عُقدت في منطقة البحر الميت في الأردن أعمال مؤتمر بغداد 2 للتعاون والشراكة في 20 ديسمبر / كانون الأول الجاري، ويأتي عقد هذا المؤتمر بدعم ورعاية فرنسية ممثلة بالرئيس الفرنسي إيمانوئيل ماكرون، والذي يهدف عبرهُ لتحويل هذا المؤتمر لمنصة إقليمية – دولية دورية تُعقد سنوياً، خصوصاً وإن هذا المؤتمر يأتي إستكمالاً للمؤتمر الذي عقد في بغداد في أغسطس / آب 2021، إذ ترتكز الرؤية الفرنسية على أن مزيداً من العمل الإقليمي والدولي، يمكن أن يشكل بالنهاية توافقاً عربياً فرنسياً حيال العديد من الملفات والقضايا ذات الإهتمام المشترك.
شهد المؤتمر توسعاً ملحوظاً في طبيعة القضايا المطروحة التي ناقشها المؤتمرون، فإلى جانب الملف العراقي، طرحت ملفات سوريا ولبنان والطاقة، والملف النووي الإيراني، كما شهد المؤتمر حضور ممثلين عن سلطنة عُمان والبحرين للمرة الأولى، إلى جانب مشاركة كل من الإمارات ومصر والسعودية وقطر وتركيا وإيران والعراق وفرنسا، وحضور وزير خارجية الإتحاد الأوروبي جوزيب بوريل ومعاونه إنريكي مورا، الذي تولى التنسيق المباشر لمباحثات الملف النووي الإيراني، كما شارك في المؤتمر أمين عام جامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، وأمين عام مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وممثلون عن الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي.
محاولة عراقية لكسب الثقة
شكل إصرار رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني على عقد النسخة الثانية من المؤتمر في عمان، محاولة منه لكسب ثقة العرب والخليجيين بل وحتى فرنسا بالحكومة الجديدة، ومحاولة لتسويقه على الصعيدين الإقليمي والدولي، وإزاحة سوء الفهم الحاصل بأنه رئيس حكومة مقرب من طهران، والأكثر من ذلك، ألمح السوداني في كلمته أثناء المؤتمر، بأنه سيكون حريص على السير بذات النهج الذي سارت عليه حكومة مصطفى الكاظمي، وتحديداً على مستوى الإستمرار بجهود الوساطة العراقية في جولات الحوار السعودي الإيراني، أو على مستوى الإلتزام بالإتفاقيات الإقتصادية والتجارية التي وقعتها حكومة الكاظمي مع الأردن ومصر، والأهم من كل ذلك تأكيده على النهج التوازني لحكومته في المرحلة المقبلة.
إيران أسهمت بصورة رئيسية بحالة عدم الإستقرار السياسي والأمني في العراق، ومن شأن تحميلها مسؤولية ذلك
وعلى الرغم من دعوة السوداني إلى توسيع قاعدة الحوار في المنطقة، بحيث لا تقتصر على السعودية وإيران فحسب، بل ضرورة أن تشمل مصر والأردن أيضاً، إلاّ إن قاعدة هذه الحوارات لا زالت غير مهيئة بعد، بسبب السلوكيات الإيرانية في المنطقة، ففي الوقت الذي حاول فيه مؤتمر بغداد السابق إظهار أن بمقدور الكاظمي أن يجمع قادة المنطقة، لا سيما دول الخليج في بغداد، فإنه بالمؤتمر الحالي هدف السوداني إظهار قدرته على تحقيق ذات الشيء. إلا إن ذلك سيكون خاضعاً لمدى قدرته على تنفيذ المخرجات التي تمخض عنها المؤتمر، وتحديداً على مستوى طبيعة الملفات العراقية، ومدى قدرة حكومته المضي بنهج توازني يراعي الحساسيات الإيرانية والحاجات العربية – الفرنسية.
إيران الحاضر الأبرز
بالنظر إلى طبيعة مخرجات المؤتمر، كانت إيران هي الحاضر الأبرز فيها، وهو ما تم تاكيده في البيان الختامي، إذ كانت جميعها على صلة مباشرة بالسياسات الإيرانية في الشرق الأوسط، ولعل هذا ما يوضح الأسباب التي دفعت إيران للإشتراك فيها، عبر وفد رأسه وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، وذلك من أجل قطع الطريق على أي إجماع عربي فرنسي يمكن أن يخرج به هذا المؤتمر، خصوصاً في الملف العراقي، بإعتباره المحور الرئيس، إذ تدرك إيران إن فسح المجال أمام مزيد من الدور العربي والفرنسي في العراق، قد يعرضها للعديد من الضغوط، أبرزها أن المؤتمر يأتي بالتوافق مع إحتجاجات شعبية تشهدها العديد من المدن الإيرانية ضد سياسات النظام.
إلى جانب ذلك؛ مثل بحث ملف العراق في أعمال هذا المؤتمر، إنتقاداً غير مباشر لإيران، فمما لا شك فيه إن إيران أسهمت بصورة رئيسية بحالة عدم الإستقرار السياسي والأمني في العراق، ومن شأن تحميلها مسؤولية ذلك، أن يؤدي إلى مزيد من التعنت الإيراني في هذا السياق، حيث إن إيران تدرك تماماً بأن هناك قوى إقليمية تنافسها في العراق، وأبرزها تركيا والسعودية، ومن شأن إدانة طرف دون آخر، أن ينعكس على حالة التنافس بين القوى الإقليمية في العراق، خصوصاً وإن المؤتمر ينعقد برعاية فرنسية وأممية.
وفيما يتعلق بالعلاقات مع السعودية، زاد الغموض الذي اكتنف الرسائل الإيرانية هي إيجابية عبد اللهيان بشأن الحوار مع المملكة العربية السعودية مقابل انتقاد قائد القدس إسماعيل قاآني، المملكة العربية السعودية، إذ تبنى الحرس الثوري الإيراني بشكل ملحوظ خطاباً متشدداً ضد المملكة منذ سبتمبر / أيلول الماضي، عندما اندلعت احتجاجات معارضة في إيران، إذ اتهم الحرس الثوري السعودية بتأجيج الإضطرابات، وفي تصريحات صدرت عنه يوم انعقاد المؤتمر في الأردن، توعد قاآني قائلًا: “السعودية حثالة أميركا، ولا تستحق أن تُعتبر عدوًا”، وفي إشارة على ما يبدو إلى تمويل المملكة المزعوم لقناة إيران إنترناشيونال المعارضة للنظام الإيراني، تابع قاآني قائلاً: “إن كل من شارك في يوم واحد من العمل الإعلامي ضدنا، سيتلقى ضربة يوماً ما، سيأتي اليوم الذي يفهمون فيه أنهم لم يجنوا شيئًا”.
تدرك إيران قيمة العراق الجيوسياسية، ولهذا تنظر إلى أي تحرك إقليمي أو دولي لدعم واقعه السياسي، على إنه محاولة لتحييد السياسة الإيرانية في المنطقة، ولعلّ هذا ما رسّخ فكرة واضحة في العقلية السياسية الإيرانية، من أن العراق حالة مركزية في النفوذ الإيراني، ولا بد من عدم التعاطي مع أي حراك سياسي نحو العراق، إلا بالقدر الذي يخدمُ المصالح الإيرانية نفسها، فحضور العديد من الدول الإقليمية إلى المؤتمر، جعلَ إيران أمام مواجهة مباشرة مع خصوم مؤثّرين في الساحة العراقية، فهي لم تكن قادرة على تقبُّل فكرة مناقشة الواقع العراقي معهم، أما الآن فيتم طرحها على صعيد مؤتمرات دولية، ما يضع بدوره مزيداً من التحديات أمام إمكانية نجاح المؤتمر الحالي في تحقيق الأهداف المرجوة منه.
وضع معقد
وجه مؤتمر بغداد 2 للتعاون والشراكة رسائل واضحة في شأن رفض التدخلات الإقليمية غير العربية في شؤون بلدان المنطقة، وهو ما أبدى السوداني تفهمه الكامل له بالقول “لا نسمح باستخدام أراضينا لإنطلاق أي تهديد لدول الجوار”، مشدداً على أن “العراق ينأى بنفسه عن سياسات المحاور ودعوات التصعيد”، بينما أكد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أن بلاده “ترفض أي تدخلات خارجية في شؤون العراق”، معتبراً أن السبيل الأمثل للحفاظ على أمن العراق وسيادته “رفع قدرات مؤسسات الدولة العراقية في المجالات كافة”.
تقود باريس إلى جانب لندن وبرلين حملةً ضد إيران على الصعيد النووي، وتلمح إلى احتمال إحالة ملفها إلى مجلس الأمن الدولي
وبالعودة إلى مخرجات مؤتمر بغداد الذي عقد العام الماضي، نجد إنها لم تسهم كثيراً في تحقيق الإستقرار السياسي المنشود في العراق، ولعل أبرز مثال على ذلك هو تأخر الدعوة لعقد المؤتمر الأخير بسبب تأخر تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، فعلى الرغم من أن الحكومة العراقية برئاسة السوداني كانت حاضرة في أعمال هذا المؤتمر، إلاّ إن الطبيعة التوافقية التي تشكلت بموجبها هذا الحكومة، ستكون عائقاً أمام أي إلتزام إقليمي يمكن أن تقدمه للدول المشاركة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالتهديدات الداخلية والخارجية التي تمثله الفصائل المسلحة في العراق، إذا ما أخذنا بنظر الإعتبار إن حكومة السوداني هي ثمرة تحالف سياسي تمثله هذه الفصائل.
إن الديناميات المؤثرة في الساحة العراقية، لم تكن لها تمثيل واضح في هذا المؤتمر، وتحديداً الولايات المتحدة، فالمحاولة الفرنسية الإستفراد بالملف العراقي بعيداً عن واشنطن، حتى لو قررت طوعياً الإنسحاب من العراق والمنطقة، قد لا يعطي مجالاً واضحاً لمخرجات المؤتمر كي تجد طريقها على أرض الواقع، فالولايات المتحدة هي من تمتلك التأثير السياسي والإقتصادي والأمني في بغداد، ومحاولة فرنسا عزلها عن أي جهد دولي يستهدف العراق، قد يعرض الإستقرار السياسي في العراق لمزيد من الهزات، خصوصاً في ظل الإنخفاض المستمر للدينار العراقي أمام الدولار الأمريكي.
وفي سياق متصل تشهد العلاقات بين إيران وفرنسا هذه الأيام واحدة من أصعب محطاتها، إذ تقود باريس إلى جانب لندن وبرلين حملةً ضد إيران على الصعيد النووي، وتلمح إلى احتمال إحالة ملفها إلى مجلس الأمن الدولي، كما تتحدث عن “تجميد” المفاوضات النووية، وضرورة توسيع العقوبات بداعي الخروقات الإيرانية، وتقود، إلى جانب بلدان أوروبية أخرى، حملة واسعة ضدّ النظام الإيراني على خلفيّة الإحتجاجات التي اعتبرها الرئيس الفرنسي ماكرون ثورة شعبيّة خلال لقائه بعض الناشطات الإيرانيات.
إجمالاً؛ اختُتمت أعمال مؤتمر بغداد 2 للتعاون والشراكة. وأكّد المشاركون، أهميةَ دعمِ أمن وإستقرار العراق، وعدمَ التدخّلِ في شؤونه الداخلية، من دون أن تكون هناك أي ضمانات لمنع هذا التدخل، وتحديداً من دول مؤثرة بالشأن العراقي، كإيران وتركيا، ما يجعل من فرص نجاح العراق في قطف ثمار هذا المؤتمر مرهونة بالتحولات الإقليمية والدولية المحيطة به، ما قد يرسخ فكرة إن المؤتمر كان الهدف منه تسويق السوداني، بصفته ضامناً للتوازن الإقليمي والدولي في العراق، أكثر من كونه مؤتمراً يعالج المشكلة العراقية بتعقيداتها الداخلية والخارجية، ولعل هذا ما يُعيد إنتاج ذات المشهد الذي أعقب مؤتمر بغداد السابق، حيث إستمرت التدخلات والهجمات العسكرية من قبل دول الجوار بالشأن الداخلي العراقي.