تُعتبر إيطاليا واحدة من البلاد الفنية الرائدة، بما قدّمته على مدار عدة قرون من إسهامات حقّقت للفن الرواج والفرادة والاستمرارية الكافية حتى يمتد أخيرًا إلى مساحة مختلفة، حيّز سينمائي وهبت العالم من خلاله الكثير من التحف الفنية، ولكنها هي الأخرى لم تفلت من الموجة الدعائية التي سادت العالم في الحرب العالمية، خصوصًا في عهد فاشية موسوليني التي كانت تراقب عن قرب كل منفذ ووسيط يمكن تمريره للأفراد داخل الدولة الفاشية.
وعلى عكس كل الدول السابقة، كانت علاقة الفنان بالنظام علاقة شائكة، لأن من رحم تلك الحقبة خرجت واحدة من أهم وأعظم الحركات الفنية على الإطلاق في تاريخ السينما، موجة الواقعية الجديدة الإيطالية، التي تعتبَر منبع وأمّ من أمّهات السينما التي أضافت على مستوى الشكل والموضوع.
ولكن تماسّ مخرجي هذه الحركة مع النظام الفاشي وتحقيق بعض الأفلام لصالحه، جعل الأمر ملتبسًا بعض الشيء بالنسبة إلى البعض، ولكنه على أي حال لا يفقد أي فنان قيمته الفنية ولا ثوريته، فأفلامهم -حتى التي تحققت في الفترة الفاشية تحت أعين موسوليني- ما زالت تقدَّر فنيًّا وسينمائيًّا.
البداية من فيلم “إلى أين؟”
يمكن القول إن كل شيء بدأ من الفيلم الإيطالي المدهش “إلى أين (Quo Vadis)” للمخرج إنريكو جوازوني عام 1913، والذي بفضله احتلت السينما الإيطالية في وقت مبكّر مكانة مميزة وسط أقرانها في الدول الأخرى، خصوصًا على مستوى الإنتاج الضخم والتحقيق الجيد للتقنية الفنية، ما خلق معايير جديدة للسينما لم تكن موجودة من قبل.
غير أن المكانة المميزة لم تدُم طويلًا، أقرّت الدولة إجراءات اقتصادية حمائية أثّرت على صادرات الأفلام الإيطالية، حتى سيطرت هوليوود على السوق، لتزداد بعدها الأمور سوءًا خلال الحرب، حيث حاول المنتجون استعادة الصناعة بعد الحرب بإنتاجات مكلفة، لكن السوق ذاته تغير تحت وطأة هوليوود، لم تعد هذه الأفلام تنجح كما السائد، وأصبح السوق يرجّح الأفلام الأمريكية حتى على المستوى المحلي.
إلى أين (Quo Vadis)، 1913.
يمكننا تخيُّل مستوى انحدار السينما في إيطاليا، وتصور الانتفاضة التي حدثت تدريجيًّا في الصناعة بمقارنة عدد الإنتاجات خلال السنوات اللاحقة للحرب العالمية الأولى، والذي رصده الكاتب نيكولاس ريفز في كتاب “قوة الفيلم الدعائي: الحقيقة والأسطورة”:
“أنتجت إيطاليا ما يقارب من 317 فيلمًا عام 1920، تقلصت إلى 114 بعدها بـ 3 سنوات فقط، توقّف الإنتاج تقريبًا بحلول عام 1930 مع صدور 8 أفلام فقط، وبعدها تعافت الصناعة قليلًا بإنتاج 30 فيلمًا عام 1935، لتصل إلى 67 فيلمًا عام 1938، لتنمو بشكل أسرع وتصل إلى 87 فيلمًا عام 1940، لتبلغ ذروتها عام 1942 بنحو 120 فيلمًا، خلال هذه الفترة نما الجمهور، وتضاعف إجمالي عائدات شبّاك التذاكر بين عامَي 1924 و1927، وفي ذلك الوقت شكّلت السينما أكثر من نصف عمليات الاستحواذ على جميع أشكال الترفيه التجاري (بما في ذلك الرياضة)”.
تشتيت الجمهور وتخفيف غضبه
ظلَّ معدل الحضور الجماهيري في ارتفاع وتدرُّج حتى وصل إلى 470 مليون عام 1942، بيد أنّ تلك القاعدة الجماهيرية الكبيرة لا تنتمي إلّا بدرجة قليلة للأفلام الإيطالية، فبحلول تلك الأعوام غزت الأفلام الأجنبية السوق المحلية بشكل هائل، بحيث أصبح الجمهور يتناسب طرديًّا مع الانفتاح والارتفاع في الواردات.
لقد فتحت إيطاليا السوق للأفلام الأجنبية، شاهد الجمهور الإيطالي في الغالب الأفلام الأمريكية والألمانية، ففي أواخر عام 1938 مثلت الأفلام الأجنبية ما يقارب 87% من السوق المحلية، والحقيقة أن النظام الفاشي لم يكن يهتم للأمر في ذلك الوقت، ولم تُسَنَّ قوانين أو إجراءات معيّنة تقوّي من السينما المحلية أو الدعائية.
لم تجترح الحكومة سوى إجراء واحد تقريبًا، وهو واحد من أهم القرارات على الإطلاق بالنسبة إلى السينما الدعائية في إيطاليا ذلك الوقت، حين أمّمت “معهد الضوء (Istituto Luce)” ليكون المسؤول عن إنتاج وإصدار الأفلام التعليمية والدعائية، بالإضافة إلى تكليفه بمهمة إنتاج الأفلام الإخبارية (Newsreels) التي طُلب من جميع دور السينما عرضها.
لكنه على الناحية الأخرى لم يوقف عرض الأفلام الأجنبية، وكان متسامحًا مع غزوها للسوق، في حين أفادت الأفلام/ النشرات الإخبارية الدعاية الفاشية كوسيلة للترويج، بيد أن الحكومة كانت ترى أن الهدف الأساسي للسينما هو الترفيه، وتماشيًا مع تركيز الفاشية الأوسع على الترفيه عن الجماهير، كان النظام مقتنعًا بالسماح له بالقيام بذلك، ربما كوسيلة للتشتيت أو الإلهاء المحبّب، الذي من الممكن أن يؤثر بشكل ما على الجمهور أو يخفّف من غضبه.
تهاوت الصناعة أكثر مع الكساد، أُغلقت بعض شركات الإنتاج، حتى قررت الدولة التدخل عام 1931، وخصّصت 10% من شبّاك التذاكر للشركات التي تثبت قدرتها على تلبية أذواق الجمهور، بشرط أن يكون فيلمًا واحدًا على الأقل من كل 10 أفلام إيطاليًّا، ثم رفعت النسبة إلى واحد من كل 4 أفلام عام 1933.
في العام نفسه أصبح من غير القانوني عرض أي فيلم بلغة أجنبية غير مدبلج للإيطالية، ووفّرت الضريبة المفروضة على دبلجة الأفلام الأجنبية عائدات إضافية للصناعة، ورغم كل هذه الإجراءات فإن أكبر استوديو سينمائي في إيطاليا، The Cines Studios، أفلس عام 1933.
منعطف جديد
بداية من هذه النقطة تغيّر كل شيء، بدأت الدولة تنخرط جديًّا في الصناعة السينمائية، وضخّت أموال من رأس مالها الخاص لإنقاذ استوديو Cines، وكان الهدف من الإنقاذ هو إعادة تنظيم صناعة السينما عام 1934، ومنح الدولة دور أكبر بكثير من ذي قبل، وعلى غرار تلك الخطوة أنشأت الدولة إدارة عامة للتصوير السينمائي (Directorate for Cinematography) برئاسة لويجي فريدي.
بدأت الدولة تأخذ خطوات أكبر في الهيمنة الكاملة على الصناعة، حين نقلت مسؤولية الرقابة على الأفلام إلى وزارة الصحافة والدعاية لتكون تحت عينها، وفي عام 1935 أنشأت الوكالة الوطنية لصناعة السينما (ENIC)، ما أعطى الدولة دورًا جذريًّا في إدارة الصناعة من الداخل، بالإضافة إلى مبادرتَين أبرزتا ملامح المشروع السينمائي، إنشاء مدرسة أفلام جديدة “المركز التجريبي للسينما (The Experimental Centre of Cinema)” عام 1935، إلى جانب الاتفاق على بناء منشأة إنتاج جديدة واسعة في ضواحي روما، بعد حريق استوديو Cines عام 1935.
اُفتتح استوديو Cinecitta من قبل موسوليني في 28 أبريل/ نيسان 1937، واستولت عليه الدولة عام 1938، والجدير بالذكر أن استوديو Cinecitta هو المنشأة الأفضل في أوروبا على مستوى التجهيزات الإنتاجية، ما دفع عجلة الإنتاج بشكل هائل وأوفى بكل المعايير الاقتصادية التي تحكم الصناعة، لتهيمن على إنتاج ثُلثَي الأفلام الإيطالية، لتصدر الحكومة قرارًا عام 1938 باحتكار شركة ENIC المملوكة للدولة لتوزيع الأفلام في إيطاليا، وعلى إثره انسحبت الأربع شركات الكبرى التي مثلت واردات هوليوود من إيطاليا، الذي بدوره أثّر على عدد الأفلام الأجنبية، وحفّز الإقبال على الأفلام المحلية.
الحقيقة، برنامج التحديث والتجديد في البنية التحتية للصناعة وإدارتها لم يكن موجّهًا نحو إنتاج سينما دعائية، بل نحو تمكين الاستوديوهات الإيطالية من إنتاج أفلام قادرة على التنافس مع منتج هوليوود، بيد أنهم لم يتخلوا عن السينما كوسيط دعائي، وحاولوا استغلاله بشكل يسمح لهم بتمرير الأفكار الوطنية والعسكرية، وفي ذلك يذكر نيكولاس ريفز في كتابه:
“أُنتجت بعض الأفلام الدعائية، وفي السنوات التي تلت عام 1930 ركزت 4 أفلام على الثورة الفاشية، بينما سيطرت القيم الوطنية أو العسكرية على 30 فيلمًا آخر. كانت أيديولوجية هذه الأفلام متوافقة بالتأكيد مع الفاشية، ولكن ما إذا كان من الممكن تصنيفها جميعًا بدقة على أنها دعاية فاشية يبقى أمرًا مفتوحًا على الأقل للتساؤل. ولكن حتى لو شوهدت بهذه الطريقة، فإن 34 فيلمًا تمثل أقل من 5% من العدد الإجمالي للأفلام الإيطالية المنتَجة في السنوات 1930-1943؛ تتوافق الغالبية العظمى من الأفلام بشكل وثيق مع نموذج هوليوود الذي سعى فريدي بجدّ لاتباعه”.
طلقة مسدس (A Pistol Shot)، 1942.
دون أدني شك فأن هناك لَبسًا واضحًا في موقف السينما الإيطالية تجاه الفاشية، بيد أن تفكيك وفصل الهوية السينمائية عن ظروفها وسياقها السياسي والاجتماعي يظلمها في الأساس، فنحن لا نستطيع أن نجرّد السينما الإيطالية العظيمة من تراثها العظيم، حتى لو ارتبط هذا التراث -بالضرورة- بالنظام الفاشي، فالسينما الإيطالية لم تقف عند الموقف السياسي أو تخلق تحديًا مباشرًا مع السلطة، بل فضّلت الاقتراب أكثر من الهوية والهوى الإيطالي، واستكشاف الجوانب المركزية لليومي، مثل تفكيك المجتمع ببساطة عن طريق الفرد والعمل والوضع الاقتصادي المرصود بوضوح داخل سرديات تتعلق بالفروق الطبقية والجنسية، إلى جانب التركيز على الصراع بين القيم الريفية والحضرية.
وربما صبّت تلك النوعية السينمائية في مصلحة الدولة الفاشية، لأنها نوعًا ما أبرزت الشعور بالهوية الوطنية، والشيء الأكثر أهمية هنا أن السينما الإيطالية لم تؤسّس لأيديولوجية فاشية صريحة، لكنها على النقيض لم تتحدَّ تلك الأيديولوجيا بشكل مباشر أو غير مباشر إلا في خفقات قليلة.
بيد أنها بعد ذلك تحدّت النزعة المحافظة والسائدة، بإجراءات منها تأسيس اثنتَين من المجلات السينمائية، مجلة “سينما (Cinema)” تأسّست في يوليو/ تموز 1936، ومجلة “أسود وأبيض (Bianco e Nero)” تأسّست عام 1937، اللتين كانتا تضخّان الثقافة وتبثّ روح النقاش والجدال حول طبيعة وروح السينما.
إلى جانب مدرسة السينما التي كانت تدرّس مناهج تتجاوز حدود العقيدة الفاشية، وتنطلق إلى آفاق سينمائية أجنبية وفريدة، غير منغلقة على ذاتها ومناهجها، لأن الأساتذة والمدرّسين كانوا منظّرين ماركسيين وأساتذة في السينما يمنحون ولاءهم للفن أولًا، فانفتحوا على الروس مثلًا، خصوصًا آيزنشتاين، وكانت سينماهم دائمًا منشغلة بالواقع والرصد الاجتماعي، وحتى مع وجود سلطة فاشية تمَّ إنتاج سينما مهمومة بالواقع، كانت نواة فيما بعد للموجة الأشهر، سينما الواقعية الجديدة، وأرست بعض التيمات الواضحة للموجة:
“بين عامَي 1940 و1943، بدأ عدد من المخرجين مثل ريناتو كاستيلاني في “طلقة مسدس (A Pistol Shot)” عام 1942 أو لويجي كياريني (مدير مدرسة السينما) في “شارع فايف مونز (Fife Moons Street)” عام 1941، بتركيز كاميراتهم مرة أخرى على الحقائق المادية للمشهد الإيطالي، وإعادة اكتشاف -على الأقل جزئيًّا- العالم خارج الاستوديوهات التي كانت سمة من سمات عمل صانعي أفلام نابولي السابقين”.
“كان فرانشيسكو دي روبرتس مسؤولًا عن وحدة تصنع أفلامًا وثائقية داخل وزارة البحرية، وفي عام 1941 صنع فيلم Men on the Bottom بطريقة لا تختلف عن تلك التي استخدمها صانعو الأفلام الوثائقية البريطانية في زمن الحرب، فقد وظف غير محترفين في فيلم عن إنقاذ رجال محاصرين تحت الماء أثناء تمرين بحري، كان لنهج دي روبرتس تأثير هائل على الشاب روبرتو روسيليني الذي صنع فيلمه الأول “السفينة البيضاء (The White Ship)” عام 1941 تحت إشراف دي روبرتس”.
“جمع روسيليني فريقه غير المحترف من طاقم سفينة المستشفى والسفينة الحربية التي كانت في مركز السرد، وصوّر فيلمه بالكامل في الموقع، ودمج بمهارة لقطاته الجديدة مع لقطات واقعية لمعركة بحرية، وفي حين أن فيلمَي روسيليني المتبقيَّين في زمن الحرب، “عودة طيار” (1942) و”رجل الصليب” (1943)، عادا إلى الأساليب التقليدية في صناعة الأفلام، بدأ صانعو أفلام آخرون أيضًا في استكشاف إمكانات السينما الجديدة”.
دخل بعد ذلك مخرجون آخرون عظماء، وأضافوا كثيرًا للسينما الواقعية الجديدة، أمثال فيتوريو دي سيكا، ولوتشينو فيسكونتى الذي عاش حياة الأرستقراطيين الأثرياء في باريس، حتى التقى بالفنان العبقري جان رينوار وعمل معه كمساعد مخرج ثالث، ليعود إلى إيطاليا محمّل بالفن، مقتنعًا بقدرة السينما على كشف الحقائق.