إن الإسلامَ تصورٌ شاملٌ للكون والحياة والإنسان، ومن خلال هذا التصور (العقيدة) تنبثق الطريقة التي يجب على المسلم أن يمضي بها في الحياة لأداء دوره المطلوب.
ومن بديهيات التصور الإسلامي أن هذا الكون وما فيه ومن فيه إنما هم مخلوقات الله عز وجل، وأن هذا الكون لا يستقيم على منهج سوى منهج الله عز وجل، فإن كان ثمة انحراف ذاق الناس سوء أثره بقدر ما اقترفوه لعلهم يعقلون فيرجعون {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
لهذا فإن الافتراق الأول والأكبر بين الإسلام وبين المناهج المادية هو في “مصدر العلم”، فبينما تقصره المناهج المادية على الكون وما تُدركه الحواس، فإن العلم في الإسلام له مصدران: الوحي والكون، فالوحي هو ما لا طاقة للإنسان بأن يصل إليه بمجرد العقل وفيه الإجابة عن الأسئلة الكبرى وتحديد للغايات والطرائق المسلوكة الموصلة إليها، والكون هو موضع التأمل والتدبر والتعلم والعمل، ومن ثَمَّ فإن إسلامية العلوم “إنما تعني إيجاد علاقة بينها وبين السنن الإلهية التي جاء بها الوحي في الكون والإنسان والاجتماع، وكذلك توظيف هذه العلوم والمعارف – عن طريق أسلمة فلسفتها – لتحقيق المقاصد والغايات الشرعية التي حددها الوحي”[1].
هذا الافتراق في التصور (العقيدة) يؤدي إلى افتراق في كل شيء بعده، فلو ضربنا مثلاً بعلم الاقتصاد، وكيف يؤثر “التصور” في التفسير ومن ثم في إيجاد الحلول، فسنجد أنه:
- طبقًا للرؤية المادية: فالاقتصاد هو العلم الذي يحاول التوفيق بين الموارد المحدودة في الكون والحاجات غير المحدودة للإنسان، ومن ثَمَّ لا يبعد أن تجد بين الماديين واحدًا مثل مالثوس يقول إن الحروب والنزاعات إنما هي “حلول” تعيد الطبيعة بها تنظيم نفسها ومواردها، وإن الجوع والمرض والموت إنما هي “موانع إيجابية” في مقابل “الموانع السلبية” التي هي تأخير الزواج والشذوذ الجنسي، وهو ما أعطى – بشكل عملي- مبررًا قويًا لكثير من الحروب وعمليات الإبادة، حيث اعتبر بعض القادة الغربيين في كثير من حروبهم أن هذا قدر محتوم؛ لأن الطبيعة تعيد تنظيم نفسها، كذلك اقترح مالثوس أن أجرة العامل يجب ألا تتجاوز حد الكفاف كي لا يتكاثر كما يحلو له، واقترح ألا تنفق الدولة على العاطلين لئلا يشجعهم ذلك على الكسل وعلى إنجاب أبناء يزيدون من “الأفواه” أكثر من زيادة “الطعام”، واقترح أيضًا وقف الإعانات عن الفقراء، ووضع العوائق أمام الزواج المبكر لخفض نسبة المواليد، وكانت مثل هذه الاقتراحات مبررات ذهبية للبرلمان البريطاني ليبرر تخفيض إعانات الفقراء وإعانات البطالة وإعانات المرضى والمحتاجين، ولأصحاب المصانع للحفاظ على حد أدنى للأجور، لقد تلقوا آراء مالثوس كما يقول ول ديورانت: “كوحي إلهي مقدس”[2].
- بينما الأساس الإسلامي لعلم الاقتصاد قائم على أن الله عليم خبير حكيم، لم يكن ليخلق خلقًا ثم لا يجعل لهم رزقًا، كما أن الله هو الرزاق، وأن كل دابة في الأرض إنما على الله رزقها، وأنه ما يظهر من فساد في الموارد فإنه بما صنعت أيدي البشر، وأن السماوات والأرض مكنوزة بالثروات {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [الأعراف: 96]، ومن ثم يكون الحل في الضرب على أيدي ذوي الأطماع والمفسدين والسائرين في الناس بما يضخم ثرواتهم على حساب مصالح البشر، فيقف الإسلام ضد الربا والغش والاحتكار والتطفيف، ويفرض الزكاة ويحث على الصدقة ويصنع مؤسسات التكافل والوقف، ولا يمكن أن يصدر عن عالم مسلم مثل الذي صدر عن مالثوس أو فرانسيس بيلاس[3] وأمثالهما.
فبأثر من الخلاف في التصور يكون الخلاف في البحث عن الحلول وإدارة وتنظيم المؤسسات ووسائل الرقابة وأدوات العقاب.
إذن فالتصور الإسلامي للعلم، أو “فلسفة العلم في الإسلام”، تجعل العلم مؤسسًا على تصور كوني شامل، يحدد أهدافه وغاياته، وضوابطه وقيوده، وبالإجمال فإن:
- غاية الغايات عبادة الله وإرضاؤه عبر القيام بواجب الاستخلاف في الأرض بإصلاحها وإعمارها {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] وإنقاذ الإنسانية والارتقاء بها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
- وأهم الضوابط والقيود هو الالتزام بأوامر الله ورسوله، فلا يُسلك إلى الغاية العظيمة طريق الشر والسوء، ولا تنتهك الأخلاق في سبيل المنفعة، ولا يُقصد إلى الهدف بمنهج وأسلوب يخالف ما أنزله الله في كتابه وقرره رسول الله في سنته {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31]
هذه الغاية الكبرى وهذا الضابط الأهم قد جمعتهما آية في كتاب الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
هذا هو الإجمال، ونتناول هذا الأمر بنوع تفصيل في المقالين القادمين إن شاء الله تعالى.
——————————————–
[1] د. محمد عمارة: إسلامية المعرفة ماذا تعني ص12.
[2] ول ديورانت: قصة الحضارة 42/251 – 253، 42/381 – 389، وانظر: رونالد سترومبرج: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص338، رشيد الحمد ومحمد سعيد صباريني: البيئة ومشكلاتها ص112، جان ماري بيلت: عودة الوفاق بين الإنسان والطبيعة ص27.
[3] فرانسيس بيلاس: مصلح (!) اجتماعي إنجليزي، محسوب على الليبرالية المتطرفة (!)، ورغم هذا دعم قانون الفقراء (1834م)، ومن أقواله: “إن توفير المزيد من الخدمات الاجتماعية للفقراء من العمال سيشجعهم على الإهمال والكسل، وسينتهي بالمشروعات القائمة إلى الخراب”. رونالد سترومبرج: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص338.