لا تقتصر مظاهر العنصرية التي يواجهها فلسطينيو الداخل المحتل من الحكومة والمستوطنين، في الحياة اليومية العادية والمعاملات الرسمية، أو في انتظار هباتٍ شعبية لتتجلى العنصرية على أوجها، وحتمي المستوطن خلف ظهر شرطي الاحتلال وهو يعتدي على الفلسطيني، بل تجد العنصرية ضد فلسطيني الأراضي المحتلة عام 1948 في أدق التفاصيل، وفي الحياة الأكاديمية.
بينما يفترض للجامعات أن تكون مساحةً لسمو الشخص أكاديميًا وفكريًا، تمارس الجامعات العبرية الإسرائيلية عنصرية منظمةً ضد الطلبة العرب الملتحقين بها، تقودها وزارة التعليم للاحتلال والمؤسسة الجامعية والطلبة “الإسرائيليون” أنفسهم، مدعومين، وفي السنوات الأخيرة، بقرار القومية الإسرائيلي الجديد، الذي يعني أن “إسرائيل” دولةٌ قومية لليهود، ولغتها العبرية، منذ إقرارها، وأصبحت العنصرية تجاه المجتمع العربي في الداخل بموافقةِ وختم القانون.
العنصرية المنظمة
في عام 2017، كشفَ استطلاعٌ شمل 1300 طالبٍ عربي في الجامعات العبرية، عن تعرض 50% منهم لمظاهر عنصرية، وتمييزًا خلال التعليم من قبل أعضاء الطاقم الأكاديميّ ومن جانب طلاب آخرين، وقد صرح 40% منهم عن تعرضهم لعباراتٍ عنصرية مباشرة من قبل الطاقم الأكاديمي، وعدم تمثيل اللغة العربية، كما ويواجه نصف الطلبة المستطلعة آراؤهم صعوبة في الاندماج في الجامعات.
وتظهر الدراسات إلى أن التمييز والعنصرية يصل المساعدات والمنح الدراسية، وبحسب المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية “مدى الكرمل” في بحثه ” التعليم العالي لدى المجتمع العربي في إسرائيل”، فإن لدى الطلبة اليهود من المهاجرين إلى الدولة مثل الأثيوبيين أو الأوروبيين أفضلية في تلقي المساعدات، وتشير الدراسة أن وزارة التربية والتعليم بالشراكة مع مجلس التعليم العالي تعطي المنح الدراسية للطابة بحسب مكان سكانهم الأصلي وقومياتهم، ولليهود الأفضلية في ذلك.
وبشكل مسبق، تتعزز الفجوة في الميزانيات المخصصة للطالب العربي والعبري من مراحل الدراسة المبكرة، بشكل أساسي في الثانوية العامة، حيث يزيد المبلغ الذي يجري استثماره في الطالب اليهودي عن نظيره العربي بنحو 6500 شيكل أي ما يعادل (1861 دولارًا أمريكيًا).
لا تقف العنصرية تجاه فلسطينيي الداخل المحتل على العملية التعليمية والموارد المالية المخصصة لها، بل أيضًا نحو فكرة تنظيم العمل الطلابي العربي في الجامعات العبرية، وبينما انطلقت أول لجنة للطلاب العرب في الجامعة العبرية في القدس عام 1959 كأول حراكٍ طلابي عربي في “إسرائيل”، ما زال تعامل المؤسسة الأكاديمية للاحتلال مع النشاط الطلابي المنظم كالحركات والأحزاب السياسية والنوادي الثقافية والحقوقية محفوفًا بالعنصرية.
وفي الوقت الذي يحتل فيه العمل الطلابي اهتمامًا في مختلف جامعات العالم، يواجه الطلبة العرب في الجامعات العبرية تمييزًا ضدهم لتقييد نشاطهم النقابي، حيث تعتمد عمادة الطلبة إتاحة عملية تسجيل النشاطات الطلابية المنظمة تحت مسمى “خلية طلابية”، ولكنها في الوقت نفسه تحد من عمل خلايا الطلبة العرب على المستويات كافة، مثل أماكن النشاط في الجامعة، والساعات المتاحة لذلك، بينما تتيحه للنقابات الطلابية التي تشكل الأحزاب الصهيونية أو الطلاب المحسوبين عليها أغلبية فيها.
الجامعات العبرية: “ثكنة جيش الاحتلال”
يشير مركز “مدى الكرمل” إلى أن الجامعات العبرية تتحول لتصبح مكانًا لتدعيم العسكرية الإسرائيلية من خلال العلاقات المتشابكة في البرامج والدعم المالي، وتفتح الإمكانية والمسار لتطوير تعليم الطلبة من خلال جهاز العسكرية (تقنيًا وأداتيًا وفلسفيًا وسلوكيًا)، عدا عن برامج مشتركة بين الجامعة والجيش، ومن خلال المنح والامتيازات، حيث تتبنى الجامعات العبرية في جميع مستوياتها التقنية (التسجيل والتصنيف وآليات الحصول على المنح) تتبنى المصطلحات الصهيونية، وكذلك في المساحات العامة، وترفع النصب التذكارية لجنود الاستعمار الصهيوني.
في عامِ 2012، أصدرت جامعة حيفا الأكثر عنصرية أو (جامعة أمن إسرائيل) قرارًا باستقبال مئاتٍ من جنود الاحتلال الراغبين في التعلم، وأسكنوهم بمساكن الطلاب، وتجولوا داخل الحرم الجامعة بسلاحهم ولباسهم العسكري، فكانت الجامعة أشبه ما تكون كـ “ثكنة عسكرية” لجيش الاحتلال.
وفي عام 2019 فازت الجامعة العبرية في القدس بمناقصة لاستضافة مشروع “حفتسلوت” للتميز الأكاديمي في الجيش الإسرائيلي، وهو برنامج أكاديمي لنخبة جنود جيش الاحتلال في الجامعة العبرية، يستوجب استقدام ما يشبه ثكنة عسكرية صغيرة حقيقية إلى داخل الحرم الجامعي، واشترط الجيش في المناقصة، مزيدًا من الرقابة الأمنية على حرم الجامعة، بالإضافة إلى إلزام الجنود بالتواجد بالحرم الجامعي بزيهم العسكري وأسلحتهم.
الجامعات الفلسطينية: معضلة عدم الاعتراف
تظهر الإحصائيات أن 24% من مجمل الطلاب العرب المنتسبين إلى التعليم العالي يدرسون في جامعات خارج الأراضي المحتلة، إما في الجامعات الفلسطينية أو في الدول الأخرى، وبحسب المؤسسات الحقوقية والقانونية في الداخل المحتل فإن توجه الطلاب العرب إلى الجامعات الخارجية مدفوعٌ بتقييدات السن التي يواجهونها عند الالتحاق بالجامعات العبرية لدراسة بعض المواضيع (كالطب والخدمة الاجتماعية، والطب المساند)، وأيضاً بسبب عدم قبولهم في الجامعات الإسرائيلية في المواضيع التي اختاروها، وهي على الأغلب مقاعدها محدودة وتتطلب معدلات عالية في شهادة الثانوية العامة (البيجروت) وامتحان السيخومتري (حساب القوة الذهنية).”
وفي ظل ذلك، تصاعد توجه الطلاب الفلسطينيين في الداخل المحتل إلى الجامعات الفلسطينية من 2500 طالبٍ عام 2012\2013 بنسبة 27%، إلى ما 8110 طالبًا في السنة الدراسية 2017\2018، مما يشكل نسبته 52.2% من مجمل الطلاب الذين يدرسون في جامعات خارج الأراضي المحتلة.
التضييق الذي يدار على فلسطينيي الداخل المحتل في تعليمهم العالي، ليس بمعزلٍ عن فكرة الاستعمار ككل
وفي سياقِ ذلك، يفرض الاحتلال الإسرائيلي عقباتٍ على الطلبة الفلسطينيين في الجامعات الفلسطينية، تتمثل في عدم الاعتراف بشهاداتهم الصادرة من الجامعة، سيمّا جامعة القدس – أبو ديس، أو عدم الاعتراف في مساقاتٍ تطرحها الجامعة خاصةً تلك المعنية بالقضية الفلسطينية، مما يؤثر على المعدل الأكاديمي والساعات الأكاديمية المعتمدة عند سوق العمل.
وفي جامعة القدس، التي تخوض حربًا أكاديمية مع الاحتلال كونها في مناطق تتبع للاحتلال الإسرائيلي، تمثلت في الاعتراف بالشهادة، ثم سحبها عام 2017، ما عرّض خريجي الجامعة خاصةً المقدسيين لعراقيل في الانخراط في سوق العمل في المدن المحتلة، وحتى في القدس، بسبب عدم الاعتراف بشهادتهم الجامعية.
وجامعة القدس، التي تقع في الجزء الشرقي من العاصمة المقدسة، لا يعترف بها الاحتلال كجامعة أجنبية مثل بقية الجامعات الفلسطينية، انطلاقًا لما يراه الاحتلال في الاعتراف إضرارًا بالسيادة “الإسرائيلية” في القدس المحتلة، وخلال مسيرة محاربة الجامعة الأكاديمية، تبرر مؤسسة الاحتلال بأن الاعتراف بالجامعة يعني الاعتراف بمؤسسة تدعم الإرهاب، ويقود هذه المسيرة مكتب رئيس وزراء لاحتلال منذ سنوات.
في الجانب المشرق، انتزاع عام 2020، 38 طبيباً مقدسياً من خريجي كلية الطب في جامعة القدس والذين تلقوا تدريبهم في مستشفى المقاصد، قرارًا من المحكمة العليا للاحتلال يُلزم وزارة صحة الاحتلال بالسماح لهم بالتقدم لامتحان الترخيص “الإسرائيلي” والحصول على رخصة مزاولة المهنة “الإسرائيلية”، والتي تمكّنهم من ممارسة مهنة الطب في العيادات والمشافي والمراكز الطبية في القدس والأراضي المحتلة عام 1948، بعد منعهم لأكثر من عشر سنوات من التقدم له، بسبب عدم اعتراف الحكومة الإسرائيلية بكلية الطب الفلسطينية.
إن التضييق الذي يدار على فلسطينيي الداخل المحتل في تعليمهم العالي، ليس بمعزلٍ عن فكرة الاستعمار ككل، ومحاولة أسرلة التعليم ودفع الطلبة إلى الانتماء للفكر الصهيوني خلال تعليمهم، ولا يمكن قراءته بعيدًا عن مسار تعامل الاحتلال مع عرب الداخل المحتل، لدفعهم خارج الأراضي المحتلة، مما يعني ترجيح كفة الديموغرافيا لصالح اليهود على حساب الفلسطينيين.