ترجمة: حفصة جودة
“لماذا أستثمر في أعمال الصيانة الضرورية لفتح قنوات الري من نهر شط العرب؟ لن أجني دينارًا واحدًا من شاحنة محمّلة بالتمر”، هذا ما قاله عباس (45 عامًا) أحد سكان مدينة الهارثة التابعة لمحافظة البصرة في العراق.
نظر عباس إلى أشجار التفاح المتناثرة ثم إلى الدخان الناتج عن الاحتراق في آبار النفط في الأفق، ثم عاد بنظره إليّ وقال: “لا مزيد من الزراعة في البصرة، لقد توقّفنا جميعًا بعد عام 2003 بفترة قصيرة، الآن نعمل جميعًا في وظائف حكومية ولدينا متاجر في المدينة”، ثم أضاف بضحكة بريئة: “وبقدر ما أشعر بالقلق، إلا أنني أفضّل العمل في أنواع أخرى من التجارة”.
في السنوات الأخيرة، سلّطت الكثير من تقارير المنظمات الدولية الضوء على الأزمة البيئية في البصرة، فالرواية العامة تقول إن الانخفاض في الإنتاج الزراعي الناتج عن تأثير تغيُّر المناخ قد أدّى إلى الهجرة بأعداد ضخمة إلى المناطق الحضرية، ما أدّى إلى نمو المناطق العشوائية الخارجة عن السيطرة، ويقال إن الحصول على المياه هو الدافع الرئيسي للصراعات -بعضها قَبَلية- في المحافظة.
لا شكّ في أن زيادة الجفاف كان له تأثير شديد على النشاط الاقتصادي في العراق، بينما تأثرت المنتجات الزراعية بشدة نتيجة نقص المياه، أثّر انخفاض مستوى المياه في نهر شط العرب مباشرة على المجتمعات المحلية، خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير في شهور الصيف.
في التسعينيات أدّى جفاف الأراضي الرطبة في العراق إلى اضطرابات ديموغرافية كبيرة
ومع ذلك، لا بدَّ من إعادة تقييم نتائج الاحتباس الحراري على انتقال البشر في البصرة، فالوضع السياسي المعقّد والعوامل الاقتصادية والديموغرافية تؤثّر بشكل كبير في الاختفاء التدريجي للإنتاج الزراعي منذ عام 2003، فالهجرة من الريف إلى الحضر ومشكلة الأحياء الفقيرة في البصرة تسبق تفاقم أزمة التغيُّر المناخي في السنوات الأخيرة.
موجات الهجرة
بخلاف المناطق الحضرية الأخرى في العراق، لم تعد البصرة تجذب الهجرة إليها من الريف، والعمّال غير المهرة الذين يبحثون عن وظائف مؤقتة ليس لهم تأثير دائم على البنية الحضرية للبصرة، لأنهم لا يقيمون بشكل دائم في المدينة.
أدّى الفشل في إدارة المياه والزراعة، خاصة في مدينتَي العمارة والكوت، إلى موجات هجرة متعاقبة للمزارعين السابقين إلى البصرة، ووفقًا للأرشيف البريطاني والعراقي عام 1958، فإن الأكواخ المصنوعة من أعواد القصب على الأراضي المملوكة للدولة قد شكّلت تحديات صحية واجتماعية، بينما سمحت مشاريع الإسكان اللاحقة بإعادة التوطين في مجمعات سكنية، وأشهرها في الحيانية.
في النصف الثاني من القرن العشرين، استمرت فرص العمل في جذب العمّال غير المهرة رغم مخططات إصلاح الأراضي للحدّ من الهجرة الريفية، وفي التسعينيات أدّى جفاف الأراضي الرطبة في العراق إلى اضطرابات ديموغرافية كبيرة.
بعد صدور قانون الإصلاح الزراعي رقم 117 لعام 1970، والذي يمنع بناء المساكن فوق الأراضي الزراعية، أصبح النمو الحضري في العراق محدودًا حتى عام 2003.
هكذا اضطر الوافدون الجدد من الريف إلى الانتقال مع أقاربهم في الحارات الضيقة، ولجأ بعض المهاجرين من الريف أيضًا إلى داخل مدينة البصرة هربًا من العداوات القَبَلية طويلة المدى في مناطقهم الأصلية، وذلك وفقًا لمقابلات ميدانية أُجريت في أحياء البصرة الفقيرة في ديسمبر/ كانون الأول 2021 ومارس/ آذار 2022.
بسبب الفوضى التي نتجت عن انهيار النظام البعثي عام 2003، استولت الجماعات المسلحة القوية بشكل ممنهَج على الأراضي الخالية، وقسمت الأراضي المملوكة للدولة إلى قطع صغيرة باعتها للسكان الفقراء، والذين بنوا منازلهم فوقها، فانتشرت المساكن المتداعية على ضفاف النهر والطرق.
خارج مدينة البصرة، أدّى التسارع الحضري إلى التوقف شبه الكامل لمعظم الأنشطة الزراعية، وعلى نهر شط العرب تحوّلت الأراضي الزراعية المحاذية للمدينة إلى مناطق سكنية، خاصة في مدينتَي التنومة وأبو الخصيب.
ومع توقُّف الزراعة المدعومة من الدولة تمامًا في عام 2003، قسم صغار ملّاك حدائق وبساتين التمر ممتلكاتهم، وبيعت الأرض للقادمين من الأهوار الجافة، أو لسكان البصرة الهاربين من المدينة نتيجة زيادة الكثافة السكانية.
الافتقار للدعم الحكومي
إضافة إلى ذلك، في مدينتَي أبو الخصيب والزبير جنوب وغرب البصرة، قال مسؤول محلي -طلب إخفاء اسمه- ومستأجرون سنّة سابقون إن الجماعات المسلحة استولت على المساكن المملوكة للكويتيين والسعوديين الذين فرّوا إلى العراق بعد حرب الخليج عام 1991، وباعوها بصكوك ملكية مزوّرة في كثير من الأحيان.
أُخليت المنازل من المستأجرين السنّة، وبُنيت منازل أخرى على أكثر الأراضي الزراعية خصوبة في العراق.
تراجعت الزراعة المنتجة تدريجيًّا بعد عام 2003 نتيجة نقص الدعم الحكومي، كما أدّى استيراد المنتجات الغذائية الرخيصة من إيران إلى انخفاض الأسعار. في الهارثة شمال البصرة وفي كل مكان آخر يقول أصحاب البساتين إن الزراعة لم تعد مصدرًا للدخل، لذا هم يعملون في أنشطة اقتصادية أخرى أغلبها في القطاع الخاص، بينما تكفي المياه المرشحة من القنوات المسدودة زراعة الكفاف.
من بين حوالي 5 آلاف مزرعة كانت موجودة في منطقة صفوان-الزبير عام 2003، لم يبقَ اليوم سوى أقل من 2000 مزرعة.
أما المناطق الباقية لما يعرَف بالزراعة التنافسية فتقع في منطقة صفوان-الزبير جنوب غرب البصرة، وفقًا للمزارعين المحليين وأصحاب محلات البقالة في البصرة، وتهدف زراعة تلك الحدائق الصغيرة إلى تلبية احتياجات الأسواق المحلية.
ازدادت أسعار المدخلات الزراعية المستوردة مثل المبيدات والأسمدة منذ تعويم الدينار العراقي في عام 2020، يقول المزارعون إنهم لجأوا إلى الواردات الأرخص من الصين والهند لكنها ذات جودة أقل وتؤثر سلبًا على الإنتاج، ونتيجة لذلك غرق الكثير منهم في الديون.
ولأن الزراعة العراقية لم تعد تنافسية، لجأ المزارعون تدريجيًّا إلى مصادر أخرى للدخل، وفقًا لمتخصّصي الزراعة في شركة “مشتل فارس” الخاصة والتي تبيع المدخلات الزراعية، فإنه من بين حوالي 5 آلاف مزرعة كانت موجودة في منطقة صفوان-الزبير عام 2003، لم يبقَ اليوم سوى أقل من 2000 مزرعة.
يعتمد المزارعون في منطقة صفوان-الزبير على الآبار الحِرَفية، ما يعني أن الإنتاج لا يتأثر بالجفاف أو موجات الحرّ الطويلة في مناطق أخرى حيث تحولت معظم الأراضي إلى مناطق سكنية، ولم يكن للمياه المالحة القادمة من البحر سوى تأثير محدود على الزراعة.
لكن مع زيادة تركيز الملح، لم تعد المياه القادمة من نهر شط العرب صالحة للري، وتمكّن أصحاب البساتين الأثرياء الذين يزرعون بهدف المتعة من تركيب محطات خاصة بهم لمعالجة المياه.
والآن، أصبحت مشكلات تخصيص الموارد المائية أو النزاع على حدود الأراضي نادرة في البصرة، لأنه لم يعد هناك المزيد من الأراضي لزراعتها، ومع ذلك أدّى انتشار البطالة الناجم عن انتهاء أنشطة الزراعة المنتجة إلى ظهور العنف الاجتماعي.
المصدر: ميدل إيست آي