استضافة مونديال 2022 كانت جزءًا من رؤية وطنية طموحة لدولة قطر، سبقتها 12 عامًا من العمل الجاد والجهد الكبير والتحدي، إذ شكّك كثيرون حول العالم بهذا المونديال، بما في ذلك بعض الجيران، وأشاعوا أنه لن يتم وأن قطر دولة صغيرة لن تستطيع تنظيمه.
ومنذ اليوم الأول من إعلان قطر رغبتها في استضافة بطولة كأس العالم، وعدت العالم بنسخة متميزة من البطولة تمثلت في بناء استادات مونديالية بأعلى مستوى وصلت إليه تكنولوجيا الملاعب في العالم، وبأرقى التصاميم في بناء المنشآت الرياضية التي لم يسبق لها مثيل، فقدّمت لعشاق كرة القدم 8 ملاعب مبهرة بتكنولوجيا حديثة وصديقة للبيئة وإرث مُستدام.
ورافق إنشاء وتطوير الملاعب المونديالية ثورة في مجال تحديث البنية التحتية في كل شبر على أرض قطر، منافذ بحرية وبرّية، مطار هو الأفضل على مستوى العالم، وكذلك شركة الطيران الوطنية “الخطوط الجوية القطرية” الحائزة على جوائز عالمية، إلى جانب الطرق والجسور والأنفاق الواسعة، فضلًا عن المنشآت الصحية والمرافق السياحية والترفيهية وغيرها الكثير ممّا يُدهش الزوار.
ووفقًا لبيانات رسمية، أنفقت قطر حوالي 220 مليار دولار على مشاريع البنية التحتية، وهو مبلغ لا يشمل بناء الاستادات والمرافق الرياضية المخصّصة لكأس العالم فحسب، بل يغطي كل مشاريع البنية التحتية في البلاد من طرق وفنادق ومترو ومنشآت رياضية ومنشآت صحية، وغيرها من المصروفات التي تغطي كافة القطاعات في البلاد ضمن رؤية مستقبلية طموحة.
الإعلام الأوروبي يضخّم السلبيات
رغم الاستعدادات الكبيرة التي نفّذتها قطر، فإن الصحافة الغربية لم تكن متوازنة في كثير من الأحيان عند تغطيتها الاستباقية للمونديال وأثناء فعالياته، وحتى بعد انتهائه والنجاح الباهر لدولة قطر في تنظيمه دون أن تقع مشكلات أو حوادث كبيرة متعلقة بالتنظيم أو والأمن والسلامة.
على سبيل المثال، كانت الصحافة الألمانية، خاصة المحسوبة منها على “اليسار الليبرالي”، تواصل الهجوم على الدولة المستضيفة قبل المونديال وحتى بعد انتهائه، بذريعة انتهاكات حقوق الإنسان، ولم يقتصر الأمر على وسائل الإعلام الأمنية فقط، بل قامت وزيرة الداخلية الألمانية بارتداء شارة المثليين في المدرّجات بين الجماهير، الأمر الذي تسبّب في سخط كبير: كيف يمكن لوزيرة مسؤولة عن النظام والقانون في بلادها أن تخالف قانون دولة يقام على أرضها أكبر وأهم حدث عالمي لكرة القدم؟
صحيفة “الغارديان” المعروفة بأنها واحدة من أكبر الصحف البريطانية، أرسلت الصحفي المتخصص في الشأن الرياضي، جوناثان ليو، لتغطية فعاليات المونديال، رغم تقاريره غير المتوازنة التي كان ينشرها قبل بداية المونديال، فقبل انطلاقة النهائيات بـ 3 أيام فقط، نشرت الصحيفة مقالًا للصحفي المذكور، جاء فيه: “يُقام كأس العالم قطر 2022 في دولة استبدادية، وبُنيت هذه الملاعب على ظهور الضحايا من العمل، ونفقات باهظة”، ثم يتساءل كاتب المقال: “لماذا فُرضت علينا هذه البطولة في فصل الشتاء؟ وفي دولة صحراوية، ومن دون مجد كروي حتى”، ثم يستبق كاتب المقال نجاح البطولة قائلاً: “مهما حدث داخل الملعب، ومهما كانت طرق الهروب جميلة عبر الاحتفال المشترَك والإبداع الرياضي، فهذا لا يجعل من كأس العالم قطر 2022 أجمل، بل هو الأسوأ بسبب سقوط ضحايا”.
وعندما أوفدت الصحيفة مراسلها ليو لتغطية الفعاليات من الدوحة، استمر في النهج ذاته، تضخيم السلبيات والتقليل من الجوانب الإيجابية، فعلى سبيل المثال نُشر له يوم 4 ديسمبر/ كانون الأول الحالي تقرير بعنوان “يوميات كأس العالم 2022: كل شعور جيد في قطر مبطن بالذنب”، وردَ فيه: “قررت أنا وزميلي سِد لوي القيام بنزهة إلى حديقة البدع القريبة. أخبار سارة: إنها على بعد 15 دقيقة فقط. أخبار سيئة: عليك تفادي طريق مزدوج من 6 حارات للوصول إلى هناك. الحديقة مهجورة عمليًّا ومنظر المحيط المتلألئ مشوّه بسبب أنبوب الصرف الصحي الهائل الذي يتدفق إليه. تذكير في الوقت المناسب بأن كل الجمال في قطر يشوبه القبح بشكل قاتل”.
العبارة الأخيرة تشكّل نموذجًا حيًّا لرداءة الصحافة الغربية عندما يتعلق الأمر بدولة عربية، تتمسّك بالحفاظ على قيمها الخاصة، ولديها مواقف مناهضة للتطبيع مع المثلية.
الإعلام الأمريكي: محاولة التوازن
إذا ألقينا نظرة على وسائل الإعلام الأمريكية، نجد أنها في كثير من الأحيان حاولت موازنة تغطياتها لمونديال قطر 2022، بين الانتقادات وإبراز الإيجابيات.
لنأخذ على سبيل المثال شبكة “سي إن إن” التي نشرت مؤخرًا تقريرًا مطولًا بعنوان “لماذا كان مونديال قطر فريدًا ثقافيًّا؟”، تحدثت فيه عن التداخل الثقافي الكبير الذي حدث خلال فترة المونديال وصعوبة تكراره مرة أخرى: “خلال الأسابيع الأربعة الماضية، أصبحت هذه الدولة الخليجية الصغيرة حقًّا قرية عالمية. اختلط مشجعو جميع الفرق الـ 32 جنبًا إلى جنب مع مشجعين من العديد من البلدان الأخرى، بطريقة لم تكن ممكنة في البطولات السابقة، والتي انتشرت عبر مناطق جغرافية أكبر بكثير”.
وتابع التقرير: “في بعض الأحيان، كان من الصعب معرفة من الذي كان يهتف ولمن، بسبب تداخل مواكب المشجّعين المبتهجين في سوق واقف وسط الدوحة إثر متعة التجربة المشتركة”، وقال أحد المشجعين لشبكة “سي إن إن” في خضمّ الاحتفالات: “الجو هنا في قطر يشبه حفل زفاف مغربي. عندما يستمتع الجميع بالموسيقى والغناء، يكون الأمر بمثابة حفلة كبيرة”.
وجاء كذلك في التقرير: “كان المشجعون الذين تحدثت إليهم “سي إن إن” يغادرون قطر بذكريات إيجابية عن تجاربهم. قال المشجع البريطاني ثيو أوغدن الذي حضر جميع مباريات البطولة الـ 64: “قال الناس إنه لا يمكن استضافة البطولة في الصحراء، ثبت أنهم كانوا مخطئين. لقد كانوا (القطريون) مرحّبين جدًّا. لن تجد مشجعًا يقول إنه مرَّ بوقت سيّئ. وذلك لأنهم مضيافون للغاية””.
لم يكن تناول الصحافة الألمانية ومعها كثير من الإعلام البريطاني والأوروبي بشكل عام منصفًا، إذ كان الأمر أشبه بحملات إعلامية من الانتقادات المجحفة لقطر.
بيد أن الشبكة ذاتها نشرت قبل يومَين تقريرًا آخر بعنوان “الأغلى والأكثر فتكًا.. انتقادات حادة جديدة لمونديال قطر 2022″، نقلت فيه عن ستيف كوكبيرن، رئيس قسم الشؤون الاقتصادية والاجتماعية في منظمة العفو الدولية قوله: “مهما كانت كرة القدم جيدة في كثير من الأحيان، فقد كانت تكلفة البطولة باهظة لمئات الآلاف من العمال الذين دفعوا رسوم توظيف غير قانونية، أو سُرقت أجورهم أو حتى فقدوا حياتهم”.
وأضاف التقرير: “أشاد رئيس الفيفا، جياني إنفانتينو، يوم الجمعة، بالمتطوعين والمنظمين لتنظيمهم “أفضل كأس عالم على الإطلاق”، لكن ناشطين ومنتقدين يقولون إن تعليق إنفانتينو يتجاهل تضحيات العمال المهاجرين الذين يستحقون تعويضات عن الأجور غير المدفوعة والإصابات والوفيات”.
بشكلٍ عام، يمكن القول إن تغطيات الصحافة الأمريكية للمونديال كانت متوازنة إلى حدّ ما، فحتى الانتقادات التي أثارتها كانت بمعظمها موضوعية تتعلق بملف العمال المهاجرين، وهي قضية لم تنكرها الدوحة، بل تعاملت معها وأجرت إصلاحات لمعالجتها.
على النقيض من ذلك، لم يكن تناول الصحافة الألمانية ومعها كثير من الإعلام البريطاني والأوروبي بشكل عام منصفًا، إذ كان الأمر أشبه بحملات إعلامية من الانتقادات المجحفة لقطر، حيث عملت على اختزال الشرق والإسلام في صور نمطية من القرون الوسطى، مع إضفاء الكثير من الشيطنة والسخرية والازدراء والفهم المتبلّد والسطحي لتعاليم الإسلام ولثقافة الشرق.
عندما استضافت المكسيك كأس العالم عام ٧٠م جعلوا حامل اللقب “بيليه” يرتدي قبعة مكسيكية، واعتبرها الإعلام تعايشًا ثقافيًا وتحقيقًا لرسالة كرة القدم، لا يمكن تفسير وجود “متشنجين” من الإعلام الغربي تجاه “بشت ميسي” إلا لأنه يحمل دلالة عربية pic.twitter.com/BTCgBxYyW9
— سلطان الموسى (@almousa_su) December 18, 2022
قطر نجحت في التقليل من الانتقادات
المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأمريكية، كاميرون هدسون، قال لـ”نون بوست”: “لقد أظهر القطريون أنهم مضيافون كريمون ومرحّبون للغاية، حريصون على مشاركة ثقافتهم وتقاليدهم. كانت هناك تغطية إعلامية لمدى محاولة قطر تشكيل انطباع إيجابي عام عن نفسها ليراه العالم، لكن هذا ما تحاول كل دولة مضيفة لكل حدث رياضي عالمي كبير القيام به. أعتقد أن النتيجة النهائية هي أن قطر نجحت في التقليل من الانتقادات وتشكيل صورة إيجابية عن نفسها، من خلال تنظيم حدث ناجح للغاية من دون أحداث محرجة”.
لكنّ هدسون يرى أن التغطية الإعلامية لمونديال قطر كانت متوازنة بشكل عام، قبل أن يستدرك أنها لم تكن “متسقة للغاية”، مشيرًا إلى أنه قبل بداية كأس العالم وفي الأيام الأولى، كان هناك انتقادات ساحقة للقطريين بمزاعم فساد الفوز باستضافة البطولة، وقضايا حقوق العمال وحقوق الإنسان، وحظر الكحول إلى حظر رسائل التسامح مع مجتمع الميم، ومع بداية المباريات تمَّ استبدال التقارير النقدية بقصص عن المباريات ومدى سلاسة سيرها وتنظيمها.
واختتم المحلل الأمريكي حديثه لـ”نون بوست” بقوله: “السؤال الآن هو أن المباريات قد انتهت، فهل ستكون هناك جهود أكثر شمولية للتحقيق في مزاعم الفساد وظروف العمال في الفترة التي سبقت الحدث؟”.
كما تحدثت لـ”نون بوست” الصحفية البريطانية رؤى عربي، التي قالت إن التعاطي الإعلامي الغربي للمونديال كان فيه الكثير من التفاوت، مشيرة إلى الصوت الاستنكاري العالي لملف حقوق العمال، ولفتت عربي إلى أنه لم يتمَّ مقاطعة مونديال قطر كما كانت تدعو إلى ذلك عدة وسائل إعلام ومنظمات، مشيرة إلى أن أقسى لهجة للإعلام الغربي فيما يتعلق بالمونديال كانت تغطية الصحافة الألمانية التي حفلت بالكثير من العنصرية وخطاب الكراهية بحقّ العرب عمومًا.
وخير دليل على فشل الإعلام الغربي في الانفتاح على ثقافة الآخر، الهجوم العدائي الذي شنّته عدد من الصحف الغربية على إهداء أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، “البشت” القطري إلى النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي، خلال مراسم تتويج “التانغو” بلقب كأس العالم 2022، وهو تصرف هاجمه بعض الصحفيين الغربيين وحاولوا تفسيره بطريقة غريبة، حيث زعم أحدهم أن ميسي قد أُجبر على ارتداء “البشت”.
Longest wait for a trophy lift ever and they did their best to ruin it.
Why cover up Messi’s shirt with that? Ridiculous. Glad he’s now ditched it.
— James Pearce (@JamesPearceLFC) December 18, 2022
لو أجرى هؤلاء الصحفيون بحثًا بسيطًا، لعلموا أن عادة إهداء “البشت” أو العباءة كانت تعرَف في السابق بـ”الخلعة أو التشريفة”، وهو مصطلح يُشير إلى الملابس الشرفية التي قدّمها الحكّام قديمًا بوصفها رداءً شرفيًّا، غالبًا تُمنح في حفل تعيين لمنصب عام أو كهدية قيّمة لها رمزية خاصة للغاية، فأول من قام بذلك في الإسلام النبي محمد (ص)، عندما خلع بردته وألبسها للشاعر كعب بن زهير، وقد سار الخلفاء من بعده على نهجه.
لكن الخطاب الإعلامي العدائي يعلن عن نفسه بجلاء، ويدفع للافتراض أن هذه التغطية يغذّيها أيضًا شيء آخر متعمّق في الأذهان، فقبل أقل من عام، مع الغزو الروسي لأوكرانيا، كان هناك طيف واسع من وسائل الإعلام الغربية مستغرقًا في عقد المقارنات بين اللاجئين الأوكرانيين “المتحضرين” الذين يتقاسمون مع “الغرب” نفس منظومة القيم الحداثية، واللاجئين القادمين من سوريا والعراق وأفغانستان وأفريقيا المنتمين إلى عالم “الفقر والجهل والتخلف”.