استبشر المغاربة خيرًا بعد التساقطات المطرية التي شهدتها مؤخرًا العديد من مناطق المملكة خلال الأيام الأخيرة، حيث كان للجفاف الاستثنائي خلال الموسم الماضي عواقب وخيمة على الاقتصاد المغربي، الذي لم يَكَد يتعافى من الوباء حتى استفحل غلاء المعيشة، وأدّى ذلك إلى إلقاء 3.2 ملايين شخص إضافي في براثن الفقر أو الضعف، طبقًا لأرقام حكومية.
ليس هذا فحسب، بل إن تضرُّر الزراعة البعلية بالتغيرات المناخية، بما في ذلك شحّ المياه وضعف المحاصل الزراعية، قد يؤدّي إلى نزوح 1.9 مليون مغربي من الأرياف إلى المدن (5.4% من إجمالي السكان) بحلول عام 2050، وذلك لأن الزراعات البعلية لا تزال تمثل 80% من المساحة المزروعة في البلاد، وتشتغل بها معظم القوى العاملة الفلاحية.
طوارئ مائية
شحّ المياه له تأثير محتمَل على كل جانب من جوانب التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستقبلية، وقد حذّر خبراء البنك الدولي من السرعة التي يقترب بها المغرب من الحدّ المطلق لندرة المياه البالغ 500 متر مكعب للفرد سنويًّا، علمًا أن هذا المعدل كان يبلغ 2600 متر مكعب عام 1960، بالتالي يعتبَر المغرب أحد أكثر البلدان شحًّا في المياه، حيث إن تزايد حدة الجفاف له تأثير كلّي على الاقتصاد ويشكّل مصدر تهديد مباشر للأمن الغذائي.
منذ 4 عقود لم يشهد المغرب جفافًا بهذه الحدة، وقد فرض هذا الوضع على الحكومة إعلان حالة الطوارئ المائية، وفي ذلك دعوة إلى المواطنين للإحجام عن ممارسة أي شكل من أشكال التبذير حفاظًا على الموارد الحالية من المياه لتوزيعها العادل، لكن كيف السبيل إلى ذلك والمغرب يبيع المياه التي يفتقدها على شكل فاكهة؟
يحذّر الخبراء من عواقب الزراعة كثيفة الاستهلاك للمياه، بما فيها تصدير الطماطم والبطيخ والفراولة والبرتقال والأفوكادو، والتي تتجه في الغالب نحو التصدير بدلًا من الاكتفاء الذاتي، خاصة أن الضيعات الفلاحية الكبرى التي تعتمد على هذا النوع من الزراعات تكفي لتجفيف كل شيء.
زراعة لا يحتاجها المغاربة
في عام 2008 أطلق المغرب “المخطط الأخضر” الذي حقق نجاحًا لا يمكن إنكاره، من حيث إنماء الناتج المحلي الإجمالي الفلاحي بنسبة 5.25% سنويًّا، وارتفاع الصادرات بـ 117%، وأيضًا خلقت هذه الاستراتيجية ما لا يقلّ عن 340 ألف فرصة عمل، لكن في الوقت نفسه تصاعد استنزاف الموارد المائية بشكل رهيب.
أكثر من ثلاثة أرباع احتياطات المياه تستنزفها الفلاحة، أو بالأحرى تُهدر هذه المياه على زراعات لا يحتاجها المغاربة للأمن الغذائي، سوى أنها تدرّ أرباحًا ضخمة على المزارعين الكبار، في حين أن العديد من المناطق تجدُ صعوبة بالغة في توفير احتياجاتها من الماء للشرب والاستهلاك المنزلي، مثلًا منطقة زاكورة (جنوب المغرب)، والتي بدورها تعاني من جفاف هيكلي، تستهلك في ريّ البطيخ الأحمر 10 أضعاف ما يستهلكه السكان.
المغرب الذي أصابه الفقر المائي، اختار ضمن خطة “المغرب الأخضر” زراعة منتجات ذات كلفة مائية باهظة، ليس من أجل الأمن الغذائي ولكن لرفع عائدات الصادرات، معوّضًا بذلك الأراضي التي كانت تزرَع فيها الحبوب بالفراولة والبطيخ والأفوكادو، هذه الأخيرة يكلف الكيلوغرام الواحد منها في الريّ من 600 إلى 1000 لتر من الماء، في حين أن الإنسان يستطيع أن يعيش مستغنيًا عن هذه الثمار لكنه لن يستطيع البقاء من دون الماء.
استراتيجية ذات أضرار
لكن ما السبيل إلى ترشيد استغلال ما بقيَ من مخزون المياه؟ خاصة أن مخزون المياه الجوفية انخفض إلى 7 أمتار (منسوب الآبار)، ولا تعدّ المياه الجوفية أكبر مصدر للمياه العذبة بالنسبة إلى البشرية فحسب، بل إن المائي مرتبط أساسًا بالحفاظ على هذا المخزون الذي كان إلى وقت قريب يشكّل 30% من جميع المياه العذبة في العالم.
استعادة زراعة الحبوب في الأراضي التي أصبحت مخصّصة للفواكه والخضروات المبذّرة للمياه سيكون لها تأثير مفيد، ليس في الحفاظ على مخزون المياه فقط، بل حتى ضمان الأمن الغذائي في المستقبل، بالنسبة إلى بلد يعتبر ثالث مستهلك للقمح في أفريقيا، حيث يتجاوز الاستهلاك 100 مليون قنطار في العام، علمًا أنه يعدّ من بين العشر دول في العالم الأكثر استيرادًا للحبوب.
استراتيجية “توفير وتخزين المياه” التي تبنّاها المغرب منذ سنوات أدّت إلى نتائج عكسية، جعلت الفلاحين، خاصة الصغار منهم، أكثر اعتمادًا على هطول الأمطار وأكثر عرضة للجفاف، وربما تكون سياسة الري الحالية قد عمّقت التفاوتات الاجتماعية، فهي تفيد فقط المقاولين والفلاحين الكبار الذين يعطون أولوية الريّ للصادرات.
السدود ليست هي الحل
لم تعد السدود هي الحل بعد الآن، فنسبة الملء في أحسن الظروف لا تكاد تتعدّى نصف الحقينة، في حين أن الغاية الرئيسية من السد هي درء آثار الجفاف الموسمية، لكن عندما يصبح الجفاف هيكليًّا، تصبح السدود عديمة الفائدة بسبب انحسار هطول الأمطار لسنوات عديدة، وعندما تأتي الأمطار بغزارة فإنها تهطل على فترات قصيرة بطريقة تدميرية، بالتالي يصعب تخزين مياه هذه الفيضانات بشكل مناسب.
ولا يزال نظام الري بالتنقيط غير شائع في معظم الأراضي السقوية، رغم أنه أثبت نجاعته في اقتصاد مليارَي متر مكعب من المياه الموجّهة للريّ، وتبلغ مساحة الأراضي التي يتم سقيها عن طريق السقي بالتنقيط إلى حد الآن، ما يناهز 700 ألف هكتار من أصل 1.6 مليون هكتار من الأراضي السقوية.
تحلية مياه البحر هي أيضًا عامل مساعد، رغم تكلفتها الباهضة التي تخدم كبار المصدّرين، أما الفلاحون الصغار فلا قلب لهم بتأدية 5.4 دراهم للطن الواحد (نصف دولار)، في حين أن السقي بالمياه السطحية (السدود) لا تكاد تكلفتها تتجاوز درهمَين و3 دراهم للطن الواحد من المياه الجوفية.
يجب أن نعي كذلك أن ندرة المياه مرتبطة بالطلب على الماء وكيفية إدارته، لهذا يحتاج المغرب إلى سياسة مائية جديدة تراعي مخاطر التغيرات المناخية المحتملة، وتجعل من الفلاحة محركًا للاقتصاد والتنمية الاجتماعية، والأهم من هذا كله هو تحقيق المساواة في الحصول على المياه.