لا يملك أبو مصطفى النعيمي، المهجّر من ريف حمص، سوى الدعاء لابنه الذي لم يتجاوز الـ 4 سنوات، بعد إصابته بفيروس ذات الرئة الذي حلَّ بمناطق متفرقة شمال شرق سوريا، وأودى بحياة الكثير من الأطفال.
يقول النعيمي، والذي يعيش في الرقة منذ عام 2017، لـ”نون بوست”: “لاحظنا سعالًا شديدًا عند ابني، وبدأنا بعلاجه عبر الأدوية والعسل، إلا أنني في اليوم الثاني صحوت ليلًا على صراخ زوجتي وهي توقظني لإسعاف الطفل بعد أن ظهرت عليه حرارة عالية وصعوبة في التنفس”.
وأوضح: “لدى إسعافه لمشفى الأطفال التخصصي في الرقة، قال لنا الأطباء إنه مصاب بمرض ذات الرئة”، مضيفًا: “لم أعرف سبب هذا المرض، فالأطباء قالوا لي إنه ذات الرئة وهو ينتقل بالعدوى، بينما سمعنا من أطباء آخرين أنه إنفلونزا الطيور، ومنهم من قال إنه إنفلونزا الخنازير، وسمعت من يقول كورونا”.
وقال الأب المكلوم: “شاهدت داخل المشفى إصابات عديدة لأطفال بعمر ابني وأصغر، منهم من تماثل للشفاء، ومنهم من انتقل لرحمة ربه، بالنسبة إليّ فقد سلّمت ابني لله، فهو الشافي”.
تتوالى إصابات الأطفال بالتهاب رئوي ناتج عن فيروس مجهول في مناطق متفرقة شمال شرق سوريا، الخاضعة لسيطرة “قسد”، إذ تتحدث الأرقام عن وفاة 18 طفلًا حتى الآن وإصابة العشرات، منذ بدأت ظاهرة الحالات الرئوية بالظهور مطلع الشهر الجاري ديسمبر/ كانون الأول، وهي حالات أقرب ما تكون للإنفلونزا العادية، لكن الأمر الذي أثار الاستغراب هو كثرة الوفيات بين الأطفال جرّاء هذا المرض، إذ إن فترة حضانة المرض لا تتجاوز الأسبوع، ثم تحدث الوفاة.
يقول الناشط أسامة أبو عدي، المقيم في مدينة الرقة، لـ”نون بوست”: “بدأت المخابر الطبية والمشافي برفع الجاهزية لمعرفة أسباب هذا المرض، وأوعزت للكوادر الطبية بالعمل على مراقبة الحالات وتقديم العلاجات المناسبة، كما أُغلقت المدارس وروضات الأطفال والمراكز التعليمية خوفًا من انتشار العدوى، بعد أن بلغ عدد الحالات المرضية 16 حالة في الرقة والطبقة وحدهما، منها ما نُقل إلى مشافي العاصمة دمشق، كالطفل عبد الكريم الشواخ الذي توفي هناك متأثرًا بهذا المرض”.
تخبُّط في تحديد المرض
يرى طبيب الأطفال، أحمد صالح النعمات، المطّلع على الكثير من حالات ذات الرئة الفيروسية المنتشرة مؤخرًا، أن المسبّب واضح وهو أحد نوعَي الإنفلونزا A، سواء كان إنفلونزا الطيور (H1N1) أو إنفلونزا الخنازير (H1N5)، للاعتبارات التالية:
1. العيّنة عشوائية وليست من مضعّفات المناعة.
2. العدوى سريعة وخلال يومَين.
3. العدوى الشائعة في العائلة.
4. عرضي في عدد كبير من الحالات.
5. الوفاة السريعة قبل قصور الأعراض العديدة.
مستبعدًا في تدوينة له على فيسبوك احتمالية كون المرض إحدى متلازمات كورونا، لأن أخطر أنواع كورونا من ممكن ألا يكون متصفًا بالصفات السابقة، فالأشكال القاتلة من كورونا سواء كان MERS أو SARS أو COVID-19 لا تتوافق مع الأعراض، كما استبعد جميع المسبّبات الفيروسية الأخرى لوضوح أعراضها.
من جهته، تواصل “نون بوست” مع الطبيب عيسى النويران من قسم الأطفال في المشفى الوطني في الرقة، حيث وصف المرض بـ”الهجمة الحادة من الرشوحات” التي تصيب جسم الأطفال ثم تستهدف القصبات ثم الرئة مترافقة مع ضيق تنفس يؤدّي إلى الوفاة.
التويران أشار إلى أن هذا الفيروس شبيه بكوفيد-19، ويأتي بعد رشح عادي يصيب الرئة ويتفاقم، أو بعد إصابة بالحصبة، وفي كلتا الحالتَين تكون نفس الخطورة والأعراض من زلة وسعال وضيق تنفس، وقد تكون هذه الأعراض التي لا يمكن التكهن بها خفيفة أو صاخبة تؤدي إلى الوفاة.
وفق النويران، فإن المشافي أخذت الاحتياطات اللازمة لتوفير الأكسجين، لأن هؤلاء الأطفال يتعرّضون لنقص الأكسجة، مشيرًا إلى أن المنافس لا تقدم أي فائدة لأن الأسناخ الرئوية تكون تالفة، كما أن الصور الشعاعية للصدر تبدي ارتشاحات كثيفة جدًّا.
يُعرَف ارتشاح الرئة بأنه تراكم السوائل في الفراغ الواقع بين الأنسجة المبطنة للرئتَين وجدار الصدر المعروف باسم الحيز الجنبي (Pleural space)، ويسبّب تراكم السوائل عدم تمكُّن الرئتَين من التوسع بشكل كامل ما قد يجعل التنفس صعبًا، كما يمكن أن يسبّب انهيار الرئة أو جزءًا منها.
الطبيب فراس ممدوح الفهد، العامل في مستشفى العين والقلب ضمن مدينة القامشلي، وهو رئيس منظمة “صناع الأمل الإنسانية” العاملة ضمن مناطق سيطرة “قسد”، أكّد انتشار مرض فيروسي غامض يصيب رئة الأطفال في مناطق الرقة والطبقة ومنبج ودير الزور ومناطق أخرى، لا يمكن تشخيصه بالضبط على أنه إنفلونزا الطيور أم غيره، بسبب عدم وجود جهاز PCR لأخذ مسحات في كل مناطق شمال وشرق سوريا، إلا أن الأعراض قريبة من الإنفلونزا.
وحسب توضيحات الفهد لـ”نون بوست”، فإن هذا الفيروس الرئوي يصيب الأطفال الرضّع إلى عمر 16 سنة مستفيدًا من انخفاض المناعة لديهم، حيث تمَّ تأكيد وفاة 20-30 حالة، وتسجيل إصابات غير معروفة العدد مع توقُّع ازدياد الحالات، ما أدى إلى إيقاف المدارس والروضات بشكل كلّي في مناطق الرقة ودير الزور والطبقة ومنبج.
وعزا الفهد سرعة انتشار المرض إلى قلة العناية والتوعية الطبية من الأهالي وفي المدارس، إضافة إلى العدوى التنفسية التي أدّت إلى زيادة حالات الإصابة، وكذلك عدم قدرة الأطباء بشكل مؤكد على معرفة نوع هذا الفيروس لإيجاد استطباب طبّي سريع المفعول، منتقدًا الجهات المسؤولة والمنظمات الطبية الدولية لعدم قدرتها على توفير وجود جهاز هامّ جدًّا، وهو PCR.
ودعا الفهد في ختام حديثه إلى أخذ مسحات وإرسالها إلى مشافي دمشق التخصصية للكشف عن نوع هذا الفيروس، ووضع خطة طبية متكاملة لمجابهته.
واقع طبّي مأساوي
يعيش في شمال وشرق سوريا ما يقارب الـ 4 ملايين نسمة، العدد الأكبر بحاجة الى العناية الصحية من مختلف الجوانب وسط ظروف صحية متدهورة، من نقص في الكوادر الطبية وفقدان الأدوية الأساسية، والأهم ضعف التوعية الصحية والطبية، إذ كانت قرية أبو وحل، شرق محافظة الرقة، قد شهدت في نوفمبر/ تشرين الثاني الفائت وفاة 16 فردًا بينهم 5 أطفال من أسرة واحدة، جرّاء تسمّمهم بالفطر، ما ينذر يومًا بعد يوم بدخول القطاع الصحي مرحلة خطيرة.
يؤكد الناشط أبو عدي أن أكثر ما يستطيعه المجلس المدني والمنظمات الطبية الفاعلة في ظل الواقع الطبي المتدهور، هو البحث بشكل جدّي عن توفير الأدوية اللازمة والنوعية للسيطرة على المرض وعزل المرضى.
تتجاهل الجهات الطبية التابعة لـ”قسد”، التي تسيطر على المنطقة، الحديث عن هذا المرض وعدد الوفيات والإصابات.
بينما يوضّح الطبيب الفهد أن القطاع الصحي يعاني قلة المشافي المخصصة للأطفال، وقلة الأسرّة به حيث لا يوجد في الرقة مثلًا سوى مشفى واحد عام للأطفال، كما يعاني القطاع غلاء بعض المشافي الخاصة ما يجبر الفئة الفقيرة على اتباع طرق علاجية لا تتناسب مع خطر هذا الفيروس الرئوي، عدا نقص الأدوية وندرتها بالمشافي العامة، كالمشفى الوطني بالرقة أو مشفى الأطفال، وذلك بسبب قلة الدعم المقدَّم والعشوائية في عمل المشافي.
وتتجاهل الجهات الطبية التابعة لـ”قسد”، التي تسيطر على المنطقة، الحديث عن هذا المرض وعدد الوفيات والإصابات، إذ اكتفت لجنة الصحة التابعة لمجلس الرقة المدني بنشر لقاء مع مدير مشفى الأطفال التخصصي، 22 ديسمبر/ كانون الأول، للحديث عمّا أسمته حالات “مرض الكريب” التي راجعت مشفى الأطفال خلال الآونة الأخيرة، حيث تناول أهم أعراض مرض “الكريب” وطرق الوقاية منه، مؤكدًا تماثل أغلب الحالات للشفاء، وأن المشفى على جاهزية تامة لاستقبال أي حالة مرضية من هذا النوع.
إجراءات احترازية بإغلاق المراكز التعليمية
بعد تشخيص إصابات كثيرة بفيروس ذات الرئة في المدارس وروضات الأطفال، وحدوث حالات وفاة، علّقت لجنة التربية والتعليم في مجلس الرقة المدني التابع للإدارة الذاتية الدوام الرسمي في المدارس والمعاهد وروضات الأطفال الخاصة والعامة لمدة أسبوع، من 18 حتى 24 من الشهر الجاري، كإجراء احترازي وقائي وبهدف إبعاد الطلاب عن الازدحام والتجمعات.
محمد حجو، مدرّس في مدرسة الرافقة بالمنطقة الصناعية ضمن مدينة الرقة، تحدّث لـ”نون بوست” عن رصد حالات مرضية لكثير من الطلاب ضمن المدارس، قائلًا: “عند ملاحظة أعراض السخونة والسعال، نرسل الطفل مباشرة إلى بيته ونوصي الأهل بمراجعة الطبيب بالسرعة القصوى”، مضيفًا: “حاول الكادر التدريسي قدر المستطاع اتخاذ تدابير الوقاية بين الطلاب، كالتحذير من الاقتراب من الحالات المصابة، واستخدام الكمامات، وزجاجات مياه شخصية بكل طالب”.
وحول المشاكل التي تواجه المدرّسين بعد انتشار هذا المرض، فقد لفت حجو إلى أن المشكلة الكبرى تكمن في استهتار الأهالي بالمرض من جهة، وعدم قدرتهم على التفريق بينه وبين الإنفلونزا العادية من جهة أخرى، لذلك يتعاملون مع الحالة المرضية على أنها إنفلونزا، إلا أنهم يتفاجؤون فيما بعد بأن الحالة تطورت ودخلت مرحلة الخطر.
ويترافق تزايد حالات فيروس ذات الرئة مع أزمة بيئية تحيط بالمرافق العامة والمدارس، من انتشار للنفايات وعدم تعقيم دورات المياه واستخدام مياه الشرب الملوثة، كل هذا يؤدي إلى ظهور أوبئة جديدة على الخريطة الصحية في سوريا عمومًا.
يشير حجو إلى أن المدارس، إلى جانب الاكتظاظ الطلابي الموجود فيها، فإنها بحاجة معقمات لدورات المياه، وتعقيم المياه المستخدمة، وبحاجة ماسّة إلى عمّال نظافة ينظفون المدارس والصفوف، فضلًا عن الحاجة إلى دورات وبرامج توعية صحية من المنظمات العاملة توعّي الأهالي بخطورة هذا المرض وكيفية وقاية أبنائهم منه.
وممّا لا شك فيه أن تأزُّم وضع البلاد عمومًا يفاقم الأزمات الكارثية التي تعصف بها على جميع القطاعات، وفي مقدمتها القطاع الصحي، إذ أشارت منظمة الصحة العالمية إلى أنه في عام 2022 سيكون 12.2 مليون شخص بحاجة للمساعدة الصحية، من بين هؤلاء 4 ملايين نازح و1.33 مليون طفل دون سن الخامسة (بما في ذلك 503 آلاف ولادة متوقعة) و3.38 مليون سيدة في عمر الإنجاب.
ويأتي هذا بسبب النظام الصحي الهشّ أصلًا في سوريا، والذي تعرّض للضغط بشكل متكرر بسبب العديد من التحديات وحالات الطوارئ المتزامنة، ولانعدام الأمن المستمر وجائحة كورونا ووجود أزمة اجتماعية واقتصادية منهِكة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المناطق الأكثر خطورة تقع وستظل موجودة في 5 محافظات في شمال غرب وشمال شرق سوريا، وفقًا لمقياس شدة القطاع الصحي.