كشفت انتخابات قيس سعيد من ضمن ما كشفت؛ حجم التيار القومي في تونس، فإذا هو حجم لا يكاد يبين. لقد أوهمت انتخابات 2019 بأن التيار القومي متغلغل بين الناس وأن له جمهورا واسعا يصوت له، لكن التيار خاض انتخابات 2022 وحده بلا منافسين إلا أشخاصا نكرات بلا أسماء حزبية، فلم يفز بمقاعد تعادل حجمه الذي ظهر به في 2019.
بل إن نوابا عن حركة الشعب في برلمان 2019 عادوا لخوض الانتخابات فلم يفز أفضلهم حتى بعدد التزكيات التي جمعها للترشح.
لقد ظلت قيادة حزب حركة الشعب، وهي مكون رئيسي في التيار القومي، تردد منذ الانقلاب أنها حزب حكم. هذه الانتخابات أعادت المتحمسين لها إلى حقيقة حجمهم. هل سيحملون وزر مساندتهم للرئيس المنقلب ويسقطون معه في حفرة النسيان. إننا نرى مصير حمدين صباحي يتكرر في تونس. السير في ركاب الانقلابات له ثمن يدفع بالحاضر.
تمييز منهجي بين العروبة والقوميين
التيار القومي العربي في تونس هو صدى لظهور النزعة القومية في الشرق العربي، وقد وفد إلى تونس منقسما طبقا لانقساماته الشرقية (بعث عراقي، بعث سوري، ناصريون، ماركسيون عرب وأخيرا قذافيو )، وهذا ما أحصينا ممن نعرف وربما وجد أشخاص ينتمون لشخص، فالقوميون في تونس أسماء كثيرة لم تتفق أبدا ولم تجتمع على عروبة واحدة، بل إن التنافر بينها يثير دوما سؤالا في وجوه المتكلمين باسمها: إذا كنتم تعملون على توحيد أمة العرب فكيف تعجزون عن الاتحاد في ما بينكم؟ ولا نحتاج هنا للتذكير بمشاركة حافظ الأسد القومي بجيشه في حرب أمريكية على صدام حسين القومي.
لكن كل هذه الأسماء القومية لم تغير بالزيادة أو بالنقصان عروبة التونسيين، ولم تعلّم التونسيين عروبتهم؛ فعروبة تونس إرث مشترك بين كل التونسيين بمن فيهم مكون بشري سابق على قدوم العرب لتونس، ولم تفلح فرنسا في فصله بنعرة عرقية بربرية.
هذا الانتماء يعبر عن نفسه بعفوية وقوة في كل مناسبة وخاصة ما فيما يتعلق بالدفاع عن الأرض المحتلة وقد سافر متطوعون تونسيون للجهاد في حرب 48 قبل ظهور التيار القومي العربي شرقا وغربا. هنا نستشعر عقدة القوميين التونسيين أنهم يعلمون الناس ما استقر في دخيلتهم من عروبتهم فلم يتبعوهم وظلوا تيارا أقليا، وقد كشفت حجمه انتخابات قيس سعيد ولا نخاله إلا ساقطا مع سقوط الانقلاب.
الانتخابات الكاشفة
يمكننا القول إن التيار القومي في تونس وخاصة حركة الشعب كان هو عنصر الإسناد السياسي الوحيد لقيس سعيد منذ انطلاقته. كانت هناك أمور غائبة عن أنظار المتابعين لم تنكشف إلا بعد أن تمكن المنقلب من السلطة مثل علاقته مع نظام الانقلاب في مصر وارتباطه مع حفتر المنشق الليبي فضلا عن علاقته السرية مع إيران وغرامه بالانحياز للمعسكر الصيني والروسي.
وكل هذه الأطراف هي أصدقاء وحلفاء للتيار القومي العربي الذي ينكر الثورة ويعدها “ربيعا عبريا ومؤامرة دولية على الأمة العربية”. هل جرّ القوميون المنقلب (وهو الإمعة الجاهل) إلى محورهم أم أنهم التحقوا به لأنه كان داخل هذا المحور منذ البداية. لا يمكن الإجابة بدقة إلا لعون مخابرات متمرس وقريب من مصادر المعلومة، لأن التقية التي مارسها المنقلب وحزامه القومي هي فعلا من عمل الاستخبارات.
لقد تخفى القوميون داخل الديمقراطية كما يتخفى جرثوم، ولم يكن قبولهم بالعمل الحزبي إلا تقية مؤقتة ريثما يتم التمهيد لانقلاب
في كل الأحوال ظل القوميون العرب في تونس أوفياء لخط القوميين الانقلابي الوافد من الشرق، لقد أثبتوا أن عقولهم مبرمجة على الانقلابات، وإن تظاهروا باتباع أساليب الديمقراطية، من ذلك مشاركتهم في انتخابات 2014 و2019 على قاعدة دستور 2014 ودخولهم البرلمان وممارستهم للعمل البرلماني ضمن خطة سياسية ديمقراطية تعددية في نفس الوقت الذي كانوا يمهدون فيه للانقلاب على العمل الديمقراطي.
هذا الغدر دفع ثمنه سريعا في انتخابات قيس سعيد (2022). لقد أسقطهم الناس من حسابهم. كما أسقطوا الانقلاب.
ولا نظن نائبهم (القمودي) عن محافظة سيدي بوزيد سيفهم بسهولة لماذا تراجع رصيده وهو الذي دخل برلمان 2019 بنسبة تصويت عالية ولم يجد في رصيده ستين صوتا في 2022. لقد غدر بقاعدته التي صعدته إلى برلمان 2019 بدستور 2014. هذا الغدر والنكوص خلق قومي عربي يتربون عليه ويمارسونه مقتنعين بأن السلطة هدف في ذاتها بقطع النظر عن وسيلة نيلها.
هل سينالونها مرة أخرى في المستقبل؟ إننا نراهم يرحلون مع الانقلاب.
غربال التاريخ
هل الانقلاب راحل حتى يُظَن أن القوميين يرحلون معه؟ نعم إننا نراه يسقط قريبا وسيسقط معه كل من سانده وفقد الحجة في التراجع في الوقت المناسب. وقد فات كل الوقت للتراجع بعد مهزلة انتخابات 2022.
كتبنا أن الانقلاب هو الضارة النافعة وأنه حرك غربال التاريخ وما أصاب القوميين بإسناده هو من حركات الفرز العميقة. لقد تخفى القوميون داخل الديمقراطية كما يتخفى جرثوم، ولم يكن قبولهم بالعمل الحزبي إلا تقية مؤقتة ريثما يتم التمهيد لانقلاب، وقد حصل، فكانوا في مقدمته إسنادا وتبريرا واحتفالا أيضا.
استنتاج مهم يخرج به التونسيون العروبيون بالقوة وبالتاريخ من انقلاب قيس سعيد ومن انتخاباته، أن القوميين بكل مسمياتهم الحزبية لم يؤمنوا أبدا بالعمل السياسي الديمقراطي، وقد كشفهم الانقلاب بسرعة، وهكذا ظلوا دوما جراثيم الديمقراطية وفيروساتها القادرة على التخفي في جسم سياسي والغدر به في حالات ضعفه. ونرى أن عدم التصويت لهم في 2022 هي حالة وعي امتدت من رفض الانقلاب إلى رفض مسانديه ونراها تمتد في المستقبل.
حذار من كل انقلابي، وإن تظاهر بالمشاركة في الديمقراطية بحزب أو تيار قانوني.
يقيننا أن الانقلاب قد سقط في الداخل وانكشف للخارج بانتخابات 2022، وما بقاءه إلا لفترة ترتيب ما بعده دوليا وليس محليا للأسف، ولا نرى الدول المهتمة بتونس تولي أي اعتبار للقوميين أو تضعهم ضمن الحلول القادمة، فالحلول ولو كانت من الخارج ستعيد بناء مسرحية ديمقراطية ولن تخربها مسبقا بوضع جرثوم داخلها خاصة وأن حجمه في الشارع لم يعد يغري أحدا بالتعويل عليه. وإذا بقى هناك واهمون بأن الجلوس تحت صورة عبد الناصر ينسج تحالفات مفيدة فهي علامة غباء سياسي ودروشة.
إنه غربال التاريخ يفعل فعله وقد غربل قوميي الشرق ونخلهم حتى إن منقلب مصر يبيع قناة السويس تحت أنظارهم وهم يبكون كالثكالى، ونراه يواصل عمله في ملاحقهم في المغرب الإسلامي. مصير القوميين هو مصير اليسار المتطرف الذي لم يؤمن بالديمقراطية فصفته وإذا لم يكن له موضع وظيفي في مفاصل أجهزة الحكم فإن دوره ووجوده يصير من أفعال الماضي. لدينا وقت كاف للفرجة على القوميين يشوَوْن على نار الديمقراطية من موقع عروبتنا الثابتة.