة جوهرية داخل الثقافة الشعبية، لعدة أسباب أهمها سياسة التسعير التي قلّصت من المسارح والقاعات الأوبرالية والموسيقية.
أصبحت السينما الشكل السائد للترفيه الشعبي على كل المستويات، الجماهيري منها والتجاري، إذ أُنفق على السينما ما يساوي كل الأشكال الترفيهية الأخرى، فبحلول صيف عام 1916 حققت دور السينما أرباحًا خيالية وانتشارًا فائقًا، بيعت حوالي 20 مليون تذكرة سينما كل أسبوع، والحقيقة أن عملية إدخال السينما كوسيط داخل المنظومة الدعائية قد تأخّرت مقارنة بالرؤية التي أسّست لها الصناعة السينمائية والمسؤولون عن الدعاية الرسمية.
عُرض الفيلم الدعائي الأول في وقت مبكر من ديسمبر/ كانون الأول 1915، ولولا الظروف لكانت الأفلام الدعائية الرسمية ظهرت قبل الحرب، فمنتجو السينما ومسؤولو الدعاية الرسمية كانوا يطرحون قضية الدعاية السينمائية منذ بداية الحرب، ورغم أن السينما سبقت كل أشكال الدعاية الأخرى، غير أنها تأخّرت حتى نهاية عام 1915، رغم المكاسب الربحية والتغلغل الشمولي الهائل داخل كل طبقات المجتمع.
يرجع التأخير في تصدير أفلام سينمائية دعائية إلى منهجية طرح الفيلم نفسه من حيث الشكل، فبالنسبة إلى القائمين على الدعاية يجب أن تكون الأفلام الدعائية أقرب إلى الواقعية، لتسجّل التشابه الفعلي وترصد التماسّ بين الحقيقة والرؤية الفنية أو الرسالة الموجّهة داخل الفيلم، ويرصد الكاتب نيكولاس ريفز هذه الرؤية في كتابه “قوة الفيلم الدعائي: الحقيقة والأسطورة”:
“بطريقة مثالية، يجب تصوير مثل هذه الأفلام في الخطوط الأمامية، مع تسجيل كل الدراما والإثارة المصاحبة للعمل؛ إذا كان ذلك مستحيلًا، فإن أنواعًا أخرى من اللقطات الواقعية يجب أن تحل مكانها – القوات في التدريب، والمسائل اللوجستية التي تتعلق بدعم وصيانة جيش حديث كبير، والمتطلبات الجديدة التي فرضتها الحرب على الصناعة البريطانية وما إلى ذلك. فوق كل شيء، يجب أن تكون اللقطات حقيقية، “أفلام حرب بريطانية حقيقية، تختلف عن دراما الحرب المزيفة” كما جادل السفير البريطاني في بوخارست”.
أصدرت المؤسسة البريطانية “بريطانيا جاهزة (Britain Prepared)” أول أفلامها في 29 ديسمبر/ كانون الأول 1915، الذي عُرض في قاعة الإمبراطورية للموسيقى (Empire Music Hall) في لندن.
مكملًا: “تساعد هذه الملاحظة على تفسير الإصرار الخاص جدًّا حول أهمية النقطة الواقعية داخل المنتج. عُرضت أفلام حرب مزيّفة من قبل، لا سيما خلال حرب البوير الثانية، وقد خلّفت تلك التجربة شكوكًا كبيرة لدى الجمهور حول الأفلام التي يُزعم أنها تمثل حقائق الحرب. إذا نجحت الأفلام الرسمية/ الدعائية، فيجب أن تكون مختلفة تمامًا عن تلك الأفلام المزيّفة السابقة، وكان هناك إجماع على أن حقيقة مصدرها الرسمي ستقنع الجمهور بأن الأفلام كانت بالفعل حقيقية”.
لذلك ركّز النموذج الدعائي البريطاني في اتجاهه السينمائي على الواقعية في تسويق أفلامه على المستوى المحلي، داخل أفراد المجتمع أو حتى خارجيًّا بين الحلفاء، فهم ببساطة خلقوا عامل جذب ينزع إلى التعرّي والوضوح، لم يحاولوا إخفاء مصادر أفلامهم وصورهم، عكس الأشكال الأخرى من الدعاية التي حاولت دائمًا أن تخفي مصدرها وأن تخرج من المجهول.
السينما في الخدمة العسكرية
رغم ذلك لم تنطلق الدعاية السينمائية إلا في نهاية عام 1915، لأسباب تتعلق بالنظرة الدونية للسينما كفنّ، فبالنسبة إلى الكثير -في ذلك الوقت- كانت السينما مجرّد وسيلة ترفيهية مبتذلة خرجت من ضلع القاعات الموسيقية والمسارح، لكنها أقل من حيث القيمة الفنية والجمالية، والحقيقة أن السينما أخذت من قاعات الفنون الأخرى مأوى لها في طور الطفولة، بيد أنها سرعان ما خلقت مكانتها الفنية والتجارية، وامتلكت صالاتها الخاصة.
لذلك كان مفهوم تطويع السينما كوسيلة دعائية لكسب الحرب غير مفهوم وغير سائد وغريب، إلى جانب ذلك المعضلة الثانية التي أخّرت ظهور الأفلام الدعائية في بريطانيا تكمن في إقناع الأقسام الحربية المسؤولة بالفكرة، فهم على النقيض يظنّون أن تصوير أفلام من ذلك النوع سيفشي أسرارهم الحربية، لذلك كان على مسؤولي الدعاية العمل لفترات طويلة على إقناع الأقسام المنوطة بالحرب أولًا.
ظلت الحوارات دائرة، حتى وصل مسؤولو الدعاية إلى اتفاقيتَين مع Wellington House (الاسم الأكثر شيوعًا لمكتب الدعاية للحرب في بريطانيا، والذي كان يعمل خلال الحرب العالمية الأولى)، الاتفاقية الأولى تتعلق بتصوير محتوى من اللقطات يكفي لفيلم واحد، والثانية كانت اتفاقية مع لجنة The Trade Topical Committee (لجنة مثّلت شركات الأفلام الكبرى التي عملت في مجال الأفلام “الموضوعية” أو الواقعية)، والتي تنصّ على السماح بإرسال مصوّرين إلى الخطوط الأمامية، وهي الاتفاقية التي سمحت للعجلة الدعائية أن تدور، وأن يُبنى عليها بعد ذلك حتى وصلت إلى ذروتها من خلال التوزيع الخارجي.
أصدرت المؤسسة البريطانية “بريطانيا جاهزة (Britain Prepared)” أول أفلامها في 29 ديسمبر/ كانون الأول 1915، الذي عُرض في قاعة الإمبراطورية للموسيقى (Empire Music Hall) في لندن، مكان يستخدَم عادة لإطلاق منتجات السينما الأكثر شهرة وتجارية، وقد حضر العرض الأول للفيلم عدد كبير من المؤسسة الحاكمة، حيث قدّم اللورد الأول للأميرالية دعمًا للفيلم في خطاب رسمي، لقد نجح الفيلم بشكل جيد، وحقق المطلوب منه دعائيًّا أو تجاريًّا، واستمر عرضه في القاعة المرموقة لمدة شهر إضافي.
هذا بالإضافة إلى العروض في دور السينما الأخرى داخل لندن، وبحلول مايو/ أيار 1916 تمَّ عرضه في 61 مدينة خارج لندن، ليتحوّل بعدها رأي النخبة الحاكمة من حصر السينما داخل التفاهة والسذاجة المبتذلة، إلى الوعي بأهميتها المستقبلية والفنية، بيد أنه على الناحية الأخرى لم يجذب فئات أكثر من الجمهور، غير أنه كان مجرد عرض لتصنيع الذخيرة والتدريب العسكري والبحري، ولم يحمل قيمة فنية حقيقية، لكنه فتح الباب لإنتاج أفلام أخرى من النوع نفسه، قصيرة وطويلة، خلال الأشهر الستّة التالية.
تمَّ إطلاق 27 فيلمًا قصيرًا، روّجت لها الحكومة في صفحة خاصة داخل إحدى الصحف التجارية، لكن على الناحية الأخرى لم تحظَ الأفلام بمراجعات وردود فعل نقدية جيدة، كان أشدها قسوة مجلة The Cinema في افتتاحية بعنوان “صُنع مرة أخرى (Done Again)”، وجادلت بأن تسويق الأفلام لا يعتبَر أقل من “احتيال على جمهور السينما البريطانية الذي طالت معاناته”.
ترجع ردود الفعل النقدية والسيّئة والجماهيرية المتوسطة إلى طبيعة الفيلم نفسه، فالمشاهدون سيتوافدون بغرض مشاهدة شيء مثير لم يشاهدوه من قبل، خصوصًا أنهم يدخلون بانطباع مسبق عن تصوير الفيلم في الخطوط الأمامية، بيد أنهم على العكس لا يجدون شيئًا استثنائيًّا.
تفتقد المشاهد والصور للديناميكية والدراماتيكية المطلوبة لخلق جوّ محفّز وسردية جيدة قريبة من القتال، لكن الظروف ذاتها من الرقابة العسكرية المشددة على المصوّرين واللقطات، بالإضافة إلى القيود التكنولوجية على الخطوط الأمامية، أحدثت فقرًا في المعنى الدرامي والجمالي، بل ركّزت على الأنشطة الأخرى التي تحمل صفة عسكرية ضرورية لكنها أكثر أمانًا.
وسرعان ما تغيّرت الأشياء بعد إطلاق فيلم “معركة السوم (The Battle of the Somme)”، وهو واحد من أهم الأفلام في الخطة الدعائية البريطانية، صدر في أغسطس/ آب 1916، وحقق نجاحًا هائلًا مقارنة بالأفلام السابقة، ويرصد نيكولاس ريفز مراحل تحقيق الفيلم الوثائقي داخل كتابه:
“اعتمد فيلم “معركة السوم” على لقطات صوّرها المصوّران الرسميان، جيفري مالينز وجي بي ماكدويل، بدأ مالينز التصوير في 25 يونيو/ حزيران 1916، وفي 29 يونيو/ حزيران انضمَّ إليه ماكدويل، واستمرّا في تصوير الجزء التمهيدي، بما في ذلك القصف المدفعي الهائل. في 1 يوليو/ تموز كانا في موقعَين مختلفَين مع جيش رولينسون الرابع لتصوير اليوم الافتتاحي للهجوم، استمرّا في تصوير السوم حتى 10 يوليو/ تموز”.
مردفًا: “بعد يومَين، شوهدت أولى دفعاتهم المصورة في لندن من قبل لجنة التجارة السينمائية، التي أُعجب أعضاؤها بشدّة لدرجة أنه تقرر إصدارها في شكل فيلم واحد كبير. بعد أقل من شهر بقليل، في 7 أغسطس/ آب 1916، كان للفيلم المكتمل (الذي استمرَّ لمدة ساعة وربع) أول عرض تجاري، وبعد 3 أيام تمَّ عرضه على جمهور مخصّص”.
وقامت الدولة بكل مؤسساتها بالترويج للفيلم، الصحف والمجلات وكل وسائل الدعاية، وقام الفيلم بتحقيق المطلوب منه بشكل جيد في كل مكان عُرض فيه، حيث أثبت الأسبوع الافتتاحي في لندن شعبية الفيلم الهائلة، فقد ذكرت العديد من دور السينما أنها غير قادرة على التعامل مع حجم الطلب المتزايد، إلى جانب محاولة تعميم تجربة لندن لعرض الفيلم في وقت واحد داخل عدد من دور السينما المختلفة.
لم يكن هذا الشكل من العروض سائدًا في ذلك الوقت، بيد أنهم حاولوا تكراره في معظم المدن الكبرى، وللأسف لم تُعَدَّ إحصائية موثوقة عن عدد المشاهدين، لكن من المرجّح أن أغلب أفراد الشعب قد شاهدوا الفيلم، ليصبح الفيلم ظاهرة استثنائية في تاريخ السينما البريطانية آنذاك.
وعلى غرار فيلم “معركة السوم”، أُنتج فيلمان عام 1917، هما “معركة أنكرا (Battle of the Ancre)” و”تقدُّم الدبابات (The Advance of the Tanks)”، حيث تمتّع الفيلمان بمميزات أكثر من الناحية العملية، تتمثل في تضمين لقطات واسعة للدبابة، وسلاح الجيش البريطاني الجديد، وحظت بالشعبية نفسها مثل سابقتها.
هذا بالإضافة إلى فيلم هامّ صدر قبل الفيلمَين المذكورَين، هو فيلم “King Visits His Armies in the Great Advance” في أكتوبر/ تشرين الأول 1916، فالفيلم الأخير قدّم صورة حميمية تمَّ تصديرها للشعب الذي قابلها بالحماس، وبحلول نهاية عام 1917 تمَّ إرسال الأفلام البريطانية الرسمية/ الدعائية إلى حوالي 40 دولة أجنبية.