نظرات في الحركة الإسلامية: الأردن نموذجًا (3-3)

ر

استكمالاً وتتمة لسلسلة النظرات بعد أن انتهينا من الجزء الأول والثاني

لقد شكل الانفتاح السياسي في 1989 مرحلة هامة في تاريخ الجماعة بعد أن حسمت أمرها على قاعدة المصلحة واعتبرت خيار المشاركة في الانتخابات سواء البرلمانية أو البلدية قرارًا إستراتيجيًا، ومجالاً مهمًا يمكن استثماره، وقد اعتبر ذلك تطورًا مفصليًا أدخل ثقل الجماعة في ساحة غامضة لم تختبرها من قبل، ولاشك في أن الحكم صُدم بالوزن الحقيقي للجماعة بعد اكتساحها مع إسلاميين آخرين أكثر من ربع مقاعد مجلس النواب، كما تم الاتفاق وعلى نطاق واسع في الدوائر الإخوانية على المشاركة في حكومة “مضر بدران” بخمسة وزراء إضافة إلى إسلاميين مستقلين، وبادرت الجماعة إلى إنشاء حزب “جبهة العمل الإسلامي” عام 1992 الذراع السياسي للجماعة، وقويت شوكة “جمعية المركز الإسلامي” العصب الاقتصادي لجماعة الإخوان والتي تتضمن مؤسسات ومصالح كبيرة على مستوى الأردن.

ومنذ إدراك حجم العوائق التي يمكن أن تضعها الجماعة على السياسة الداخلية والتوجهات الخارجية لم يدخر الحكم الأردني جهوده لوضع العصا في دولاب الانفتاح السياسي للحد من مكاسب الجماعة وبالتالي تحجيم دورها في التأثير على القرار السياسي، فبدأ الحكم بسلسلة تشريعات وسياسات كقانون انتخابات “الصوت الواحد” الذي خاض على أساسه “الإخوان” باسم حزب جبهة العمل الإسلامي انتخابات عام 1993، وأدى بالفعل إلى إضعاف دورهم في مجلس النواب وتراجع حضورهم، وتمخض عن ذلك إقرار الأغلبية البرلمانية لمعاهدة وادي عربة عام 1994، ثم عُمِّم قانون الصوت الواحد على الجامعات الأردنية لضرب قوة “الإخوان” فيها، وتزامن ذلك مع تشديد القبضة على المساجد وحرمان “الإخوان” من المنابر التي تؤثر على الرأي العام، وفوق هذا وذاك جرى توظيف تيار “السلفية التقليدية” لشن حرب فكرية وثقافية لإضعاف “الإخوان” داخل المجتمع؛ فجاء الرد “الإخواني” على التضييق الرسمي  بمقاطعة انتخابات عام 1997 في محاولة لتهديد شرعية الحياة السياسية، إلا أن المقاطعة لم تؤد إلا إلى الإمعان في حصار الإخوان والحد من دورهم في الحياة السياسية، وأدت إلى تفاعلات تنظيمية لم تتوقف بعد، نجم عنها فصل عدد كبير من قيادات الجماعة بينهم وزراء ونواب وقادة تنظيميين بسبب مخالفتهم قرار مجلس شورى الجماعة بالمقاطعة.

 لكن على الرغم من الخلافات الواسعة بين دائرة الحكم والإخوان، فإن المؤشرات تقول بامتداد جسور الحوار السياسي، ولم تصل العلاقة لحدود حرجة، واستنكف الإخوان عن المشاركة في العديد من الأحداث التي تمس الجانب الأمني مباشرة، كما حصل عام 1996 عندما أدت سياسات التكيف الهيكلي إلى ارتفاع في الأسعار الأساسية واضطرابات في مدن الجنوب وبعض الجامعات، إذ اقتصر الدور الإخواني على الحد الأدنى من الاحتجاج على خلاف القوى اليسارية والقومية التي شاركت بقوة؛ ما أدى إلى اعتقال عدد من قياداتها وأفرادها، ويشير سميح المعايطة، في هذا السياق، إلى أن الإخوان على الرغم من معارضتهم معاهدة السلام مع إسرائيل فإنهم لم يسعوا إلى إفشالها بقدر ما كان هاجسهم تسجيل موقف تاريخي، ويدلل المعايطة على هذا أن أحد الخيارات التي كانت مطروحة – حين عرضت المعاهدة على مجلس النواب – أن يقدم النواب الإخوان استقالتهم من المجلس احتجاجًا على المعاهدة – والذي يعتبر تصعيدًا شديدًا ضد المعاهدة – لكن الجماعة اتخذت قرارًا بالبقاء والتصويت ضد المعاهدة.

 والمتابع للشأن الإخواني في الأردن أثناء فترة حكم الملك “عبد الله الثاني” يجد أن هناك عدة عوامل أثرت في علاقة الإخوان بالنظام الحاكم منها: عدم وجود خلفية سياسية للملك عبد الله الثاني، وظروف مرحلة انتقال الحكم الصعبة أدت إلى انتقال ملف الإخوان من دائرة الملك السياسية إلى الدائرة الأمنية للمخابرات والأجهزة الأمنية، ثم مرحلة التحول الإستراتيجى بعد إخراج قادة حماس 1999من الأردن، وهناك عوامل أثرت في المشهد وزادت من حدة الخلاف منها: الخصم التقليدي للنظام والإخوان من اليساريين والقوميين لم يعد موجودًا في الشارع وأصبح ثانويًا غير فاعلاً ومؤثرًا في المشهد الأردني، واتساع الفجوة الخلافية بين الإخوان والنظام وانحسار القواسم المشتركة مع عدم حاجة النظام للإخوان، مع خوف الأجهزة الأمنية من التأثير القوي للإخوان على الشارع.

ولعل أبورمان وأبوهنية لخصوا مشهد العلاقة بين الإخوان والنظام الحاكم في عدة عوامل منها اللحظة التاريخية؛ ففترة الخمسينيات والستينيات غير التسعينيات، وأيضًا الشخصيات التاريخية للجماعة فأبو قورة غير خليفة وخليفة غير الذنيبات وعبد الله الأول غير الثاني وحسين غيرهما ومضر بدران غير باقي رؤساء الوزراء.

ألقى المشهد المصرى فى صراع الإخوان مع عبد الناصر وظهور فكر الأستاذ “سيد قطب” بظلاله على المشهد الأردني؛ حيث ظهر في الفكر الإخواني الأردني وخطابها السياسي مدرستان فكريتان: مدرسة “الصقور” وهي الأقرب للأيدولوجيا وتقبل بالديمقراطية كمرحلة وآليات وليست خيارًا أو فلسفة، ومدرسة “الحمائم” الأقرب للواقعية والبرجماتية وتتبنى المشاركة السياسية وتأثرت بالغنوشي والقرضاوي، ويرصد الباحث “إبراهيم غرايبة” سيطرة” الصقور” على مفاصل التنظيم في الثمانينات، وبعودة الحياة النيابية في التسعينيات ظهر على السطح الإخوانى وبقوة تيار “الحمائم” وظهر هذا السجال جليًا فى مشاركة الإخوان في حكومة بدران 1991، حيث أصدر أبرز قادة “الصقور” الدكتور “محمد أبو فراس” كتابًا بعنوان “المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية”، ثم رد عليه الفقيه الإخواني “عمر الأشقر” في كتاب “حكم المشاركة في المجالس النيابية”، واستند الاثنان على أن الأصل عدم المشاركة والاستثناء عند الأشقر الجواز، فرد على الاثنين فقيه إخوانى ثالث هو الدكتور “علي الصوا”، والملاحظ أن تيار الصقور يغلب عليه دراسة الشريعة كما أن جذوره فلسطينية أردنية.

لم يقتصر المشهد الإخوانى على” الصقور” و”الحمائم” بل ظهر تيار ثالث بين هؤلاء وهؤلاء سُمى تيار”الوسط” وهو الجيل الثالث والرابع من التنظيم، ويقول المعايطة إن هذا التيار ارتبط تاريخيًا باختيار “عبد المجيد ذنيبات” بدلاً من “عبد الرحمن خليفة” الذي كان يمتلك زمام الجماعة وضبط إيقاعها ويتواصل مع رأس الحكم؛ فأحدث فراغًا ملأه تيار الوسط بعد أن تراجع الدور المهيمن للمراقب العام، وهم أقرب لتيار الحمائم في القبول باللعبة السياسية دون التماهي مع دائرة الحكم ويزيدون اهتمامهم بالشأن الداخلي الأردني بمفهوم”أردنة العمل الإسلامي”.

كان عام 1997 فارقًا فى تاريخ الجماعة، حيث كان الصقور مع مقاطعة الانتخابات والحمائم مع المشاركة الرمزية فتدخل الوسط لحسابات داخل التنظيم فدعم المقاطعة؛ فكانت، فرفض عدد من قيادات الحمائم المقاطعة فتم فصلهم وتبعهم آخرين اختيارًا وفصلاً فكونوا حزب “الوسط الإسلامي” عام 2001.

وعلاقة التنظيم بأجياله والصراع الفكري والحركي بينهم، وعلاقة الإخوان المعقدة مع النظام الحاكم من فترة الملك عبد الله الثاني وحتى الآن، يحتاج مقالات وسلاسل لا تسمح به المساحة المتاحة للكتابة، وإن قُدر لنا ستكون الاستفاضة في كتاب – إن شاء الله -،  لكن لك أن تتخيل معي بعد هذه العلاقة القوية بين الإخوان والنظام الملكي تتطور بشكل دراماتيكي رهيب، حيث إنه وقبل أيام ليست بالبعيدة، اُعتقل أحد أبرز قادة الجماعة وأكثرهم إثارة للجدل، الأمين العام الأسبق لجبهة العمل الإسلامي “زكي بني أرشيد” من أمام مقر الحزب في أعقاب انتهاء اجتماع، وذلك بتهمة “تعكير صفو العلاقات مع دولة عربية” في إشارة إلى دولة الإمارات، إذ كتب بني أرشيد مؤخرًا مقالة استهجن فيها إقامة مسجد خليفة بن زايد في القدس الشرقية تحت عنوان “المسجد الضرار”، محللاً أن ذلك يخفي وراءه “أهدافًا صهيونية”، وتلى ذلك إدراج على صفحته بالفيسبوك تتضمن عبارات يتهم فيها الإمارات بأنها “راعية للإرهاب”.

وهذا لا ينفي أن ثمة خطر يتهدد الحركة، فحتى وإن لم يتم حظرها، ثمة حلول أخرى أمام الدولة الأردنية من بينها حل جماعة الإخوان المسلمين، وفق المتخصص بالجماعات الإسلامية مروان شحادة، الذي رأى، في حديث مع “السفير” أنه إذا قامت الحكومة الأردنية بحلّ الجماعة (جسد الحركة) والإبقاء على جناحها ممثلاً بـ “جبهة العمل الاسلامي”، فإن الحركة الإسلامية ستصبح جناحًا بلا جسد، ضعيفة كباقي الأحزاب الأردنية.

………………………………………..

(1) الحل الإسلامى فى الأردن: الإسلاميون والدولة ورهانات الديمقراطية والأمن (د/ محمد أبو رمانة وحسن أبو هنية).

(2) الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين (إخوان الأردن/ حزب جبهة العمل الإسلامي).

(3) الحركات الإسلامية في الأردن (مجموعة باحثين)عرض/ وليد الزبيدي -الجزيرة نت.

(4) السقوط والاختفاء في عَمّان: صعود جماعة الإخوان المسلمين الأردنية وأفول نجمها .. ديفيد شينكر(معهد واشنطن).

(5) الإخوان المسلمون والنظام الأردني: نحو تجربة راشدة (عبد الجبار سعيد  -الجزيرة نت).

(6) النظام الأردني والإخوان المسلمون: هل هو طلاق ناعم؟ (رانية الجعبري – السفير).