كان عام 2022 حافلاً بالإنجازات الدبلوماسية والإخفاقات الاقتصادية على حد سواء، فقد أثّرت الأحداث من السياسة إلى الاقتصاد، ومن الوساطة الدبلوماسية النشطة إلى العودة لتبنّي سياسة “صفر مشاكل” مع الجيران، على المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي داخل تركيا، التي تستعدّ لخوض معركة انتخابية “شرسة” منتصف العام المقبل، تكاد تكون الأخطر في مشوار أردوغان السياسي طوال العقدَين الماضيَين.
وعلى النقيض من المشاكل التي أصابت الاقتصاد التركي وألحقت به ندبات غير مسبوقة، والتي يتوقع الخبراء أن تستمر إلى العام المقبل رغم حُزَم المساعدات المالية الضخمة التي أُعلن وسيُعلن عنها مع بداية العام القادم، إلا أن الاختراقات الدبلوماسية التي حقّقتها تركيا في الملف الأوكراني، فضلًا عن تطبيع علاقاتها مع معظم البلدان التي دخلت معها في صراع سياسي في السابق، عزّزت من تواجد تركيا على مسرح الأحداث العالمية وجعلت منها لاعبًا محوريًّا في مجال الوساطة الدولية.
نجاحات تركيا على الصعيد الخارجي لن تكون مؤثرة كفاية لدخول معركة الانتخابات المقبلة، التي بدورها ستحدّد معالم العام المقبل وما بعده، خصوصًا أن التضخم الذي وصل إلى معدلات غير مسبوقة يعصف بالاقتصاد ويزيد من الصعوبات التي يواجهها المواطنون المقبلون على اختيار رئيس وحكومة قادرَين على تخليصهم من الأعباء الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تراكمت خلال السنوات القليلة الماضية.
العودة إلى سياسة “صفر مشاكل”
على المسار نفسه الذي خطته أنقرة منتصف عام 2021 لتطبيع العلاقات مع جيرانها من جديد، من خلال إعادة بثّ الروح في سياسة “صفر مشاكل” التي كانت تنتهجها قبل اندلاع ثورات الربيع العربي والثورات المضادة في السنوات العشر الأخيرة، استهلّت أنقرة الأيام الأولى من عام 2022 لخفض مستوى التوتر مع جارتها أرمينيا، وفي أعقاب رفعها الحظر المفروض على الجارة الشرقية مطلع يناير/كانون الثاني بشكل رسمي، أعلنت في فبراير/ شباط بدء عملية التطبيع بالتزامن مع بدء الرحلات الجوية بين البلدَين.
وفي مارس/ آذار، وبعد انقطاع في العلاقات دام 15 عامًا، التقى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مع نظيره الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، في أنقرة، حيث تمّت مناقشة التطورات الإقليمية والتعاون الثنائي، وجرى تبادل السفراء من جديد.
وبعد سنوات من التنافس الإقليمي والتصريحات العدائية بين تركيا والسعودية، قررت تركيا سلك المسار ذاته الذي انتهى بتطبيع علاقاتها مع الإمارات عام 2021، وقامت في أبريل/ نيسان بتسليم ملف قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول عام 2018 إلى المملكة العربية السعودية.
تناقلت الصحافة المحلية أخبارًا تعلن عن قرب عقد لقاء بين أردوغان وبشار الأسد برعاية روسية مطلع العام القادم
بعد تسليم الملف، قام أردوغان بزيارة رسمية إلى السعودية، تلبيةً لدعوة الملك سلمان، التقى خلالها الملك ووليّ العهد محمد بن سلمان، ليقوم ولي العهد بعدها بشهرَين بزيارة تركيا، معلنًا بذلك تطبيع العلاقات رسميًّا.
الاختراق الكبير الآخر جاء نتاجًا للجهود الدبلوماسية التركية النشطة، والتي تمخّض عنها لقاء أردوغان بنظيره المصري عبد الفتاح السيسي على هامش حفل افتتاح مونديال قطر في الدوحة برعاية الأمير تميم بن حمد آل ثاني، حيث تعهّد الطرفان بفتح صفحة جديدة في سجلّ العلاقات بين البلدَين.
ورغم نجاح مساعي الدبلوماسية التركية في تطبيع العلاقات مع معظم البلدان التي دخلت معها في صراع سياسي خلال العقد الأخير بوقت قياسي، إلا أن الحدث الصادم جاء بعد تأكيد أردوغان وكبار المسؤولين انفتاحهم على تطبيع العلاقات مع النظام السوري.
حيث تناقلت الصحافة المحلية أخبارًا تعلن عن قرب عقد لقاء بين أردوغان وبشار الأسد برعاية روسية مطلع العام القادم، وهو ما اعتبره صحفيون محسوبون على المعارضة التركية بمثابة هدية من بوتين لأردوغان، الذي يستعدّ لخوض انتخابات حاسمة في الأشهر الأولى من العام المقبل.
دبلوماسية الوساطة التركية
منذ اشتعال شرارة الحرب الأوكرانية أواخر فبراير/ شباط، فعّلت تركيا دبلوماسيتها النشطة مستغلةً علاقتها الوطيدة مع طرفَي الصراع، وباشرت على الفور التوسُّط بين موسكو وكييف لإنهاء الحرب على طاولة المفاوضات.
وبينما كان الغرب يؤجّج نيران الصراع، نجحت تركيا في تحقيق اختراق دبلوماسي كبير، بعدما تمكّنت من جمع وزراء خارجية البلدَين على هامش مؤتمر أنطاليا الدبلوماسي في مارس/ آذار.
اقترح الرئيس بوتين على أردوغان تحويل تركيا إلى مركز طاقة حيوي يربط روسيا بمشتري الغاز الطبيعي الروسي في وسط وغرب أوروبا
ورغم أن حراكها الدبلوماسي لم يُسفِر حتى اللحظة عن الجمع بين الرئيسَين بوتين وزيلينسكي في إسطنبول، كما كان يسعى أردوغان، إلا أنه تمكّن في المقابل من عقد اجتماعات على مستوى الوفود، ما أسفر عن اتفاقيات مختلفة تتعلق بتبادل الأسرى وفتح ممرّات إنسانية، وصولاً إلى “اتفاقية الحبوب” التي قالت عنها الأمم المتحدة إنها أنقذت العالم من مجاعة شبه حتمية، الأمر الذي توّج دبلوماسية الوساطة التركية على صعيد عالمي.
ومع دخول دول الاتحاد الأوروبي أزمة طاقة خانقة، تزامنًا مع العقوبات الاقتصادية التي فرضوها على موسكو ردًّا على غزوها لأوكرانيا، اقترح الرئيس بوتين على أردوغان تحويل تركيا إلى مركز طاقة حيوي يربط روسيا بمشتري الغاز الطبيعي الروسي في وسط وغرب أوروبا، وهو المشروع الذي يجري العمل عليه حاليًّا وينتظر أن يكتمل بغضون عام، وفقًا لتصريحات وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي فاتح دونماز.
إخفاقات اقتصادية غير مسبوقة
لم يَنَل الملف الاقتصادي نفس الزخم والنجاح اللذين حققتهما الدبلوماسية التركية على الصعيد الخارجي، بل كان ضحية للقرارات التي اتُّخذت خلال الأشهر الأربعة الأخيرة من عام 2021، والتي بدأت بتغيير وزير المالية ورئيس البنك المركزي معلنة عن بدء رحلة تخفيض الفائدة من جديد.
وبينما كان من الممكن أن يكون عام 2022 هو العام الأكثر نشاطًا في تركيا من حيث الاقتصاد خلال الـ 20 عامًا الماضية، نظرًا إلى انفتاحات ما بعد كورونا وبحث الأسواق الأوروبية عن مركز إنتاج حيوي يكون قريب من حدودها، إلا أن تداخُل السياسة بالاقتصاد لن نقول إنه ضيّع الفرصة، لكنه بالتأكيد أخّرها لسنوات قادمة.
تقتصر أزمة الاقتصاد على التضخم وحسب، بل امتدّت لتطال سعر صرف الليرة التركية التي سجّلت انخفاضًا غير مسبوق أمام الدولار
وشهد عام 2022 ذروة الأزمة الاقتصادية في تركيا بعد وصول التضخم لأعلى مستوى له منذ أكثر من ربع قرن، حيث بلغ وفقًا للأرقام الحكومية الرسمية ما يقرب من 85%، فيما تقول “مجموعة أبحاث التضخم” (ENAGrup) -وهي جمعية خاصة يقودها علماء اقتصاد أتراك- إن التضخم في البلاد وصل ضعف الرقم المعلن عنه رسميًّا.
ولم تقتصر أزمة الاقتصاد على التضخم وحسب، بل امتدّت لتطال سعر صرف الليرة التركية التي سجّلت انخفاضًا غير مسبوق أمام الدولار والعملات الأجنبية الأخرى، حيث وصل سعر الصرف بداية العام نحو 10 ليرات للدولار الواحد، قبل أن تواصل انخفاضها وصولًا إلى قرابة 18.65 ليرة للدولار الواحد بحلول نهاية العام.
وقد تسبّبت الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة في موجات تسونامي ضربت أسعار السلع الأساسية والطاقة، بالإضافة إلى أسعار المنازل والإيجارات، بأكثر من الضعف والضعفَين، الأمر الذي تسبّب في أزمات اجتماعية وشكّل ضغوطًا على المواطنين وعلى أردوغان وحزبه الذي يسعى لضمان الفوز بالانتخابات المقبلة، والذي بدوره قدّم تسهيلات وحُزَم مساعدات إلى جانب رفعه للأجور في محاولة لاحتواء الآثار السلبية للتطورات الاقتصادية.
عام المشاريع العملاقة
رغم الأزمة الاقتصادية التي ألقت بظلالها على المشهدَين السياسي والاجتماعي في الداخل التركي، إلا أن ذلك لم يثنِ الحكومة التركية عن إكمال المشاريع الضخمة التي باشرت العمل بها خلال السنوات الماضية.
ففي 18 مارس/ آذار، وبالتزامن مع الذكرى 107 لمعركة جناق قلعة، افتتحت تركيا جسر “جناق قلعة 1915” الذي يربط بين قارتَي آسيا وأوروبا فوق مضيق الدردنيل، ليحوز فور تدشينه لقب أطول جسر معلَّق بالعالم.
واستكمالاً لمشاريع البنية التحتية، افتتحت تركيا في مايو/ أيار مطار ريزا-أرتفين، وهو المطار الثاني الذي تمَّ بناؤه على البحر في تركيا، والخامس من نوعه الذي تمَّ بناؤه بهذه الطريقة في العالم، ومن المتوقع أن يخدم المطار 3 ملايين مسافر سنويًّا.
افتتحت تركيا سدّ يوسفيلي في منطقة أرتفين ليحوز على الفور لقب أعلى سدّ في تركيا وخامس أعلى سدّ في العالم
وتحقيقًا لحلم عمره 61 عامًا، دشّنت تركيا، في الذكرى الـ 99 لتأسيس الجمهورية التي صادفت 29 أكتوبر/ تشرين الأول، خطَّ إنتاج السيارة المحلية الكهربائية “توغ”، في منشأة بيلجيك التي تهدف إلى إنتاج مليون سيارة خلال السنوات الثماني القادمة.
وبعد مرور 10 سنوات على بدء أعمال بنائه، افتتحت تركيا سدّ يوسفيلي في منطقة أرتفين في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني، ليحوز على الفور لقب أعلى سدّ في تركيا وخامس أعلى سدّ في العالم، بطول 275 مترًا، وسيساهم السد، الذي تبلغ سعته التخزينية للمياه 2 مليار و130 مليون متر مكعب، وقدرته الكهربائية المركّبة 558 ميغاواطًا، بنحو 4.1 مليارات ليرة في الاقتصاد سنويًّا.
أحداث هزّت تركيا
في أعقاب الحرائق التي عادت إلى تركيا مرة أخرى عبر بوابة مرمريس منتصف يونيو/ حزيران، أمست تركيا يوم 14 أكتوبر/ تشرين الأول على وقع كارثة انفجار منجم أماسرا في ولاية بارتين، والذي أودى بحياة 42 عاملًا وإصابة 11 آخرين.
عصر يوم 13 نوفمبر/ تشرين الثاني، وقع تفجير إرهابي في شارع الاستقلال بحي تقسيم، عكّر صفو الحياة بمدينة إسطنبول بعد أن خلّف 6 قتلى وأكثر من 80 جريحًا، وفي اليوم التالي للهجوم تمَّ اعتقال المشتبه بها، أحلام البشير، في منطقة كوتشوك جكمجه بمدينة إسطنبول.
وفي واقعة غير مسبوقة -على الأقل لم تأخذ مثل هذا الصدى الإعلامي من قبل-، كشف الصحفي تيمور سويكان في تحقيق صحفي نشرته صحيفة “بيرجون”، عن قضية اعتداء جنسي استمرَّ لسنوات تعرّضت له طفلة في السادسة من العمر.
بلغ عدد النساء اللاتي توفين بسبب العنف 370 امرأة
وبحسب لائحة الاتهام الواردة في النبأ، الذي أحدث زلزالًا اجتماعيًّا وسياسيًّا ضد الجماعات الدينية التي يرى البعض أنها فوق القانون، فإن شيخ مؤسسة حيرانور التابعة لجماعة إسماعيل آغا الدينية قد زوّج ابنته، وهي في عمر السادسة، لأحد مريديه في الدروس الدينية.
وفي ملف العنف ضد المرأة في تركيا، بلغ عدد النساء اللاتي توفين بسبب العنف، بين 1 يناير/ كانون الثاني و12 ديسمبر/ كانون الأول، 370 امرأة، ويذكر أنه خلال العام السابق 2021 بلغ عدد جرائم قتل النساء في تركيا 415 امرأة.
وعلى صعيد العمليات العسكرية خارج حدودها، شنّت القوات المسلحة التركية في أبريل/ نيسان عملية “المخلب-القفل” برًّا وجوًّا ضد أهداف تنظيم العمال الكردستاني في مناطق شمال العراق، وعقب تفجير إسطنبول الإرهابي أطلقت تركيا عملية عسكرية جوّية واسعة تحت اسم “المخلب-السيف” لدكّ أوكار حزب العمال الكردستاني والوحدات الكردية شمالي سوريا والعراق، مهددةً بتوسيع العملية على المحور البرّي أيضًا في حال لم تنسحب الوحدات الكردية عن الحدود التركية، وبحسب معطيات وزارة الدفاع التركية، بلغ عدد الشهداء في تركيا 98 شهيدًا خلال عام 2022.
الطريق إلى انتخابات 2023
مع اقتراب نهاية عام 2022، وخلافًا لمعظم التوقعات، قضت محكمة تركية يوم 14 ديسمبر/ كانون الأول بسجن عمدة بلدية المدينة، إمام أوغلو، لمدة عامَين و7 أشهر و15 يومًا والمنع من العمل السياسي، جرّاء إدانته بإهانة أعضاء اللجنة العليا للانتخابات التركية (YSK) ووصفه لهم بأنهم “حمقى”.
ونتاجًا لهذا الحدث السياسي الذي من شأنه أن يؤثّر على انتخابات 2023، جمع إمام أوغلو مؤيديه أمام مبنى البلدية، معلنًا أن قرار المحكمة سياسي بحت، مطلقًا بذلك صفارة بداية السباق الرئاسي بشكل فعلي بين تحالف أردوغان وتحالف المعارضة السداسي، ما دفع المحللين والمراقبين إلى حبك سيناريوهات يلعب فيها إمام أوغلو دور المرشح الضحية.
ورغم أن القرار يبدو أنه أعاق مسيرة إمام أوغلو السياسية، إلا أنه لن يدخل حيز التنفيذ إلا بصدور قرار التأكيد من محكمتَي الاستئناف والعليا، وهو ما قد يطول أو يقصر بحسب تقدير أردوغان لكيفية إدارة المرحلة المقبلة.
وفي موازة ما يجري وقد يجري على مسرح الأحداث السياسية في تركيا التي تستعدّ لخوض انتخابات برلمانية ورئاسية حاسمة، من المتوقع أن يزداد زخم حُزَم المساعدات المالية التي ستضخّها حكومة حزب العدالة والتنمية بحلول بداية العام المقبل، في إطار استراتيجية تخفيف الأعباء الاقتصادية عن المواطنين لتعزيز فرص الفوز بالانتخابات المقبلة، لا سيما أن الخبراء يتوقعون أن الأزمة الاقتصادية وتبعاتها السلبية لن تستمر خلال العام القادم وحسب، بل قد تشتدّ حدّتها أيضًا.