يمرُّ الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة بأسوأ أزمة منذ تأسيسه، إذ تواجه المؤسسة السورية أزمة مالية كبيرة بالإضافة إلى خلافات كبيرة بين أعضائه وهيئاته، إذ بدأ بعض موظفيها بالتخلّي عن كراسيهم نتيجة انقطاع الرواتب منذ أكثر من 3 شهور، ما ينذر بانهيار وشيك ما لم يتم تدارُك الأمر من المانحين والدول الداعمة، وتنظيم الأوضاع من قبل إدارة الائتلاف برئاسة سالم المسلط الذي تدور حوله شكوك “فساد مالي” منذ استلامه المنصب.
في الشهر الماضي، شهد الائتلاف السوري الذكرى العاشرة لتأسيس (نوفمبر/ تشرين الثاني 2012)، في إطار الخطوات التي اتخذتها المعارضة السورية لترتيب صفوفها في جسم واحد يمثل الثورة السورية أمام العالم، وظهر الائتلاف في فترة كانت الثورة بأوجها ضد نظام الأسد الذي أوغل بالقتل والتدمير بحقّ السوريين، وكان لزامًا على المعارضة اتخاذ موقف حاسم للوقوف في وجه بشار الأسد بموازاة التقدم العسكري الذي حققته قواته ومليشياته.
بعد سنوات من الاعتراف الذي حظيت به مؤسسة الائتلاف على عدة أصعدة، تغيّر الوضع في السنوات الأخيرة، فلم تعد الدول تقيم اعتبارًا لهذه المؤسسة التي يراها البعض مترهّلة وغير صالحة لقيادة المرحلة، إذ أخفقت هذه المؤسسة منذ البداية في بناء رؤية واضحة لسوريا المحررة من نظام الأسد، الأمر الذي أدى إلى عدم تعامل الدول معه بجدّية، تبع ذلك غياب البوصلة التي انطلقت منها المؤسسة، فأصبحت تدار تبعًا لكل إدارة تستلمها دون مسار واضح المعالم والمبادئ.
فساد مستشرٍ وضياع أموال
التقى “نون بوست” مصدرًا رفيعًا من داخل مؤسسة الائتلاف السوري، رفض الكشف عن اسمه، وصرح بأن “وضع الائتلاف الحالي مخجل ومؤسف ولا يبشر بالخير”، وأوضح أن “الخلافات البينية والفساد المالي غير المسبوق في المؤسسة ينذران بانهيارها”، كما أشار المسؤول إلى أن “الائتلاف كان سيعلّق عمله كاملًا منذ أيام إلى حين اتضاح الأمور، لكنّ بعض المسؤولين في المؤسسة يحاولون الاستمرار ما أمكن رغم الأزمات المتلاحقة”.
أما عن السبب الذي أدّى إلى تفاقم الأزمة حاليًّا، يقول المصدر إن شكوكًا تحوم حول رئاسة الائتلاف الحالية بسبب فساد مالي خاصة بعد اختفاء ما يقارب 200 ألف دولار أمريكي، وهو الاحتياطي الخاص بالمؤسسة، وكُشِف عن هذا الفساد مع انقطاع تمويل المؤسسة، الأمر الذي جعل بعض الأعضاء يطلبون صرف رواتب الموظفين من هذا المبلغ، لكن تفاجأ الجميع بأن المبلغ غير موجود وجرى التصرف به دون أي أثر للفواتير الرسمية.
يذكر أن الائتلاف كان يتلقّى تمويلًا شهريًّا مقداره نحو 250 ألف دولار أمريكي، يصرَف كرواتب وأجور مبانٍ وأجور تنقُّل ومستلزمات المباني، وقد هدد مالك المبنى الذي يضم مكاتب الائتلاف في شمال سوريا بطرد الموظفين ووضع مستلزمات المكاتب في الشارع في حال عدم سداد الديون المتراكمة منذ 3 شهور، وهو حال المبنى الموجود في إسطنبول، حيث يعجز الائتلاف عن دفع الفواتير والمستلزمات اليومية، ووفقًا للمصدر فإن غالب موظفي الائتلاف التقنيين وجزء كبير من الأعضاء علّقوا أعمالهم.
وصدر تعميم للموظفين في مقرّ الائتلاف في إسطنبول منذ يومَين، مختصره: “ليس لدينا أموال لدفع رواتب في قادم الأيام، من أراد أن يكمل العمل فليكمل تطوعًا”، ويشير المصدر إلى أنه تمَّ فصل بعض الموظفين بشكل غير مبرر، كما تمَّ إجبار آخرين على الاستقالة دون تسديد المستحقات أو الذمم المالية منذ فترة طويلة، ما أجبر بعض الموظفين على التهديد برفع الأمر إلى القضاء التركي، وذلك بعد أيام على إقرار مشروع تخفيض للرواتب والنفقات بنسبة 30% تشمل كل أعضاء وموظفي الائتلاف.
يضيف المصدر لـ”نون بوست” أن مبلغ الـ 250 ألف دولار يأتي عادة من قطر، وبحسب المصدر فإن هذا المبلغ لم ينقطع حتى الآن، إلا أن الحكومة التركية هي من أوقفت إيصال المبلغ لمؤسسة الائتلاف في إطار الضغوط التي تمارسها أنقرة على هذه المؤسسة خلال الأشهر الأخيرة، منذ تسلُّم المسلط لفترته الثانية وحدوث خلاف كبير بينه وبين الأمين العام.
يحيل المصدر أسباب الأزمة المالية والفساد الذي طال المبلغ الاحتياطي للائتلاف إلى الخلاف بين رئيس الائتلاف، سالم المسلط، والأمين العام للائتلاف، هيثم رحمة، إذ اختلف كلاهما على أحقية كل منهما بالمسؤولية عن الصندوق الذي يضمّ الأموال، واستمرت المشكلة طويلًا، وكان رحمة يطالب دائمًا في اجتماعات المؤسسة بالاطّلاع على الصندوق لكن المسلط حال بينه وبين ذلك.
يذكر أن منصب الأمين العام في الائتلاف هو المعنيّ بتنظيم شؤون المؤسسة الإدارية والمالية، وهو البند الذي ليس من اختصاص الرئيس وفقًا للصلاحيات المكتوبة في النظام الداخلي، ويضاف إلى صلاحيات الأمين العام تعيين الموظفين وتحديد رواتبهم وحقوقهم المالية، كما ينص النظام على أن من صلاحيات الأمين العام إعداد الموازنة وطرحها على الهيئة العامة لإقرارها.
انصياع للرغبات التركية
يربط البعض منع الحكومة التركية الحوالة المالية من الوصول إلى الحسابات البنكية الخاصة بالائتلاف، بالسياسة التركية الجديدة تجاه التطبيع مع نظام الأسد، واتساقها أيضًا مع الخطة الروسية لتبديد الخلافات بين الأسد وأنقرة، إذ تحاول الأخيرة الضغط أكثر فأكثر تجاه حلّ يكون النظام السوري أحد أطرافه.
يصمت الائتلاف صمتًا مطبقًا على الإجراءات التي تتخذها أنقرة في محاولاتها للتقارب مع النظام السوري، إذ لم يردَّ الائتلاف على التصريحات التركية رغم أنه يعتبَر أعلى هيئة سياسية معارضة في سوريا.
قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في تصريحات له منذ أيام، إنه عرض على الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إجراء لقاء ثلاثي على مستوى الزعماء يضمّ بشار الأسد، وقال إنه اعتبارًا من الآن “نريد أن نتخذ خطوة كثلاثي سوريا وتركيا وروسيا”، وأضاف أنه يجب أن تتحد الاستخبارات أولًا، ليجتمع بعدها وزراء الدفاع، ثم وزراء الخارجية، وعقب ذلك القادة، موضحًا أن بوتين نظر إلى هذا العرض بـ”إيجابية”، مؤكدًا بدء سلسلة من المفاوضات.
يحاول المسلط من خلال بعض تحركاته داخل الائتلاف الاستعانة بعلاقته بالمسؤولين الأتراك، إذ إنه يصدر بعض القرارات بفصل موظفين أو تخفيض رواتب لآخرين.
وتحدّث أردوغان عن إمكانية عقد لقاء مع رئيس النظام السوري، بشار الأسد، قائلًا: “من الممكن أن يحدث لقاء مع بشار الأسد”، مردفًا: “في السياسة ليس هناك استياء وتحفُّظ، عاجلًا أم آجلًا سنتخذ خطواتنا”، وقبل ذلك أشار الرئيس التركي إلى أن بلاده قد تعيد تقييم علاقاتها مع النظام السوري بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرر إجراؤها في يونيو/ حزيران المقبل.
وفي كل مرة يصدر فيها المسؤولون الأتراك تصريحات التطبيع مع الأسد يزداد صمت الائتلاف تجاه هذه القضية، وفي هذا السياق يقول مصدر من الائتلاف لـ”نون بوست” إن سالم المسلط أوعز للمكتب الإعلامي ولأعضاء الائتلاف بعدم التصريح أو الإدلاء بأي كلمة لأي وسيلة إعلامية حول هذا الموضوع.
وقال المصدر إن تعليمات المسلط كانت أن أي طلب للتصاريح الإعلامية بخصوص هذا الموضوع يجب أن تحال إليه، وهو بدوره لا يجيب عليها، ووفقًا للمصدر فإن أعضاء الائتلاف والأمين العام لا يجرؤون على التعليق على العلاقات التركية مع النظام السوري، تخوفًا من أي أضرار أو ملاحقة أمنية من الاستخبارات التركية.
يحاول المسلط من خلال بعض تحركاته داخل الائتلاف الاستعانة بعلاقته بالمسؤولين الأتراك، إذ إنه يصدر بعض القرارات بفصل موظفين أو تخفيض رواتب لآخرين، وعند سؤاله عن الموضوع يجيب بـ”هكذا يريد الإخوة الأتراك” وفقًا لما يقوله المصدر.
وصدرت تسريبات من داخل أروقة الائتلاف منذ أشهر عن محضر اجتماع بين سالم المسلط ورئيس هيئة المفاوضات، بدر جاموس، ورئيس الحكومة المؤقتة، عبد الرحمن مصطفى، من طرف، ومع أحد مسؤولي وزارة الخارجية التركية من طرف آخر. وبحسب محضر الاجتماع، فإن المسؤول التركي أبلغ هؤلاء بنيّة بلده التقارب مع الأسد، كما أخبرهم أن المعارضة السورية باتت وحيدة وأن النظام هو الممثل الشرعي لسوريا بالنسبة إلى الأمم المتحدة، كما أشار إلى أنهم يجب أن يقبلوا بالأمر الواقع لأنهم حاليًّا يستطيعون المشاركة بالحكم في سوريا لكن لاحقًا لن يستطيعوا تحقيق ذلك، خاصة أن روسيا لا تريد شروطًا مسبقة في أية مفاوضات مع المعارضة.
ردُّ المسلط كان منسجمًا مع المسؤول التركي، إذ قال: “نحن نعرف الوضع السيّئ الذي وصلت إليه الثورة، لم يبقَ أحد معنا من الدول إلا تركيا، ونحن نتخلص حاليًّا من المتشددين في الائتلاف وبقيَ القليل”، ويقصد المسلط هنا الأعضاء الذين تمَّ فصلهم في شهر أبريل/ نيسان في إطار ما أسماه الائتلاف بـ”الإصلاحات”، ووصفه البعض بأنه انقلاب.
تشير أيضًا الورقة المسرَّبة إلى توافق تامّ بين مسؤولي المعارضة السورية مع الطروحات التركية التي تريد لقاء نظام الأسد، وقد أكّد لنا مصدر من داخل الائتلاف فحوى هذه التسريبات.
وفي تسريب آخر، اجتمع الأشخاص ذاتهم مع المسؤول من وزارة الخارجية التركية للحديث عن الإجراءات التي يقوم بها المسلط في الائتلاف، حيث أجمع مسؤولو الائتلاف على موافقتهم على الخطوات المتخذة، كما أن رئيس الحكومة المؤقتة قال: “بالديمقراطية لا نستطيع فعل شيء داخل الائتلاف، نحن الآن بحاجة إلى ديكتاتورية وشعبنا لا يفهم إلا بهذه الطريقة”.
قمنا بدورنا بالتواصل مع المعنيين من الائتلاف السوري للردّ على المزاعم الواردة في هذا التقرير، إلا أننا لم نتلقَّ ردًّا ينفي أو يؤكد أو يفنّد الوارد هنا، كما تواصلنا مع أعضاء للائتلاف بالهيئة السياسية أحدهم أجاب برفضه الإجابة عن هذه الأسئلة، فيما أكّد أحدهم – رفضَ الكشف عن اسمه – المعلومات الواردة، قائلًا إن “الأمر أعقد بكثير من هذه المشاكل، والائتلاف يمضي إلى حافة الهاوية في إطار التجهيزات التركية للمصالحة مع الأسد”.