كشف حادث شارع دانغيين وسط باريس الذي وقع الجمعة 23 من الشهر الجاري، وأسفر عن مقتل 3 أكراد وإصابة أخرين، عن ازدواجية الدولة الفرنسية في التعاطي مع الجرائم التي تقع فوق ترابها، حيث البون الشاسع في توصيف تلك الأحداث بين ماهو إرهابي وماهو جنائي، وفق هوية المجرم وخلفيته الثقافية.
ورغم أن مرتكب الحادث (69 عامًا) اعترف خلال التحقيقات أن دوافعه عنصرية فيما يمتلك سجلا إجراميًا عنصريًا معروفًا للجميع، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا لدفع السلطات الفرنسية لوصف الجريمة بـ “العملية الإرهابية” كما هو الحال إذا ما كان المتهم من أبناء الجاليات المهاجرة، مكتفية بأن ما حدث عملية إجرامية تخضع للتحقيقات الجنائية كأي جريمة أخرى تشهدها البلاد.
وأثارت ازدواجية التوصيف تلك حفيظة الجالية الكردية في فرنسا والتي أعربت عن غضبها وتنديدها، فيما عززت من مخاوف الأقليات والمهاجرين بصفة عامة خاصة في ظل عودة صعود اليمين المتطرف في البلاد مرة أخرى، وهو ما كشفته الانتخابات العامة التي جرت مؤخرًا وحقق فيها المتطرفون تقدمًا ملحوظًا.
وكانت الواقعة قد جرت قرب مركز ثقافي كردي غالبًا ما ترتاده الجالية التركية في الدائرة العاشرة بباريس، حيث فتح أحد المواطنين الفرنسيين النار على عدد من المارة وأحدث إصابات خطيرة بجانب القتلى الثلاثة، فيما القت قوات الأمن الفرنسية القبض عليه، غير أن النيابة العامة أمرت بنقله إلى مصحة نفسية تابعة للشرطة كون حالته الصحية لا تسمح باحتجازه داخل مقار الاحتجاز الشرطية.
This is what you get when you shelter terrorists in your country. #Paris pic.twitter.com/pVcd4R6Thl
— Clash Report (@clashreport) December 24, 2022
تظاهرات غاضبة
أشارت التحقيقات أن الرجلين الذين قتلا في الهجوم هما “عبد الرحمن كيزيل” وهو مواطن كردي عادي من رواد المركز الثقافي الكردي بشكل منتظم، و “مير بيروير” وهو فنان كردي ولاجئ سياسي، أما المرأة فتدعي “أمينة كارا”، وكانت قيادية في الحركة النسائية الكردية في فرنسا.
الهجوم أغضب الجالية الكردية بشكل كبير والتي عبرت عن ذلك في صورة احتجاجات خيمت على ساحة الجمهورية وسط العاصمة الفرنسية، فيما لجأ بعض المحتجين للعنف حيث حطموا واجهات بعض المحال وأضرموا النار وسط الشوارع، كما نشبت مواجهات بين المتظاهرين والشرطة الفرنسية أسفرت عن إصابات واعتقالات في صفوف المحتجين.
الازدواجية الفرنسية في توصيف مثل تلك الجرائم تعكس العنصرية الفجًة التي تخيم على العقلية الفرنسية الحاكمة، والخاضعة في معظم الوقت لإملاءات وضغوط الشعبويين خاصة في السنوات السبع الأخيرة منذ 2015 وحتى اليوم
النشطاء الأكراد يرون أن التعامل القضائي والسياسي وحتى الإعلامي مع الواقعة لم يكن على الشكل المطلوب، فبينما يتوفر في الهجوم أركان العملية الإرهابية إلا أن التعاطي الفرنسي معه كان أقل مما يجب أن يكون، فيما اتهم أخرون أجهزة الأمن الفرنسية بعدم القيام بما يكفي لمنع إطلاق النار.
وكانت الجالية الكردية وعدد من المتضامنين معها من أبناء اليسار الفرنسي قد نظموا مظاهرة السبت 24 / 12/ 2022 وسط باريس، بجانب مسيرة أخرى في مرسيليا شارك فيها نحو 1500 شخص، قبل أن تتحول إلى كر وفر بين المحتجين والشرطة، أسفر ذلك عن إصابة 31 من المجندين، واعتقال 11 شخصًا من المشاركين في تلك التظاهرات.
وتأتي تلك الجريمة بعد نحو 10 سنوات تقريبًا على قتل 3 ناشطات كرديات في الدائرة العاشرة بباريس، وهي الدائرة ذاتها التي شهدت الواقعة الأخيرة، الأمر الذي فسًره البعض على أنه من الصعب أن يكون مصادفة كما ذهب مؤسس حزب فرنسا المتمردة اليساري الراديكالي جان لوك ميلانشون ومعه المجلس الديمقراطي الكردي، مما يخرج الواقعة من دائرتها الجنائية الضيقة إلى أبعاد أخرى، ربما تكون سياسية أو عنصرية.
Several injured after gunshots in #Paris . pic.twitter.com/WLGkM7ymLf
— Raajeev Chopra (@Raajeev_Chopra) December 23, 2022
ازدواجية فرنسية
في شهر أيلول/سبتمبر 2020 هاجم رجل مسلح بساطور شخصين أمام المقر السابق لأسبوعية تشارلي إيبدو الساخرة في باريس، وأصابهما بجروح خطيرة، وقبل ذلك بخمسة أشهر تقريبًا قتل لاجئ سوداني شخصين بسكين في بلدة رومان سور إيزير بجنوب شرق البلاد، وفي كلا الواقعتين وبعد أقل من دقائق على الكشف عنها واستباقا للتحقيقات، خرجت السلطات الفرنسية لتؤكد أن العمليتين “إرهابيتين”.
ورغم أن الواقعتين وما سبقاها من جرائم أخرى عديدة، تضمنت العديد من التفاصيل التي تستوجب انتظار التحقيقات قبل الكشف عن طبيعتها، إلا أن السلطات هناك سارعت في نعتها بالإرهابية ليتأجج الشارع الفرنسي المساق خلال السنوات الأخيرة باليمين المتطرف، وذلك على النقيض تمامًا من جريمة الجمعة الماضية، فرغم اعتراف منفذ الهجوم عن دوافعه العنصرية في التحقيقات إلا أن الحادث وصف- حتى كتابة تلك السطور- بأنه “جريمة” وليس “هجومًا إرهابيًا” كما هو الحال في الجرائم التي ارتكبها مهاجرون قبل ذلك.
الازدواجية الفرنسية في توصيف مثل تلك الجرائم تعكس العنصرية الفجًة التي تخيم على العقلية الفرنسية الحاكمة، والخاضعة في معظم الوقت لإملاءات وضغوط الشعبويين خاصة في السنوات السبع الأخيرة منذ 2015 وحتى اليوم، وهو ما أنتج في النهاية خطابًا عنصريًا بامتياز ربما لم تشهده البلاد منذ عقود طويلة رغم سجلها المشين الممتد عبر مئات السنين.
هذا الخطاب الفاشي الشعبوي عبًر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشكل مباشر وواضح ودون أي مواراة حين أجاب على سؤال مراسل موقع “ليكسبريس” : “هل تعتقد أن كونك رجل أبيض يعتبر امتيازا؟” وذلك خلال مقابلة أجريت معه في 22 ديسمبر/ كانون الأول 2020، حيث قال : “هذه حقيقة، نحن لا نختارها، وأنا لم أخترها، وألاحظ ذلك في مجتمعنا، فكوني رجل أبيض يخلق هذا لي ظروفا أسهل للوصول إلى وظيفتي والحصول على سكن، مقارنة بأن أكون رجلا أسودا أو آسيويا أو مغاربيا، ولذلك، يمكن اعتبار كونك رجلا أبيضا على أنه امتياز”.
وحملت إجابة ماكرون وما سبقها ورافقها وتلاها من تصريحات قادة اليمين المتطرف في فرنسا وعلى رأسهم ماريان لوبان، نقلة نوعية في مسار خطاب الكراهية العنصري والاستهداف الممنهج للأقليات والمهاجرين، استنادًا إلى القاعدة القومية الشعبوية القميئة “تفوق الرجل الأبيض” واعتباره مواطنًا من الدرجة الأولى مقارنة بمواطني الدرجات الدونية الأخرى من أصحاب البشرة الملونة.
تصاعد اليمين المتطرف
نجح اليمين المتطرف في فرنسا في استعادة بريقه مرة أخرى بعد خفوت دام قرابة عامين، فرغم هزيمة زعيمة الجبهة الوطنية “ماريان لوبان”، مرشحة اليمين المتطرف، في الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة التي جرت في أبريل/نيسان الماضي، إلا أنها نجحت في الحصول على 41.8% من الأصوات مقابل 58.2% حصل عليها منافسها إيمانويل ماكرون.
وتعد نتائج الانتخابات الأخيرة بالنسبة لليمين المتطرف هي الأفضل لهذا التيار رغم الهزيمة، وذلك مقارنة بانتخابات 2017 التي حصلت فيها لوبان على 33.9% من الأصوات، فيما حصل ماكرون على 66%، بما يعني نجاحها في تقليص الفارق بينها وبين منافسها من 32 نقطة إلى 16 نقطة فقط، أما في انتخابات 2012 فلم تتمكن مرشحة الشعبويين من الوصول إلى الدور الثاني من الانتخابات مكتفية بالمركز الثالث وذلك بعد حصولها على 17.90% من أصوات الناخبين الفرنسيين.
في عام 2020 وقع 235 اعتداء على المسلمين مقابل 154 عام 2019، بما يمثل زيادة بنسبة 53%، هذا بخلاف زيادة الاعتداءات على المساجد بنسبة 35%، مقارنة بما حدث عام 2019، بحسب البيان الصادر عن “المرصد الوطني ضد معاداة الإسلام” في فرنسا، في يناير/ كانون الثاني 2021
القراءة الموضوعية للنتائج التي حققها اليمين المتطرف في الانتخابات الأخيرة تشير إلى أن الشعبوية تخيم على مزاج نصف الفرنسيين تقريبًا، تلك الشعبوية التي تضع المهاجرين والأقليات وأصحاب البشرات الملونة أهدافًا مشروعة للاستهداف الممنهج، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وإعلاميًا.
وكشفت الأيام القليلة الماضية وضاعة هذا التيار وأنصاره، حين شنوا هجوما عنصريًا ضد عدد من لاعبي المنتخب الفرنسي لكرة القدم، أصحاب البشرة السمراء من أبناء وأحفاد المهاجرين، بعد خسارتهم المباراة النهائية في بطولة كأس العالم في قطر 2022 أمام الأرجنتين التي توجت باللقب، حيث رفع الشعبويون شعارات عنصرية على شاكلة “عودوا إلى أوطانكم”، ليؤكدوا تلك العبارة الشهيرة التي تقول : “في حال الفوز فأنت فرنسي أما في الخسارة فأنت مهاجر ولاجئ”.
سجل مشين من العنصرية
تحمل فرنسا التي دوما ما ترفع شعارات الديمقراطيات والحريات وأنها قلعة التشاركية في العالم سجلا مشينًا من الجرائم العنصرية التي باتت ظاهرة عامة لا تغفلها عين ولا تتجاهلها بصيرة، وهو ما تؤصله حزمة القرارات والقوانين التي أقرتها الدولة خلال السنوات الأخيرة والتي تستهدف بها بشكل مباشر تقويض الأقليات وتكبيلهم بسلسة مطولة من القيود.
ومن أبرز تلك الخطوات التي أقدمت عليها باريس في هذا الاتجاه تصويت البرلمان الفرنسي في يوليو/ تموز 2021 على مشروع القانون الذي يستهدف وبشكل مباشر تضييق الخناق على المسلمين، عبر تعزيز الرقابة على المساجد والجمعيات الخيرية، وحريات اختيار الأطباء والمعلمين بجانب التشديد على التعليم الإسلامي، بزعم استهداف “النزعة الانفصالية” في البلاد.
عامًا بعد الأخر، وواقعة تلو الأخرى، تٌصر فرنسا على إسقاط قناعها المزيف الذي ارتدته لعقود طويلة، عاكسة من خلاله صورة مشرقة عن بلد الحريات وموطن الديمقراطيات وقبلة المستهدفين واللاجئن والمهاجرين، لينكشف الوجه الحقيقي لدولة شعبوية من الطراز الأول
هذا التصويت يعد امتدادًا لسلسلة القوانين التي اتخذتها السلطات الفرنسية في بدايات الألفية الحالية وعلى رأسها قانون حظر الطقوس الدينية في المدارس عام 2004 وقانون حظر ارتداء النقاب في الأماكن العام في 2010، لتأتي تصريحات ماكرون الشهيرة في أكتوبر/تشرين الأول 2020 حين قال إن “الإسلام يعيش اليوم أزمة في كل مكان بالعالم، وعلى فرنسا التصدي للانعزالية الإسلامية الساعية إلى إقامة نظام موازٍ وإنكار الجمهورية الفرنسية”، لتؤكد على منهجية الاستهداف وشرعنة العنصرية، لتتوالى بعد ذلك السياسات السلطوية المنتهكة شكلا ومضمونا لحقوق الأقليات والمهاجرين بصفة عامة.
وتوثق الأرقام الخاصة بأعداد ونوعية الجرائم المرتكبة بحق الأقليات داخل فرنسا حجم تفشي خطاب الكراهية وتملك العنصرية من العقلية اليمينة بشكل يهدد أمن واستقرار المجتمع، ففي عام 2020 وقع 235 اعتداء على المسلمين مقابل 154 عام 2019، بما يمثل زيادة بنسبة 53%، هذا بخلاف زيادة الاعتداءات على المساجد بنسبة 35%، مقارنة بما حدث عام 2019، بحسب البيان الصادر عن “المرصد الوطني ضد معاداة الإسلام” في فرنسا، في يناير/ كانون الثاني 2021.
كما ارتفعت الاعتداءت ضد المسلمين خلال فترة 2017-2019 بنسبة 77%، وفق التقرير السنوي الصادر عن “التجمع ضدّ الإسلاموفوبيا” العام الماضي، والذي رصد نحو 789 فعلًا يندرج تحت مظلّة كراهية المسلمين خلال عام 2019، لافتًا إلى أن 59% من تلك الأفعال المصنَّفة كجرائم عنصرية صادرة عن مؤسسات حكومية، وهو الأمر الذي أثار قلق المسلمين ودفع كثيرًا منهم إلى الرحيل، حيث كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكي في تقرير لها عنونت له بـ “رحيل في الخفاء لمسلمي فرنسا” أن مئات المسلمين الفرنسيين غادروا فرنسا سرًّا هربًا من الانتهاكات التي يتعرضون لها على أيدي اليمينيين، في ضوء خطاب الكراهية المتصاعد في الآونة الأخيرة، لتتحول فرنسا من وطن حضاري فاتح أحضانه للجميع إلى بلد طارد لأبنائه منتهك لحقوقهم دافعهم بقوة نحو الهجرة.
عامًا بعد الأخر، وواقعة تلو الأخرى، تٌصر فرنسا على إسقاط قناعها المزيف الذي ارتدته لعقود طويلة، عاكسة من خلاله صورة مشرقة عن بلد الحريات وموطن الديمقراطيات وقبلة المستهدفين واللاجئن والمهاجرين، لينكشف الوجه الحقيقي لدولة شعبوية من الطراز الأول، تُسلم مفاتيحها لليمين المتطرف الذي بات يتلاعب بها لحسابات أيديولوجية خاصة حتى لو كان ذلك على حساب سمعة الدولة وصورتها الدولية.