ترجمة حفصة جودة
أثارت الكثير من التطورات في الأشهر الأخيرة التساؤل حول إذا ما كان الشرق الأوسط يمرّ بتغيرات بارزة في أنماط التعاون والصراع بين الدول في المنطقة ومع القوى الخارجية، حيث الحدث الأبرز في ذلك كان زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، للسعودية واجتماعه بالقادة العرب.
من الملاحَظ بشكل خاصّ أن البيان المشترك الذي أصدرته الصين ودول التعاون الخليجي، قد فسّره الكثيرون بأن الصين تقف بجانب الإمارات في نزاعها مع إيران حول ملكية بعض الجزر في الخليج الفارسي.
في الوقت نفسه، كشف تعمُّق العلاقات بين روسيا وإيران عن عودة جزئية للتدفق الطبيعي للأسلحة في العلاقات الروسية، فالمسيّرات الإيرانية أصبحت جزءًا من الهجمات الجوية الروسية على أوكرانيا.
أما تنصيب “إسرائيل” لأكثر حكوماتها اليمينية تطرفًا يثير التساؤل حول مستقبل العلاقات الإسرائيلية مع بعض الدول العربية، لكن حتى الآن لا يوجد تأثير واضح على تلك العلاقات.
لم تحظَ بطولة كأس العالم لكرة القدم في قطر على انتباه مشجعي كرة القدم فقط، بل انتباه المراقبين السياسيين كذلك، وتداعيات تلك البطولة على العلاقات بين دول الخليج وغيرها.
جزء ممّا سبق يشير إلى تحول الانتباه الأمريكي عن الشرق الأوسط نحو شرق آسيا، وجزء آخر يشير إلى موت الدبلوماسية المتعلقة باستعادة خطة العملة المشتركة الشاملة (JCPOA)، أو ما يُعرَف بـ”الاتفاق النووي الإيراني”.
أصبح الميل نحو المبالغة في تفسير الأحداث الأخيرة أمرًا عالميًّا، يظهر هذا الميل جزئيًّا بسبب ما يسمّيه علماء النفس “تأثير الحداثة”، كما يظهر أيضًا بسبب المعلّقين الذين يحتاجون إلى التعليق على كل شيء وتمنحهم الأخبار فرصة للقيام بذلك.
تلعب الاعتبارات قصيرة المدى والأحداث خارج المنطقة، وفي بعض الأحيان الاعتبارات السياسية المحلية، دورًا يعادل على الأقل دور الأحداث القادمة من خارج الشرق الأوسط.
في تلك الحالة، قد تؤدي المبالغة في تفسير تلك العناصر إلى تأكيدات مختلفة علّها حول كيفية انحياز الصين في منافسة الشرق الأوسط، وكيف أصبحت العلاقات الإيرانية الروسية تحالفًا استراتيجيًّا عميقًا، وكيف تواصل العلاقات العربية الإسرائيلية تطورها، وكيف أصبحت الولايات المتحدة الخاسر الأكبر في ذلك كله.
إن افتراض حدوث تقدُّم سريع في التحولات بالمنطقة يتجه نحو التناقض، مثل اتخاذ خطوة خاطئة في حلّ الأحجية، حيث يؤدي توافق ظاهري في أحد الأجزاء إلى نقص التوافق في جزء آخر.
على سبيل المثال، الرؤية المتحيزة التي يقف فيها المعسكر الخليجي الإسرائيلي في مواجهة المعسكر الإيراني الروسي، يجب أن تفسّر رغبة “إسرائيل” القوية في الحفاظ على علاقات جيدة بروسيا، هذه الرغبة مدفوعة أساسًا برغبة “إسرائيل” في مواصلة الهجوم على أهداف في سوريا مع الإفلات من العقاب، وتخفي ممانعة “إسرائيل” في تقديم أي دعم بارز لأوكرانيا المدمَّرة.
تلعب الاعتبارات قصيرة المدى والأحداث خارج المنطقة، وفي بعض الأحيان الاعتبارات السياسية المحلية، دورًا يعادل على الأقل دور الأحداث القادمة من خارج الشرق الأوسط، وكل ما قد يُوصَف بأنه مراجعة أساسية للجغرافيا السياسية للمنطقة.
فزيارة شي للسعودية جزء من جهود صينية لتعميق العلاقات مع الخليج العربي، لكنها أيضًا فرصة مرحّب بها للرئيس الصيني -الذي كان مقيدًا بالصين فقط معظم فترة جائحة كوفيد- للكشف عن مؤهّلاته كرجل دولة في الخارج، وسط احتجاجات ومشكلات في بلاده متعلقة بكورونا.
كان البيان الصيني الخليجي على ظاهره معتدلًا وموضوعيًّا فيما يتعلق بجزر الخليج العربي، بقوله فقط إن النزاع يجب حلّه من خلال مفاوضات ثنائية وفقًا للقانون الدولي، لكن إيران اعترضت على البيان لأنها مثل الدول الأخرى التي تسيطر على أراضٍ متنازع عليها، تزعم أنه لا يوجد نزاع وأن الجُزر ملك لها.
رغم الجهود الإسرائيلية لإبعاد الصراع مع فلسطين عن وعي العالم (بمساعدة بعض الدول الخليجية)، إلا أن الصدى الشعبي للقضية ما زال مستمرًّا، وأكبر تعبير عن ذلك كان في كأس العالم حيث كان التضامن مع الفلسطينيين أبرز دليل حديث على ذلك.
هناك سبب مقنع للاعتقاد بأن الصين ما زالت ترغب في علاقات قوية بجانبَي الخليج العربي (الفارسي)، فإيران كانت مصدرًا كبيرًا للنفط بالنسبة إلى الصين ومستورِدة للبضائع الصينية، وفي العام الماضي فقط وقّعت الصين وإيران اتفاقية استراتيجية مدتها 25 عامًا.
بالنسبة إلى روسيا، كل شيء هذه الأيام يدور حول حربها في أوكرانيا، والحرب لن تستمر للأبد، أما شكل علاقتها بإيران -بما في ذلك شراء تلك المسيّرات- فهي ظاهرة ثانوية لجهود روسيا لإنقاذ حملتها العسكرية، ولا تتضمّن أي تفكير استراتيجي حول إعادة التفكير في سياسة موسكو بالشرق الأوسط، لقد كانت العلاقات الروسية الإيرانية دائمًا مزيج من الصراع والتعاون، ويبدو أنها ستظل كذلك.
فيما يتعلق بالاتفاق النووي ومنع انتشار الأسلحة النووية والدبلوماسية المتعلقة بأمريكا، كان للتحركات قصيرة المدة والسياسات المحلية تأثير رئيسي، ما يحدث اليوم على الجبهة النووية الإيرانية -والذي يقترب من أزمة انتشار نووي- لم يكن ليحدث إذا لم يقرّر دونالد ترامب التراجع عن كل شيء مهمّ فعله باراك أوباما في اتفاقية 2018.
لم تتغير الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط بشكل بارز في السنوات الأخيرة، ولن تتغير بشكل أساسي في الأشهر القادمة، تُظهر الصورة الإقليمية منافسات تستند جزئيًّا إلى انقسامات دينية وعرقية، لكنها تعكس أحيانًا الطموحات المزعزِعة للاستقرار المتعلقة ببعض القادة مثل الحاكم السعودي محمد بن سلمان، أو نزاعات سابقة مثل التحالف السوري الإيراني الذي كان بشكل ما ميراثًا لمنافسات سابقة لكلا الجانبَين مع النظام العراقي لصدّام حسين.
ما زال هناك انفصال بارز بين الحكّام والشعوب، فالاحتجاجات الحديثة في إيران ما زالت الأبرز في عناوين الأخبار، لكن هذا الانفصال يحدث على الجانب الآخر من الخليج أيضًا، مثلما يحدث في البحرين بين النظام السنّي والأغلبية الشيعية، وكذلك الدول الخليجية الاستبدادية الأخرى التي إما تغضّ الطرف عن الاستبداد وإما تتخذ إجراءات قوية للحفاظ عليه.
هناك أيضًا الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ورغم الجهود الإسرائيلية لإبعاد هذا الصراع عن وعي العالم (بمساعدة بعض الدول الخليجية)، إلا أن الصدى الشعبي للقضية ما زال مستمرًّا، وأكبر تعبير عن ذلك كان في كأس العالم حيث كان التضامن مع الفلسطينيين أبرز دليل حديث على ذلك.
كانت أمريكا وما زالت القوة الخارجية الأكثر تقييدًا لذاتها في تعاملها مع المنطقة، يتعلق ذلك بسياسات محلية وميراث الصراعات الماضية، ويظهر بشكل خاص في الدعم المطلق لـ”إسرائيل” والعداء المطلق لإيران.
لم تسبّب صور تورُّط القوى الخارجية تغييرًا أساسيًّا كذلك، فروسيا -رغم العقوبات المرتبطة بعدوانها على أوكرانيا- ما زالت تظهر براعة في عملها مع جميع أطراف الصراع في الشرق الأوسط من “إسرائيل” إلى إيران وما بينهما، وزيارة بينغ الأخيرة كانت جزءًا من جهود الصين لمحاكاة السمت الروسي في السياسة الخارجية بالشرق الأوسط.
تعدّ تركيا قوة خارجية نشطة أيضًا، رغم أنها ليست قوة خارجية تمامًا، ولها مخاوف خاصة فيما يتعلق بالنشاط الكردي في سوريا والعراق، بالإضافة إلى بعض الاعتبارات الأيديولوجية المتعلقة بعلاقات الحزب الحاكم بجماعة الإخوان المسلمين.
كانت أمريكا وما زالت القوة الخارجية الأكثر تقييدًا لذاتها في تعاملها مع المنطقة، يتعلق ذلك بسياسات محلية وميراث الصراعات الماضية، ويظهر بشكل خاص في الدعم المطلق لـ”إسرائيل” والعداء المطلق لإيران.
يجب ألّا تستند السياسات الأمريكية الحذرة في الشرق الأوسط خلال الشهور والسنوات القادمة إلى توقعات بشأن تغيير الجغرافيا السياسية في المنطقة، بدلًا من ذلك يمكنها مواصلة تنفيذ الدروس التي تعلمتها في السنوات الماضية.
أحد هذه الدروس توسيع النفوذ الأمريكي، يجب أن تحاكي الولايات المتحدة الروس والآن الصينيين في العمل مع الجميع، بدلًا من النظر إلى الشرق الأوسط كمكان ينقسم بشكل صارم إلى أصدقاء وأعداء.
الدرس الآخر هو أنه رغم وجود أسباب منطقية لبقاء الولايات المتحدة على اتصال بالمنطقة، إلا أن هذا التواصل لا يجب أن يتخذ الشكل العسكري الذي استنزف موارد ضخمة، والانتكاس الذي ترك الناس يتوقون إلى محور خارج المكان.
لا يربط الصينيون نشاطهم الدبلوماسي واسع النطاق بادّعاء تحمُّل الأعباء الأمنية الثقيلة في الشرق الأوسط، ويجب على أمريكا أن تقوم بالمثل.
المصدر: ناشونال إنترست