قد يدانون بالحبس 20 عامًا.. قصة أكبر محاكمة لنشطاء إنقاذ في أوروبا

ترجمة وتحرير: نون بوست

بدأت الأزمة برسالة بريد إلكتروني أرسلها بيترو غالو، ضابط شرطة سابق من روما، في أيلول/ سبتمبر 2016 للاستخبارات الخارجية الإيطالية؛ حيث كان جالسا في مقصورته على متن سفينة الإنقاذ “فوس هيستيا”، التي يبلغ ارتفاعها 200 قدم، التي كانت تقوم بدوريات في المياه الدولية قبالة الساحل الليبي. وكان برفقته زميليه فلوريانا باليسترا ولوسيو مونتانيو، وهما ضابطان سابقان. وقد عمل الثلاثة كحراس أمن في منظمة “أنقذوا الأطفال” الخيرية الدولية، التي تدير سفينة “فوس هيستيا”، وكانوا يكتبون للإبلاغ عن جريمة.

عثر غالو على عنوان بريد إلكتروني عام لجهاز المخابرات بعد بضع دقائق من البحث في متصفح “غوغل”. وأوضح الثلاثة أنهم شاهدوا أنشطة مشبوهة من قبل المنظمات الإنسانية غير الحكومية الناشطة بالقرب من الساحل الليبي. وقد حاولوا الاتصال بالشرطة في ميناء تراباني في صقلية، لكنهم اعتقدوا أن الشرطة لم تتصرف لأن القضية برمتها كانت كبيرة للغاية، وقال غالو لاحقًا لمونتانيو إن “الفساد مستشرٍ في البحر الأبيض المتوسط”.

وصل حوالي 200 ألف شخص إلى إيطاليا عن طريق البحر في تلك السنة بعد فرارهم من ليبيا على متن قوارب مطاطية قابلة للنفخ أو قوارب صيد خشبية معاد استخدامها لأغراض أخرى. وفي أغلب الأحيان، تم إنقاذهم من قبل سفن خفر السواحل الأوروبية أو المنظمات الإنسانية قبل وقت طويل من وصولهم إلى المياه الإيطالية.

تمعّن غالو النظر في خريطة البحر الأبيض المتوسط، وتيقّن أن السفن تنقل المهاجرين  من الساحل الأفريقي إلى أوروبا، وكانت سفينة “فوس هيستيا” الضخمة واحدة من أكثر من 12 من السفن الإنسانية التي تقوم بدوريات في المنطقة.

وتساءل غالو عمن يقف وراء قيام المنظمات بإرسال السفن إلى البحر؟ وكيف يمكن أن يكون لديهم الكثير من المال؟ كانت الشكوك ترتاب غالو ، لكنه كان يعرف شيئًا واحدًا: كان هناك شيء مريب، وكان من واجبه أن يعرف ما هو.

قال غالو  لاحقًا إنه أراد تقصي الأمر وكشف خبايا ما كان يحدث في عرض البحر الأبيض المتوسط؛ حيث تظهر المحادثات التي تم التنصت عليها أنه كان يأمل أيضًا في استعادة وظيفته في سلك الشرطة – فقد طُرد سابقًا لسوء السلوك – أو حتى الحصول على وظيفة كعميل سري.

وفي حديثه إلى مونتانيو؛ تخيل غالو  لقاء خاص مع رئيس الشرطة الوطنية الإيطالية، شرطة الولاية، التي تتبع وزارة الداخلية، وقال لزميليه: “أريد أن أقول لهم الآتي: انظروا، بما أنني أعتقد أن الهجرة غير الشرعية  لن تنتهي في أي وقت قريب، يمكننا توقيع عقد مع الوزارة – حيث  تضعوننا على متن سفينة تابعة للصليب الأحمر، وسنكون بمثابة جواسيسكم هناك”.

لم يتلق كل من غالو  وباليسترا ومونتانيو أي رد على بريدهم الإلكتروني، ولكن رسالتهم وصلت في النهاية إلى السلطات الإيطالية في وقت يتزايد فيه الاستياء من دور المنظمات غير الحكومية المعنية بالإنقاذ.

كان السياسيون المناهضون للهجرة يوزعون نظريات حول “عامل الجذب” المفترض الذي تمثله المنظمات، وقدمت لهم رسالة غالو هدفًا، وانتهى المطاف برسالة غالو  التي تضمنت تفاصيل بحثه السري الذاتي على مكاتب السياسيين في روما وبروكسل.

ووصلت الرسالة إلى مقر فرونتكس في وارسو، الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل. والأهم من ذلك، وصلت إلى متناول المدعين العامين المناهضين للمافيا المكلفين بتنسيق التحقيقات المتعلقة بالهجرة في جميع أنحاء إيطاليا.

وسيشمل التحقيق الناتج؛ التصنت على  العديد من المكالمات الهاتفية، والتصنت على سفن الإنقاذ بميكروفونات سرية، ووضع ضابط شرطة سري على متن سفينة “فوس هيستيا”، وكل ذلك جزء من تحقيق واسع النطاق في نشاط المنظمات الإنسانية. ووفقًا للمحادثات التي تم التصنت عليها، فيما اعتقد غالو أن المنظمات غير الحكومية التي تعمل على إنقاذ الأرواح في البحر وتتلقى تمويلا من قبل “نخب العولمة”: وبالتعاون مع المهربين الليبيين.

حدد البريد الإلكتروني الذي أرسله غالو  إحدى المنظمات المشبوهة بشكل خاص، وهي منظمة “يوجند ريتيت” الألمانية غير الربحية التي تدير سفينة إنقاذ تُعرف باسم سفينة “يوفينتا”.

وفي الوقت الراهن؛ يخضع أربعة أعضاء من منظمة “يوجند ريتيت” للمحاكمة في صقلية بتهمة مساعدة وتحريض الهجرة غير الشرعية، ويزعم المدعون أنهم نسقوا بشكل مباشر مع المهربين لترتيب تسليم المهاجرين إلى إيطاليا.

وفي حالة إدانتهم، سيصدر بحقهم حكم بالسجن لمدة تصل إلى 20 سنة وسيكونون أول منقذين إنسانيين في أوروبا يُدانون بارتكاب جريمة بسبب عملهم، ويواجه 17 من عمال الإغاثة الآخرين والبحارة المحترفين نفس التهم وتهم أخرى تتعلق بجهود الإنقاذ، كما اتهمت كل من  منظمة “أنقذوا الأطفال” و”أطباء بلا حدود” مثلها مثل الشركة التي تملك السفن التي استأجرتها.

وتسلط مجموعة من 30 ألف صفحة من وثائق المحكمة، التي اطلع عليها موقع “ذا انترسبت”، الضوء على حجم هذه القضية، وهي الأكبر من نوعها في التاريخ الأوروبي؛ حيث يغطي ملف المحكمة بكامله أكثر من أربع سنوات من التحقيقات ويشمل محاضر عمليات التنصت والتسجيلات السرية واستجوابات الشرطة؛ والمواد التي تم أخذها من الأجهزة الإلكترونية المضبوطة؛ والتقارير التي كتبها ضابط سري.

تُظهر الوثائق كيف بذل المدعون الإيطاليون المناهضون للمافيا جهودًا كبيرة لكشف النقاب عن “تجاوزات منظمات الإنقاذ الإنسانية وطواقمها”، وتنصتت السلطات على المحادثات المحمية بموجب القانون للصحفيين والمحامين واستعانت بشركة لاختراق هاتفين جوالين على الأقل عن بُعد باستخدام برنامج مراقبة قوي. وتُظهر وثائق المحكمة أيضًا كيف استخدم مسؤولون من وزارة الداخلية الإيطالية هذه التحقيقات كأداة للضغط على المنظمات الإنسانية.

في الواقع، تمت كل هذه الإجراءات في الوقت الذي كانت تسعى فيه الشرطة لإثبات ماهية نظرية المؤامرة، والتي تتمحور حول حقيقة أن المنظمات الإنسانية غير الحكومية الناشطة في عرض البحر الأبيض المتوسط تستفيد من الهجرة من خلال التواطؤ مع المهربين في ليبيا.

صورةمنظمة “مواس” غير الحكومية المالطية والصليب الأحمر الإيطالي تنقل المهاجرين واللاجئين إلى سفينة “فوس هيستيا”، التي تديرها منظمة “أنقذوا الأطفال”، بعد عملية إنقاذ قبالة الساحل الليبي في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016.  

رجل في البحر

يتميّز بيترو غالو  بجسد ممتلئ وهو أصلع ويتحدث بنبرة مستقلة بالنسبة لشخص روى قصته عدة مرات. لوهلة؛ حظي غالو  بإذن من شخصيات رفيعة المستوى في أقصى اليمين الإيطالي، حيث تلقى مكالمات من ماتيو سالفيني، المتشدد المناهض للهجرة والذي أصبح وزيرا للداخلية، لكن غالو  يقول إن سالفيني والبقية استخدموه فقط لتعزيز أجنداتهم الخاصة.

وقال وهو يهز كتفيه “بالطبع أشعر أنهم استغلوني”؛ حيث تحدثنا إلى غالو  في الفناء الخلفي لأحد الفنادق في مطار روما؛ حيث قال: “لقد كوفئ الكثير من الناس مهنيا على هذه القصة، في الحكومة والشرطة. وكثيرون منهم عوقبوا، لكن كثيرين منهم كوفؤوا”.

لم يشرع غالو  أبدًا في العمل على متن سفن إنسانية، ولكنه طرد من قسم الشرطة في روما بعد اتهامه بزرع مخدرات مزيفة في سيارة أحد المنافسين. (قال غالو إنه لا يزال يتحدى الفصل). ثم في سنة 2016، تلقى مكالمة من شركة  “آي إم آي، للخدمات الأمنية والتي يملكها رجل يدعى كريستيان ريتشي، وأُبلغ غالو  أن منظمة بحث وإنقاذ كانت بصدد تعيين طاقم أمني لسفينتها.

قبل أسابيع، في المياه الدولية قبالة سواحل ليبيا، أطلق مسلحون مجهولون النار على سفينة إنقاذ مستأجرة من قبل منظمة أطباء بلا حدود وصعدوا على متنها، وتخشى منظمة “أنقذوا الأطفال” من احتمال وقوع حوادث مماثلة مرة أخرى.

وقال غالو  إنه بدأ في ملاحظة المشاكل بعد فترة وجيزة من صعوده على متن سفينة “فوس هيستيا”. في البداية؛ كان هناك انقسام بين أفراد الطاقم – معظمهم من النشطاء والبحارة المحترفين – وفريقه من ضباط الشرطة السابقين الذين يعملون في مجال الأمن.

كانت عمليات الإنقاذ عصيبة، وغالبًا ما كانت القوارب محاطة بالسفن العسكرية الأوروبية وخفر السواحل الليبي وأحيانًا الصيادين الليبيين الذين يأملون في سرقة محركات الزوارق أو إعادة القوارب إلى الساحل مقابل أجر. وتعتبر السلطات الأوروبية “صيادي المحركات” هؤلاء، كما يعرّفهم العاملون في المجال الإنساني، جزءًا من جهاز التهريب الليبي.

يوثق عمال الإنقاذ عملهم في البحر بكاميرات محمولة على خوذة ومصورين على متن السفن. وتستخدم الشرطة الإيطالية هذه الصور للتعرف على الأشخاص الذين يقودون القوارب، والذين يتم القبض عليهم بشكل روتيني بتهمة التهريب ويحكم عليهم أحيانًا بالسجن لمدة عقود. ووفقًا لوثائق الشرطة الداخلية، كان المدعون على علم منذ سنة 2015 بأن معظم سائقي القوارب كانوا مهاجرين لا صلة لهم بالمهربين الليبيين، لكنهم واصلوا حملة الاعتقالات على أي حال.

ولم تُسلّم بعض الصور من عمليات الإنقاذ التي نفذتها منظمة سفينة “فوس هيستيا” إلى السلطات مطلقًا، وقد أثار هذا الأمر غضب غالو ، وقال للمحققين لاحقًا إن الصور ومقاطع الفيديو كانت “مخفية بشكل منهجي”، ثم استخدمتها “لأغراض ترويجية”.

بعد أسابيع من إرسال رجال الشرطة السابقين الثلاثة رسالة البريد الإلكتروني، كان التوتر يتصاعد على متن سفينة “فوس هيستيا”، فوفقًا لتقارير الشرطة، في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2016، اندلع هناك شجار جسدي على متن السفينة بين باليسترا ومونتانينو، وضرب مونتانيو باليسترا بصفيحة بلاستيكية أثناء جدال حول نوبات العمل.

بعد ذلك؛ ذهبت باليسترا إلى الشرطة في تراباني للإبلاغ عن زميلها. ويؤكد كل من غالو  وباليسترا أن الشجار لم يكن مرتبا، لكنهما يعترفان باستخدامه كذريعة للتحدث إلى سلطات إنفاذ القانون. وفي حديثه عن باليسترا، قال غالو  إنها: “استخدمت شجارها مع مونتانينو كذريعة وذهبت إلى الشرطة لتخبرهم بما حدث بالفعل على متن السفينة”.

ويتذكر غالو  بوضوح الاجتماع مع الشرطة، فقد اتصلت به باليسترا من مركز الشرطة، قائلة إن الضباط أرادوا سماع المزيد عن الأنشطة المشبوهة التي شاهدوها. وعندما وصل غالو ، طرح عليه مدير وحدة التحقيق في تراباني المزيد من الأسئلة حول المنظمات الإنسانية أكثر من الأسئلة المتعلقة بالشجار. وفي النهاية؛ اعتقد غالو  أن شخصًا ما كان يستمع للمحادثة؛ حيث اشتكى حارسا الأمن من أن منظمة “أنقذوا الطفولة” قد فرضت ميثاق الصمت، الذي يحظر على أفراد الطاقم التحدث إلى سلطات إنفاذ القانون.

قال غالو  إنه بالنظر إلى رادار سفينة “فوس هيستيا”، فقد لاحظ أن سفينة “يوفينتا” أبحرت بالقرب من الساحل الليبي بشكل خاص، وأعطى الشرطة نسخة من رسالة بريده الإلكتروني التي أرسلها إلى جهاز المخابرات. وقامت الشرطة لاحقًا بمشاركتها مع المدعي العام في تراباني الذي يعمل مع مديرية مكافحة المافيا الإيطالية، وهي الهيئة الوطنية التي تتعاون بدورها مع اليوروبول، وفرونتك، وعملية صوفيا، وهي مهمة بحرية أطلقها الاتحاد الأوروبي في وسط البحر الأبيض المتوسط.

وقال غالو  إنه اقترح أن تزرع الشرطة عميلًا سريًا على متن سفينة “فوس هيستيا” من خلال إبرام عقد مع رب عمله، صاحب شركة “آي إم آي” للخدمات الأمنية. ويتذكر غالو  قائلا “لقد عينني ريتشي وأرسلني إلى هناك، وهو يرى ما يحدث بالفعل. وبعد ذلك هذا ما حدث لاحقًا”.

صورةرجل إنقاذ يقف على متن سفينة في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، ويظهر في الخلفية سفينة “يوفينتا”، التي تديرها منظمة “يوجند ريتيت” الألمانية غير الحكومية. 

نداء استغاثة عيد الفصح

كانت سفينة “يوفينتا” أول سفينة إنقاذ إنسانية والوحيدة في وسط البحر الأبيض المتوسط ترسل نداء استغاثة لنفسها على الإطلاق. حدث ذلك في نيسان/ أبريل 2017، بعد سبعة أشهر من إرسال غالو  وزملائه رسالة البريد الإلكتروني. وكانت سفينة “يوفينتا” على بعد 24 ميلاً بحريًا من الساحل الليبي، في امتداد المياه الدولية حيث يرقد  معظم حطام السفن في البحر الأبيض المتوسط. تزامن ذلك مع عيد الفصح، حيث لم يكن هناك وجود لسفن خفر السواحل الإيطالية في المنطقة، وفي نهاية هذا الأسبوع، فر الناس بالآلاف من ليبيا.

في وقت سابق من تلك السنة؛ قرر الاتحاد الأوروبي سحب دوريات الإنقاذ لخفر السواحل نصف يوم على الأقل من منطقة البحث والإنقاذ. وحسب المنطق، فإن جعل الرحلة أكثر خطورة من شأنه أن يردع المهاجرين في المستقبل. كما بدأ خفر السواحل حملة لتدمير قوارب المهاجرين بعد عمليات الإنقاذ لمنع المهربين من استخدامها مرة أخرى. وفي شباط/ فبراير؛ أبرمت إيطاليا اتفاقية مع الحكومة الليبية الوليدة المدعومة من الأمم المتحدة لتجهيز وتدريب خفر السواحل الليبي الجديد لاحتواء المهاجرين.

وردا على ذلك، بدأ المهربون الليبيون في دفع المزيد من الناس إلى البحر دفعة واحدة. وتم تجهيزهم بقوارب رديئة ووضع عدد أكبر من الأشخاص على متنها وكان الوقود بالكاد يكفي للخروج من المياه الإقليمية الليبية. ووفقًا لتقرير صدر سنة 2017 من عملية صوفيا، تميز ذلك الصيف بـ “عمليات هجرة جماعية على متن عدد كبير من السفن”، وترك انسحاب دوريات خفر السواحل السفن الإنسانية تندفع لسد الفجوة.

تعتبر سفينة “يوفينتا” صغيرة مقارنة بسفن الإنقاذ الأخرى التابعة للمنظمات غير الحكومية. ولا يتجاوز طولها 100 قدم وهي مطلية باللون الأزرق الفاتح. ونظرًا لحجمها الصغير، لم يستوعب ظهر السفينة عددًا كبيرًا من الأشخاص الذين تم إنقاذهم. وفي كثير من الأحيان، قام طاقم سفينة “يوفينتا” بعمليات الإنقاذ ثم نقل الأشخاص إلى سفن إنسانية أكبر حجما، مثل سفينة “فوس هيستيا”، أو سفن تتابعة لخفر السواحل الإيطالي.

كان طاقم يوفينتا أيضًا أصغر سنًا وأكثر ميلًا للسياسة وأكثر استعدادًا لعصيان السلطات باسم الإنقاذ الإنساني، فقد عملوا بالقرب من الحدود الليبية أكثر من المنظمات الأخرى، مما أثار مزيجًا من الإعجاب والشك؛ حيث وصفهم موظف في منظمة أطباء بلا حدود في إحدى المحادثات التي تم التنصت عليها بأنهم “قارب متمردين” .

وبينما تساور غالو الشكوك حول يوفينتا، فقد تأثر برغبة الطاقم في تنفيذ عمليات إنقاذ محفوفة بالمخاطر، حتى في المياه الليبية عند الضرورة؛ حيث يتذكر قائلاً: “لقد كانوا محترفين شجعانًا لا يعرفون الخوف، لم يأبهوا بالمخاطر”.

في عطلة عيد الفصح تلك، كان لدى طاقم يوفينتا في البحر مشكلة، فقد كانت سفينتهم محاطة بقوارب مطاطية تمر بمحنة، ولم يكن لديهم متسع على متن السفينة للجميع، فقام الطاقم بنفخ أطواف النجاة الخاصة بهم وربطها ببعضها البعض، ثم قاموا بضم هذا الهيكل للسفينة لخلق مساحة أكبر، لقد كان حلاً سريعًا نجح عندما كان البحر هادئًا، لكن الطقس كان على وشك التغير.

يتذكر ستيفانو سبينيلي نهاية الأسبوع هذه جيدًا، كان سبينيلي رئيس منظمة غير حكومية طبية تسمى “قوس قزح من أجل أفريقيا”، والتي وضعت الأطباء على متن سفينة يوفينتا لتقديم الرعاية الطبية للمهاجرين الذين تم إنقاذهم، وقد كان مسؤولاً عن الاتصال بخفر السواحل الإيطالي، كواحد من الإيطاليين القلائل الذين يعملون مع منظمة غير حكومية ألمانية.

تلقى سبينيلي مكالمة هاتفية محمومة من مقر منظمة “يوجند ريتيت” الرئيسي في برلين أثناء تناوله العشاء في مسقط رأسه بيزا، وأوضحوا أن هناك عاصفة قادمة وأن قوارب النجاة قد بدأت في الانقلاب، مما جعل طاقم السفينة يقرر أخذ الجميع – 300 شخص – على متن السفينة.

يتذكر سبينيلي قائلًا: “أخبرني القبطان أن السفينة لم تعد قادرة على الإبحار، وأنهم اضطروا إلى إرسال رسالة استغاثة، وإذا أرسل أحد الأصول [البحث والإنقاذ] استغاثة، فهذه مشكلة كبيرة.”

وقال سبينيلي إن مركز تنسيق الإنقاذ البحري الإيطالي الذي يديره خفر السواحل في روما، تمكن لحسن الحظ من تحويل مسار ناقلة تجارية لصد الأمواج، كما حاول المركز إرسال سفن خفر السواحل لإنقاذ سفينة يوفينتا، لكن في كل مرة فعلوا ذلك عثرت تلك السفن أيضًا على مهاجرين على طول الطريق واضطرت إلى بدء عمليات الإنقاذ، في النهاية تم إنقاذ “يوفينتا” من قبل “فوس هيستيا” وسفينة إنقاذ أخرى.

بالنسبة لسبينيلي كانت حلقة حادثة الاستغاثة هذه  نقطة فارقة، حيث قال: “إذا كنت غير قادر على إجراء عملية إنقاذ بأمان، فلا داعي لأن تكون هناك، لذلك بدأنا في التفكير حول ما إذا كنا نقوم بالعملية الصحيحة أم أننا غير قادرين لأننا إمكانياتنا ضئيلة جدًا”، ثم قرر بعدها أن تنفصل منظمته عن منظمة “يوجند ريتيت” وأرسل بريدًا إلكترونيًا إلى كبار ضباط خفر السواحل الإيطاليين ينأى بنفسه عن يوفينتا.

وكشف المدعي العام في مدينة تراباني خلال جلسة استماع عقدتها لجنة الدفاع في مجلس الشيوخ الإيطالي في الشهر التالي عن أن بعض الأفراد من منظمات الإنقاذ في البحر الأبيض المتوسط يخضعون للتحقيق، لكنه لم يذكر تفاصيل وخلف الأبواب المغلقة، بدأ طاقم سفينة يوفينتا يشتبه في أن المشاكل القانونية قد تلوح في الأفق.

فوفقًا لمحضر اجتماع عُقد في أيار/مايو 2017 بين العديد من المنظمات الإنسانية، أعرب البعض عن قلقه بشأن “عزلة المنظمات غير الحكومية الأصغر في البحر ونقص التمويل اللازم لاستكشاف الخيارات القانونية”، وقالت منظمة “يوجند ريتيت” إنهم شعروا أن مركز خفر السواحل أراد إخراجهم من منطقة البحث والإنقاذ في أعقاب حادثة الاستغاثة.

مع اقتراب الانتخابات العامة في إيطاليا في أوائل سنة 2018، أصبحت الهجرة ودور المنظمات غير الحكومية للإنقاذ من القضايا الساخنة في الحملات الانتخابية. انتهز غالو وباليسترا الفرصة وتواصلوا معًا مع قادة الأحزاب الرئيسيين لتقديم معلوماتهم الداخلية، وردّ عليهم سالفيني، رئيس حزب ليغا اليميني المتطرف؛ حيث اتصل أولاً بغالو شخصيًا ثم رتب له لاحقًا قناة لتقديم التقارير. وقد كان سالفيني يقوم بحملته على أساس برنامج صارم مناهض للهجرة، كما زعم في إحدى المقابلات أن هناك أسلحة ومخدرات على متن بعض سفن  الإنقاذ الإنسانية، نقلاً عن مصادر على متن هذه السفن.

لم تكن تكهنات رجال الشرطة السابقين بشأن النشاط غير المشروع في البحر الأبيض المتوسط مجرد إعلام للسياسة الوطنية، فقد تحول تقريرهم إلى الشرطة في تراباني منذ ذلك الحين إلى تحقيق منسق من قبل قسم العمليات الخاصة في الشرطة الوطنية. وعندما اكتشفوا أن القسم قد تولى السيطرة، هنأ كل من  غالو وباليسترا بعضهما البعض؛ حيث قال غالو في محادثة تم التنصت عليها: “لقد قمنا بعمل جيد”، وافقت باليسترا قائلة: “نحن نستحق مكافأة”.

ومع ذلك فإن التحقيق كان يبدأ لتوه، لاحقًا ستستمع الشرطة إلى مكالمات سبينيلي الهاتفية وتقرأ رسائل البريد الإلكتروني الخاصة به وهو ينتقد طاقم يوفينتا، وسيكون لديهم ضابط متخفٍ على متن فوس هيستيا.

صورةمهاجرون ينزلون من فوس هيستيا في ميناء كروتوني بإيطاليا في 6 حزيران/يونيو 2021.

رحلة صيد

قامت الشرطة والمدعون في صقلية بالتنصت على هواتف 40 شخصًا على الأقل كجزء من تحقيقهم، بما في ذلك موظفي منظمات يوجند ريتيت وأطباء بلا حدود وأنقذوا الأطفال، بالإضافة إلى المتعاقدين الأمنيين على متن فوس هيستيا، والذين لم يكن معظمهم قيد التحقيق رسميًا أو يشتبه في ارتكابهم أي جريمة، كما تم التنصت على مكتب تابع لمنظمة أطباء بلا حدود في صقلية، وتم وضع ميكروفونات مخفية على متن ثلاث سفن، وهي سفينة فوس هيستيا وسفينة فوس برودنس التابعة لمنظمة أطباء بلا حدود وسفينة يوفينتا، كما قامت الشرطة بالتنصت على محاميي حقوق الإنسان والصحفيين العاملين في قضايا الهجرة – المحادثات مع العملاء والمصادر التي من المفترض أن تكون محمية من رقابة الشرطة بموجب القانون الإيطالي وفقًا لمحامين يمثلون يوجند ريتيت وأطباء بلا حدود -، وقال محامو المنظمتين إنهما يخططان للطعن في الأساس القانوني لهذه المراقبة.

ووفقًا لوثائق المحكمة، فقد قامت الشرطة في تراباني أيضًا باستئجار شركة في ميلانو تسمى “آر سي إس لاب” بهدف اختراق الهواتف المحمولة لموظفي منظمة أطباء بلا حدود عن بُعد باستخدام تقنيات التصيد لتثبيت برامج قادرة على استخراج البيانات من أجهزتهم ومراقبتها في الوقت الفعلي عبر ميكروفونات هواتفهم. وتخضع شركة “آر سي إس” ، التي تقدم خدمات القرصنة والمراقبة للعملاء في جميع أنحاء العالم، للتدقيق من قبل لجنة برلمانية أوروبية تم إنشاؤها في أعقاب الكشف عن برنامج التجسس “بيجاسوس” الذي تبيعه شركة “إن إس أو جروب” الإسرائيلية.

قام المدعون بالتنصت على غالو نفسه لمدة سبعة أشهر على الأقل دون علمه، وبينما كانوا يسعون إلى توسيع نطاق مراقبتهم أظهرت وثائق المحكمة أنه كثيرًا ما يتم الاستشهاد بمحادثات غالو المرتابة مع زملائه حول الدوافع الحقيقية للعاملين في المنظمات غير الحكومية كدليل؛ ففي إحدى المكالمات، أشار غالو إلى أن “شخصيات عالمية قوية” تمول الهجرة من ليبيا، وفي رسالة أخرى، أخبر مونتانيو غالو أن فوس هيستيا أنقذت القوارب التي كانت تسير على ما يرام في “ظروف إبحار مثالية”؛ حيث تم استخدام مثل هذه المحادثات لتبرير المراقبة المستمرة لعدد متزايد من الناس خلال التحقيق.

وكان أحد هؤلاء الأشخاص هو موسى زراي، وهو قس وناشط حقوقي من إريتريا، والذي استمعت الشرطة إلى محادثات له مع محاميه، ومع عضو في مجلس الشيوخ الإيطالي، ومع الصحفيين، والعديد من دبلوماسيي الفاتيكان بحسب ما قال هو للصحافة عندما اندلعت أخبار التنصت على المكالمات الهاتفية لأول مرة، وقد خضع زراي للتحقيق بعد أن ذكر غالو اسمه للشرطة لأن رقم هاتفه متداول بين اللاجئين الإريتريين، الذين اتصلوا به في كثير من الأحيان عندما مروا بمحنة في البحر، وقال زراي إنه أحال هذه القضايا إلى خفر السواحل الإيطالي كما يقتضي القانون البحري الدولي. تم وضع علامة على العديد من مكالمات زراي التي تم التنصت عليها على أنها “مهمة جدًا”، ولكن لم يتم اتهام زراي ولا أي شخص كان يتحدث معه بارتكاب أي جرائم.

وقالت نانسي بورسيا، إحدى الصحفيات اللاتي استجوبتهم الشرطة: “لم يستمعوا فقط إلى محادثاتي مع الأصدقاء والعائلة، ولكن أيضًا مكالماتي السرية مع المصادر، الصحافة الحرة ضرورية للديمقراطية، ومن الخطير جدًا أن يتمكنوا من الوصول إلى محادثاتي مع المصادر”. بورسيا هي إحدى الخبراء البارزين في أوروبا في مجال الهجرة، وكانت أول صحفية تبلغ بأن مسؤولي خفر السواحل الليبيين المدعومين من إيطاليا والاتحاد الأوروبي هم أنفسهم متورطون في الإتجار بالبشر.

ووفقًا لملفات المحكمة فقد قامت الشرطة بالتنصت على محادثات بورسيا على مدار ستة أشهر، وطالبت بتمديدات متعددة للحد القانوني البالغ 15 يومًا من أجل جمع معلومات عن مصادرها، حيث قالت بورسيا: “أساء المحققون استخدام سلطتهم لمعرفة ما كنت أعمل عليه”.

تم التنصت أيضًا على سيرينا رومانو، المحامية الجنائية في باليرمو بصقلية، أثناء حديثها عن استراتيجية الدفاع لأحد موكليها، حيث قالت رومانو: “عندما اكتشفت أن محادثاتي المشمولة بامتياز المحامي والموكل كانت في سجلات المحكمة شعرت بالاشمئزاز”.

وأضافت: “هذه القوانين هي درع يسمح لنا بعدم الانصياع لخلل الشرطة والنظام القضائي، وإذا كانت هذه الحماية غير متوفرة، فإن نظام الدفاع القانوني لم يعد يعمل”.

اعتمد المدعون العامون المناهضون للمافيا لعقود من الزمن على المراقبة المترامية الأطراف والتنصت طويل الأمد لبناء قضايا ضد عائلات الجريمة المنظمة العاملة في إيطاليا، ولكن مع تضاؤل عدد تحقيقات المافيا واسعة النطاق، نظر المدعون إلى ما اعتبروه نوعًا جديدًا من المافيا: عصابات التهريب الليبية التي تسهل الهجرة؛ حيث طوروا في سنة 2013 صيغة لقوانين مكافحة التهريب الإيطالية سمحت لهم بتوسيع نطاق سلطتهم القضائية في المياه الدولية ومحاكمة الأشخاص الذين يقودون قوارب المهاجرين بشدة.

لم تعتمد هذه المحاكمات على صور من عمليات الإنقاذ فحسب، بل اعتمدت أيضًا على أقوال الشهود التي تم الحصول عليها قبل تواصل المهاجرين مع المحامين أو موظفي المنظمات غير الحكومية. ومع بدء المنظمات الإنسانية في تحمل نصيب أكبر من عمليات الإنقاذ في البحر، تمت المماطلة في المحاكمات؛ حيث استكشف المدعون المناهضون للمافيا خلال اجتماعات مغلقة طرقًا لإبعاد المنظمات عن الطريق، وذلك من خلال اتهامهم بالتهريب، أو إجبارهم على وجود الشرطة على متن سفنهم، أو كليهما.

في أيار/مايو 2017 صعد ضابط الشرطة المتخفي على متن فوس هيستيا في مالطا، وتم تقديمه إلى الطاقم كرجل إطفاء يعمل لدى شركة “آي إم آي” للخدمات الأمنية باستخدام الاسم المستعار لوك براكو، وكان سلوكه محيرًا بالنسبة لفيتو رومانو، الضابط الأول في السفينة.

يتذكر رومانو قائلًا: “سألته عن عمله كرجل إطفاء ولم يقل شيئًا، ثم إنه عندما كان يعتقد أن الناس لا ينظرون، كان يخرج كاميرا صغيرة ويلتقط الكثير من الصور.”

قدم براكو هذا الدليل إلى رؤسائه في الشرطة الوطنية في وقت لاحق من ذلك الشهر في بلدة كوريليانو كالابرو؛ حيث وجه خفر السواحل فوس هيستيا لإنزال مئات الأشخاص الذين تم إنقاذهم للتو. وقد قامت الشرطة باعتقال ثلاثة من قائدي القوارب المزعومين نتيجة لذلك، لكن براكو لم يكن قادرًا على إظهار أي تواطؤ بين المهربين والمنظمات غير الحكومية. ومع ذلك، فقد قام بتصوير خفر السواحل الليبي – الممول من إيطاليا والاتحاد الأوروبي – وهو يرافق قوارب المهاجرين إلى المياه الدولية ثم يستعيد المحركات والوقود ليعود  إلى اليابسة.

في غضون ذلك، واصل غالو نقل المعلومات إلى سالفيني. كما أرسل تقريرًا ثانيًا إلى جهاز المخابرات يوضح تفاصيل الاتصالات بين طاقم فوس هيستيا وصائدي محركات القوارب في البحر؛ حيث تتعلق معظم الأدلة التي جمعها كل من غالو وبراكو بهذه التفاعلات، والعلاقة بين أطقم الإنقاذ الإنسانية وصائدي محركات القوارب البحرية هي محور الاتهامات في القضية.

أكد غالو  أنه لم يكن يعلم أن هناك ضابط شرطة على متن السفينة، لكن رومانو يتذكر أن غالو  كان فظًا ومتأففًا تجاه براكو؛ حيث قال الضابط الأول: “قام غالو بعزله على متن السفينة، ولم يكن يحبه حقًا، لم نفهم ذلك… ولكن بعد ذلك اكتشفنا أن غالو كان جاسوسًا، وكان براكو أيضًا جاسوسًا”. ووفقًا لوثائق المحكمة، فقد تم التنصت على رومانو أيضًا لأكثر من ستة أشهر ولكن لم توجه له أي تهمة بارتكاب أي جريمة.

استمر الأمر حتى نيسان/أبريل2021 عندما كشفت وسائل الإعلام الإيطالية مثل قناة “راي” وصحيفة “دوماني”، جنبًا إلى جنب مع الغارديان، أن المدعين تنصتوا على محامين وصحفيين كجزء من هذا التحقيق، وأثار النبأ إدانة دولية من قبل منظمات حقوق الإنسان وحرية الصحافة؛ حيث قالت المنظمات الصحفية الإيطالية إن نصوص المكالمات التي تم التنصت عليها يمكن أن تستخدم لاستهداف المصادر وتخويف الصحفيين وفتح المجال أمام العنف المحتمل. ردا على ذلك أمرت وزيرة العدل الإيطالية مارتا كارتابيا بمراجعة مكتب المدعي العام في تراباني، ووفقًا لمتحدث باسم الوزارة، لن يتم الإعلان عن النتائج. لكن في تموز/يوليو الماضي، أبلغت كارتابيا البرلمان أن المراجعة خلصت إلى “عدم وجود انتهاكات للوائح الإجرائية المتعلقة بموضوع التنصت على المكالمات الهاتفية”.

أشار مكتب المدعي العام في تراباني، الذي اتصل به موقع “إنترسيبت”، إلى تصريح كارتابيا، رافضًا التعليق على قضية قضائية جارية.

لم ترد وزارة الداخلية على طلب موقع “إنترسبت” الأمريكي للتعليق على الادعاءات السالف ذكرها، وقال متحدث باسم الشرطة الوطنية إنهم غير مخولين بالتعليق على القضية.

وقال متحدث باسم مختبر الروبوتات وأنظمة التحكم إن الشركة تقدم خدماتها للشرطة “في امتثال كامل للوائح الحالية، بأخلاقيات ومهنية كبيرة”.

صورةنُقل المهاجرين واللاجئين إلى سفينة الإنقاذ “فوس هيستيا” التي تديرها منظمة  “أنقذوا الأطفال” في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2016.

تحت وطأة الضغط

يقول سبينيلي إنه اشتبه في البداية في إجراء تحقيق جنائي بعد عيد الفصح؛ حيث كانت منظمته قد انفصلت بالفعل عن  سفينة الإنقاذ “يوفينتا” عندما تلقى مكالمة من خفر السواحل الإيطالي، يدعوه إلى القدوم  إلى مركز الإنقاذ في روما. قال سبينيلي: “لقد دعوني بطريقة غريبة، قائلين: “علينا مناقشة موضوع ما، لكن من الأفضل التحدث شخصيًا”، حينئذ أدرك أن شيئًا ما سيحدث؛ مشيرا إلى أنه “هناك تم استجوابه لمدة خمس أو ست ساعات”.

أخبر سبينيلي روايته للأحداث من منزله الواقع بين التلال خارج بيزا؛ مشيرا إلى أنه يتذكر مقابلة خفر السواحل كما لو كانت بالأمس؛ حيث استجوبه المحقق للحصول على معلومات حول العلاقة  التي تجمع طاقم  يوفينتا بالمهربين الليبيين.

قال سبينيلي إنه أصبح من الواضح أننا “نتطلع إلى عملية مماثلة لعملية مكافحة المافيا من حيث الحجم”، بمشاركة الشرطة الوطنية وشرطة الجرائم المالية، المتخصصة في الجرائم المالية؛ والمدعين العامين المناهضين للمافيا في صقلية، وأضاف قائلا: “لم تكن هذه التدابير منفصلة عن الجهات الفاعلة الإقليمية، حيث تم التخطيط لهذا التحقيق على مستوى مركزي”.

وأوضح سبينيلي: “كنت خائفا وبالأحرى كان كل واحد منا خائفًا من احتمال توجيه الاتهام إليه، شعرت بخيانة بلدي. لقد غيرت وجهة نظري تمامًا عن النظام القضائي الإيطالي”.

تُظهر الوثائق الموجودة في ملف القضية أن التحقيقات مع المنظمات غير الحكومية تم بالفعل تنسيقها على مستوى مركزي، في وزارة الداخلية. ففي كانون الأول/ ديسمبر 2016، بعد وقت قصير من فتح المدعين العامين في تراباني تحقيقاتهم، تم تعيين وزير داخلية جديد،  وهو ماركو مينيتي. حتى تلك اللحظة التي عين فيها وزيرا للداخلية؛ كان مينيتي مشرفًا على جهاز المخابرات الإيطالي، ووفقًا لزملائه المقربين؛ كان مهووسًا بملف الهجرة ودور المنظمات غير الحكومية المعنية بالإنقاذ.

وفي اليوم الذي أدى فيه مينيتي اليمين، أرسل رئيس مكتب الهجرة في وزارته تقريرًا مكون 27 صفحة إلى قسم العمليات الخاصة في الشرطة الوطنية. قدم التقرير عددًا من الادعاءات حول المنظمات الإنسانية الذين يعملون في عرض البحر الأبيض المتوسط والتي سرعان ما أصبحت معروفة في إيطاليا مفاده أن إنقاذ الأرواح في البحر ساهم في زيادة الهجرة؛ وأن المنظمات غير الحكومية تسمح للمهربين باستعادة القوارب بعد عمليات الإنقاذ؛ وأن الأطقم “تُلقن” المهاجرين بعدم التعاون مع أجهزة إنفاذ القانون.

وخلص التقرير إلى أن “سفن المنظمات غير الحكومية أصبحت نوعا من “منصة تنتظر  على حدود المياه الإقليمية قدوم القوارب المطاطية من ليبيا”. وأرسلت الشرطة نسخًا إلى مكتب المدعي العام في تراباني والمكتب المركزي لمديرية مكافحة المافيا، والتي أصدرت بعد ذلك توجيهات لفروعها المحلية تقضي بإجراء التحقيق، وفقًا لمذكرة مرفقة بالتقرير.

في تموز/ يوليو 2017، قدم مينيتي حلا لمشكلة المنظمات غير الحكومية في قمة وزراء داخلية الاتحاد الأوروبي في إستونيا الذي كان عبارة عن وثيقة لمدونة قواعد السلوك، تتألف من من 11 نقطة تطلب، من بين أمور أخرى، من المنظمات الإنسانية تعيين ضباط الشرطة على متن سفنهم و”إرسال جميع المعلومات التي تهُم التحقيق” إلى السلطات الإيطالية.

في مطلع آب/ أغسطس 2017، أعلنت منظمة يوجند ريتيت أنه بعد ثلاثة أيام من المفاوضات مع الحكومة الإيطالية، قررت المنظمة عدم التوقيع على مدونة السلوك؛ مشيرة إلى أن الوثيقة “تتعارض بشكل مباشر مع المبادئ الإنسانية التي يقوم عليها عملهم”

أثارت مدونة السلوك نقاشا محتدما، فاختارت بعض المنظمات التوقيع على الوثيقة، بينما سعى البعض الآخر للتفاوض بشأن الإصدارات الخاصة بهم، ورفض عدد قليل من المنظمات التوقيع بشكل قاطع، بحجة أن الشروط الموضوعة تتداخل مع أعمال الإنقاذ وتؤدي إلى المزيد من الوفيات في البحر. وفي مقابلة مع  شبكة سي إن إن؛ قال أوسكار كامبس، مؤسس المنظمة غير الحكومية الإسبانية ومنظمة برواكتيفا أوبن آرمز، أنه يعتقد أن السلطات الإيطالية كانت تضايقهم لتوقيع مدونة قواعد السلوك.

تدعم نصوص المكالمات الهاتفية التي تم التنصت عليها ادعاءات كامبس في اجتماع مع منظمة أطباء بلا حدود، فوفقا لمكالمة تم التنصت عليها من قبل أحد الحاضرين، قال ممثل وزارة الداخلية إنه إذا وقعت المنظمة على القانون، فإن النيابة ستأخذ ذلك بعين الاعتبار فيما يتعلق بالتحقيقات الجنائية المحتملة. واعتبر المتصل، وهو موظف في منظمة أطباء بلا حدود، ذلك بأنه بمثابة “تهديد مُبطّن” من الوزارة. ومع ذلك، رفضت منظمة أطباء بلا حدود توقيع الوثيقة.

ونفى مينيتي أي تورط شخصي له في الضغط على المنظمات غير الحكومية، قائلاً إن رئيس مكتبه هو المسؤول عن العلاقات مع المنظمات. وأوضح أن هناك إجماعًا في إيطاليا على ضرورة تنظيم المنظمات الإنسانية، وتابع مينيتي، متحدثًا عن نفسه بصيغة الغائب من مكاتب ليوناردو الإيطالية للدفاع في روما “لم يرغب وزير الداخلية في التدخل بهذا القانون  لكنه اعتمد مدونة لقواعد السلوك”، وأضاف “من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، طلب الجميع بالإجماع من الحكومة التدخل في التعامل مع المهاجرين”.

في مطلع آب/ أغسطس 2017، أعلنت منظمة يوجند ريتيت أنه بعد ثلاثة أيام من المفاوضات مع الحكومة الإيطالية، قررت المنظمة عدم التوقيع على مدونة السلوك؛ مشيرة إلى أن الوثيقة “تتعارض بشكل مباشر مع المبادئ الإنسانية التي يقوم عليها عملهم”  ناهيك عن أنها ستجبرهم على خرق القانون البحري الدولي. في السياق ذاته؛ أوضحت المنظمة “لا نريد قطع المحادثات، لأنه لا يمكننا التوصل لحلول إلا من خلال التفاوض معا”.

في اليوم التالي؛ احتجزت الشرطة سفينة يوفينتا وسربت إلى الصحافة وثيقة تتألف من 148 صفحة تتكون في الغالب من محادثات تم التنصت عليها من قبل بياترو غالو  وسبنيلي؛ حيث تم تسجيل صوت سبينيلي وهو يشكو إلى زملائه من موقف طاقم سفينة يوفينتا تجاه مركز إنقاذ خفر السواحل الإيطالي: “إنهم يبحثون عن صراع”، ووصف عدم احترام الطاقم لسلطة الدولة بأنه “غير مقبول”.

وأشار سبينيلي إلى أن هذه المحادثات الخاصة تم إخراجها من سياقها لخدمة مصالح المدعين العامين، فلقد شعر بالرضا عندما علم بالاحتجاز، والتنصت على المكالمات الهاتفية، وأن محتويات مكالماته الهاتفية قد تم إرسالها إلى الصحفيين في جميع أنحاء إيطاليا، ويتذكر سبينيلي: “كنت في غرفتي وشغلت التليفزيون. وقد كانت الكثير من القنوات تتحدث عني”.

كان غالو لا يزال على متن فوس هيستيا عندما أذيع الخبر. كان  يشعر بالاستياء لأن أحدا لم يخبره بما سيأتي، وعلم جميع زملائه الآن أنه كان يقدم المعلومات عنهم؛ حيث يتذكر غالو قائلًا: “عندما احتجزوا سفينة يوفينتا، قلت، يجب أن أنزل من هذه السفينة وإلا فإنهم سوف يرمونني في البحر”.

بعد أشهر؛ فتشت الشرطة منزل غالو وصادرت أجهزته الإلكترونية، وأثناء حديثه إلينا خارج الفندق في روما، بدا غالو مرتابًا أكثر منه غاضبًا، فلم يستطع تصديق أنه بعد كل المعلومات التي نقلها إلى السلطات، والتنصت على مكالماته على الرغم من تعاونه مع أجهزة الشرطة؛ اقتحمت الشرطة منزله بالقوة.

ويقول غالو: “قلت لهم هل هذه مزحة؟ كنت أقدم لكم المعلومات حتى يوم أمس. وكل ما قمتم به، كان بفضلنا”.

صورةممثلو منظمة الإغاثة الألمانية ‘ يوجند ريتيتيتحدثون خلال مؤتمر صحفي  نظم في في تراباني، إيطاليا، 19  أيلول/سبتمبر 2017.

” بعض من الحمقى”

كانت السفينة تتجه إلى ميناء في لامبيدوزا، وهي جزيرة صغيرة تقع قبالة سواحل صقلية، عندما تلقى طاقمها رسالة من خفر السواحل تفيد بمصادرة السفينة بسبب تحقيق جنائي.

تصدرت الأخبار عناوين الصحف في جميع أنحاء العالم، واحتفلت الصحافة الإيطالية بنصوص التنصت على المكالمات الهاتفية المسربة. ونقلت الصحف عن ادعاءات المدعين العامين أن الأشخاص الذين أنقذتهم السفينة يوفينتا لم يكونوا في الواقع معرضين لخطر الغرق، وقالوا إن الطاقم قام “بترتيب عملية تسليم” المهاجرين مع المهربين، وبحسب وثائق المحكمة؛ صادرت السلطات هواتف محمولة وأجهزة كمبيوتر محمولة وأقراص صلبة من السفينة. وتضمنت البيانات المستخرجة من هذه الأجهزة نصوص الدردشات الداخلية ورسائل البريد الإلكتروني والصور ومقاطع الفيديو لعمليات الإنقاذ وسجل تصفح الويب الخاص بالطاقم.

وفي رسالة بريد إلكتروني وُصفت في ملف القضية بأنها تقدم نظرة ثاقبة على “محاولات بعض المنظمات غير الحكومية لإقامة اتصالات مع المهربين الليبيين”؛ تلقت كاثرين شميت – رئيسة منظمة يوجند ريتيت السابقة، والمتهمة حاليًا بالتورط في جريمة تهريب المهاجرين – رسالة من أحد أفراد الطاقم منظمة غير حكومية أخرى، اقتراحا بتوزيع منشورات تشرح عمل المنظمات غير الحكومية لتوجيه الصيادين أثناء عمليات الإنقاذ. ووفقًا للبريد الإلكتروني، كان الهدف هو إرسال سترسل إلى المجموعات الساحلية في ليبيا، وفي نهاية المطاف إلى المُهربين أنفسهم. لكن المنشورات المقترحة كانت تتعلق بسلامة المهاجرين، ولا تدل على التواطؤ في تهريبهم وتوصي بعدم حمل الكثير من الأشخاص على متن القوارب، وتوفير مصابيح كهربائية، وعدم خروج القوارب إلى البحر أثناء الأحوال الجوية السيئة.

أولى المدعون اهتمامًا خاصًا لصور المحركات الخارجية المصطفة في الميناء، والتي تم إزالتها من أجهزة الكمبيوتر المحمولة التي تم التقاطها أثناء عملية الاحتجاز؛ حيث افترضوا أن السفينة يوفينتا ساعدت الصيادين الليبيين في استعادة المحركات من قوارب المهاجرين لبيعها، وتظهر صورة أخرى متضمنة في الملف ملصقًا داخل مرحاض على متن السفينة يوفينتا كتب عليه “مع أطيب التحيات إلى مركز تنسيق الإنقاذ البحري”، في إشارة إلى مركز إنقاذ خفر السواحل. وفي أمر المصادرة، لاحظ المدعون أن هذه الإجراءات وغيرها من قبل طاقم يوفينتا تمثل مواقف “معادية” و”رغبة في خرق القانون الإيطالي”.

وأعلنت المحكمة عن التهم الموجهة للمنظمة في آذار/مارس 2021، بعد أربع سنوات ونصف من تحدث غالو وباليسترا لأول مرة إلى الشرطة في تراباني، وتم توجيه التهم إلى 21 شخصًا في المجموع، وبدأت المحاكمة في أيار/مايو الماضي لكنها تأجلت مرارا لأسباب إجرائية، وستُعقد الجلسة القادمة في 13 كانون الثاني/يناير.

أبدت الحكومة الإيطالية اليمينية المتطرفة المنتخبة حديثًا، بقيادة جيورجيا ميلوني، اهتمامًا نشطًا بالمحاكمة، ففي 19 كانون الأول/ ديسمبر، طلب مكتب رئيس الوزراء الانضمام إلى  القضية كطرف مدني، ما يعني أن الحكومة تسعى الآن مباشرة للحصول على تعويضات مالية من المتهمين. وعُين سالفيني، الذي خلف مينيتي كوزير للداخلية وهو الآن الشريك الرئيسي لميلوني في الائتلاف، مؤخرًا وزيرا للمواصلات، وهذا جعله مسؤولاً عن الموانئ الإيطالية وخفر السواحل.

ورفض طاقم يوفينتا الحديث عن تفاصيل القضية، ويؤكد محاموهم أن التهم لا أساس لها ويقولون إنهم سيطعنون في شرعية عملية المراقبة الشاملة. وقالت فرانشيسكا كانسيلارو، إحدى محاميي يوفينتا: “لم يتواصل الطاقم قط أو يتعاون مع شبكات التهريب الليبية أو الميليشيات”.

في السنوات الخمس الماضية؛ خفّض الاتحاد الأوروبي بشكل كبير من دوريات الإنقاذ البحرية ويقدم دعم المراقبة لخفر السواحل الليبي لاعتراض قوارب المهاجرين وإعادتهم إلى البلد الذي فروا منه

ورفض محامو منظمة أطباء بلا حدود ومنظمة أنقذوا الأطفال مناقشة تفاصيل القضية. وفي شأن ذي صلة؛ قالت فرون، وهي الشركة التي تملك السفن التي استأجروها: “نحن نأسف بشدة لأن طاقمنا والشركة يتعرضون لتهم جنائية أثناء أداء واجبهم الإنساني تجاه الأشخاص المنكوبين”.

ومنذ أن بدأت قضية يوفينتا؛ نفذ المدعون الإيطاليون أكثر من عشرة إجراءات قانونية أخرى ضد منظمات الإنقاذ الإنسانية العاملة في عرض البحر الأبيض المتوسط، وقد أسقطت ثلاث قضايا، وما زالت باقي القضايا جارية.

في هذه الأثناء؛ يواصل عشرات الآلاف من الأشخاص الفرار من ليبيا كل سنة، ففي السنوات الخمس الماضية؛ خفّض الاتحاد الأوروبي بشكل كبير من دوريات الإنقاذ البحرية ويقدم دعم المراقبة لخفر السواحل الليبي لاعتراض قوارب المهاجرين وإعادتهم إلى البلد الذي فروا منه؛ حيث تم اعتراض أكثر من 30 ألف شخص في البحر وإعادتهم إلى ليبيا في سنة 2021 ووصل أقل بقليل من 70 ألف شخص إلى أوروبا عبر هذا الطريق، ناهيك عن غرق ما لا يقل عن 1500 شخص  أثناء محاولة العبور من ليبيا إلى إيطاليا.

قال بيترو غالو إنه لم يندم على ما بدأه، لكن الأمور لم تسر كما كان يأمل، وأضاف قائلا: “لم يكن الهدف هو اعتقال طواقم يوفينتا ومنظمة أطباء بلا حدود. لقد أردنا فقط أن نظهر ما يجري في البحر الأبيض المتوسط. ولم يكن هدفنا القيام بحملة من أجل سالفيني، بل إيجاد حل لهذه المشكلة”.

ولا يزال يعتقد أن المنظمات غير الحكومية للإنقاذ يجب أن تكون أكثر شفافية بشأن تمويلها موضحا: “وراء كل هذه الفئات الهشة، هناك الكثير من الأموال  المتدفقة”.

وفي تسجيل للمكالمات الهاتفية يعود تاريخه لآب/ أغسطس 2017، أبدى غالو مهتمًا أكثر بما كان عليه في الحقيقة، وقد قال لشقيقه إن “السلطات كانت تتنصت على مكالماتي منذ شهور لمعرفة ما إذا كان يقول الحقيقة. وعليهم الآن قبول عودتي إلى الشرطة فقد قمت بواجبي على أكمل وجه أليس كذلك؟”. وقد أجابه شقيقه: “حسنًا، لقد أوقفت جميع المهاجرين ولن يأتوا بعد الآن”. فردّ غالو: “لم ينجح الاتحاد الأوروبي، ولا الحكومة الإيطالية في ذلك، ثم جاء بعض الحمقى وأنهوا كل شيء”.

المصدر: الإنترسبت