تبتكر حكومة الوحدة الوطنية الليبية أدوات ضغط بين الفينة والأخرى تدخلها على رقعة المعترك السياسي، حسب تعرّجات المختنق الذي تعيشه البلاد، وما فتح قبر “لوكربي” بعد دفنه لسنين إلّا تجلٍّ لواحدة من أهم نقاط الضغط التي سيستغلها الدبيبة للتلويح بها وبسلسلة شخوصها، كضمانة لعدم لتسليم السلطة لغرمائه إلى حين إجراء انتخابات عامة.
في المقابل، استثمر منافسو الدبيبة موضوع “لوكربي”، لجعله حجر عثرة في طريق حكومة الوحدة، وسط مساعٍ أممية مضنية لإجراء انتخابات عامة تقطع مع تنازع الشرعيات السياسية والعسكرية، المتواجدة حاليًّا على الساحة في طرابلس وسرت وبنغازي.
فتحَ الدبيبة الملف الذي قُبر منذ عقود بعد صفقة مالية مع نظام العقيد القذافي.. فما مبررات صعوده إلى السطح؟
ورقة ضغط للدبيبة
تصعيد جديد في الأزمة الليبية، يبدو كخطيئة من رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، أو هكذا يريد التيار السبتمبري إخراجها، في قضية إعادة فتح ملف إسقاط طائرة “البنام” الأمريكية فوق مدينة لوكربي الإسكتلندية عام 1988.
لكن في المقابل، تبدو العملية ضريبة لا بدَّ منها من الدبيبة، إنها رسائل مقدرة على المناورة السياسية والمساومة بالملفات المليئة والملغّمة القادرة على قلب الطاولة على الخصوم، لضمان استمرار المسار الديمقراطي الذي يتمّ عرقلته من مجلس النواب الموالي لحفتر وحكومته التي يرأسها فتحي باشاغا، التي تحاول بكل الطرق سحب البساط من الدبيبة عبر طبخات وصفقات تُديم بقاءهم في السلطة، ولا تولي أي اهتمام للانتخابات المؤجّلة.
ولهذا ندّد كل من البرلمان ومجلس الدولة بتسليم أبو عجيلة المريمي للجانب الأمريكي، وهما المجلسان اللذان يرغبان في التمديد لنفسيهما في السلطة، وهو ما جعل أيضًا رئيس الحكومة المعيّنة من البرلمان، فتحي باشاغا، يشعر بالقلق ويندد بخطوة حكومة الوحدة.
تبدو حكومة الوحدة متوافقة مع الجانب الأمريكي في تشخيص عملية تسليم المريمي، إذ جرى التركيز على وصف الخطوة بالقانونية والجنائية بعيدًا عن التسييس.
كما يبدو فتح ملف “لوكربي” مقاربة أو تكتيكًا جديدًا، ضمن سياق توسيع التحالفات تحسُّبًا لعدم إجراء الانتخابات، حيث انتهجت دبلوماسية الدبيبة منذ فترة طريق الانفتاح أكثر ما يمكن خارج أسوار العاصمة طرابلس، المحاصرة من منافسي الداخل.
ضمن هذا الإطار وطّد العلاقات مع البلدان المجاورة، كسب ودّ النظام الجزائري، وأعاد العلاقة السياسية والاقتصادية مع تونس متجاوزًا أزمة ما بعد إعلان قيس سعيّد إجراءاته الانقلابية، وهو التعاطي نفسه مع الأوروبيين، بدءًا بالانفتاح على كل من إيطاليا وبريطانيا ومالطا.
وأخيرًا آن أوان التحالف مع الأمريكيين، من خلال إعادة فتح ملف أزمة “لوكربي”، عبر تسليم أبو عجيلة مسعود المريمي، العميد في المخابرات بحقبة العقيد معمر القذافي، وهو صهره أيضًا وحارسه الشخصي الذي عمل بوكالة الأمن الخارجي.
ورغم حملة الانتقادات التي وُجّهت للدبيبة لتسليمه المريمي لواشنطن، فإن تبريرات حكومة الوحدة لم تكن مقنعة لأنصار النظام السابق، رغم تأخُّر الخطوة عقب إصدار شرطة الإنتربول لائحة الجلب منذ بداية السنة الحالية، وذلك ضمن مسار جنائي لا علاقة له بالتسوية السياسية القديمة للقضية.
وتبدو حكومة الوحدة متوافقة مع الجانب الأمريكي في تشخيص عملية تسليم المريمي، إذ جرى التركيز على وصف الخطوة بالقانونية والجنائية بعيدًا عن التسييس، وقد وصف الدبيبة المريمي بالإرهابي الذي صنع قنبلة كانت وراء تفجير طائرة “البنام” الأمريكية، ما أدّى إلى إزهاق روح 259 شخصًا، 190 منهم أمريكيين، لكن صفحة القضية طويت منذ عام 2008 عبر صفقات سياسية تقضي بدفع النظام الليبي السابق مليارات الدولارات من قوت الليبيين لأسر الضحايا.
ولئن لازم الجميع الصمت خلال العهد السابق، فإن هذه المرة شنَّ السبتمبريون حملات تهجُّم عنيفة على الدبيبة، بل خرجوا في مظاهرة في قلب طرابلس، وكالوا أعنف الشتائم للحكومة، متّهمين إياها بخرق سيادة البلد، في تناقض تامّ مع انتقاداتهم الدائمة لثورة فبراير، حيث كانوا يعتبرون أن سيادة ليبيا مخترَقة منذ عام 2011.
يرى القذافيون أن الدبيبة قام بتسليم المريمي بهدف الاستقواء بالأمريكيين، خاصة مع فقدان حفتر وزنه لدى واشنطن
ويرى كثيرون أنه لا يمكن فصل الطابع السياسي عن فتح قبر “لوكربي” بعد دفن القضية لعقود، لهذا عادت مسألة تجيير الملف سياسيًّا، حيث أُغلق بقرار سياسي، ويعاد فتحه بقرار سياسي أيضًا، كورقة ضغط من الدبيبة على منافسيه الرافضين تسليم السلطة لحكومة منتخبة، وعلى أساس دستوري ديمقراطي لا يسمح بعودة الاستبداد إلى حُكم البلاد.
واستغلَّ أنصار النظام السابق الظرفية الحالية، المتزامنة مع جهود أممية لتنظيم انتخابات ليبية، تسعى فيها لإنهاء المراحل الانتقالية والقطع مع الوجوه القديمة، وهو ما يخشاه مريدو النظام السابق من تبخُّر حلمهم بالتسلُّل إلى المشهدية السياسية مجددًا، عبر مرشحهم سيف الإسلام القذافي.
في إطار هذه السردية التآمرية والمؤامرتية، يرى القذافيون أن الدبيبة قام بتسليم المريمي بهدف الاستقواء بالأمريكيين، خاصة مع فقدان حفتر وزنه لدى واشنطن، كمواطن أمريكي ملاحَق قضائيًّا بتهم ارتكاب جرائم حرب في عدة مدن ليبية، كترهونة وبنغازي، وذلك من بين أسباب السكوت المطلق والصمت المطبق لحفتر على تسليم المريمي.
كما يتجنّب حفتر معاداة أمريكا خشية التصعيد ضده، وهو الذي يتحالف مع مرتزقة “فاغنر” الروس، الذين تكنّ لهم الولايات المتحدة العداء كمنافس لهم على الساحة الليبية، بالتالي إن صمت حفتر ليس حبًّا في الدبيبة حتمًا، إنما تجنبًا للتصعيد مع أمريكا، وبدرجة ثانية الحفاظ على قدر من التهدئة وعدم تأجيج العداء لتيار القذافي، حيث يجمعهما النفوذ السياسي في الجنوب خاصة وسرت شمالًا، بعد فشل التحالف معهم خلال اجتياح طرابلس عام 2019.
وبعيدًا عن طبيعة تسليم المريمي عمّا إذا كانت جنائية أو سياسية، فإنه من غير الخفي على أنصار النظام السابق رغبتهم في عدم تحسُّن العلاقات بين حكومة الوحدة وواشنطن، بل في محاصرتها والتضييق عليها في إطار مساعي الثورات المضادة.
لذلك أقام أنصار النظام الدنيا ولم يقعدوها في حملة جديدة لتوجيه الرأي العام ضد الحكومة، فروّجوا لنيّة تسليم الدبيبة للرجل الأهم في نظام القذافي، وهو رئيس المخابرات السابق، عبد الله السنوسي، الذي يعتبَر الكنز الدفين، وبنك المعلومات الذي لا يُقدَّر بثمن بالنسبة إلى الولايات المتحدة، لإلمامه بكل المعطيات عن كارثة “لوكربي”.
حكم عليه بالإعدام رميا بالرصاص رفقة #سيف_الإسلام_القذافي.. من هو #عبد_الله_السنوسي رئيس الاستخبارات الليبية سابقا؟#ليبيا#الحدث pic.twitter.com/zfwMHQn0BG
— ا لـحـدث (@AlHadath) August 13, 2021
وبشكل عام، أصبح الآن أبو عجيلة المريمي بين يدَي العدالة الأمريكية، ولربما تمكّن الدبيبة من التجديد لنفسه في مناورة منه، ونكاية في خصومه الذين يعتبرونه منتهي الولاية.
ولعلّ التصريح غير المسبوق لرئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، عن تحديد موعد للانتخابات لا يتجاوز أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، يعدّ أحد مكاسب الضغوط المسلَّطة من حكومة الوحدة، خاصة أن الحوار بشأن إعداد قاعدة دستورية تنهي الأجسام السابقة منقطع بين البرلمان والمجلس الأعلى للدولة منذ شهر، أي مع بداية أزمة تسليم المريمي.
ما وراء الأكمة
يبدو أن الغُرَماء أكلوا الطُّعم، وأصبح ديدنهم الدفاع عن بقية المتهمين في “لوكربي”، حيث ضريبة تأجيل الانتخابات سيكلّفها الدبيبة غاليةً على الخصوم نظير عبادتهم الكراسي، فإذا استخدم النظام السابق ملف “لوكربي”، أو ربما كان وراء خلقه أصلًا، أليس من حق الدبيبة الاستثمار فيه؟
يؤكد رئيس حكومة الوحدة أن سبب التسليم قانوني بالأساس ولا هدف سياسي فيه، ويبدو أن الدفاع الأمريكي على القرار الطرابلسي ينمّ عن توافق بين الجانبَين، بعيدًا عن إعادة مسألة التعويضات، كما أكدت السفارة الأمريكية.
بيد أن ما وراء الأكمة أمور عدة، مثل التغطية على حيتان سمينة أخرى لا يراد تسليمها، لذا كثّف القذافيون تحركاتهم للترويج لإشاعات وشيطنة تسليم مطلوبين آخرين، أو حتى الإفراج عن مساجين لا يزالون لدى القضاء الليبي.
ويظلّ التخوف الأكبر من تورُّط جنائي لرموز كبرى في نظام القذافي لا تزال متهرّبة من القضاء الليبي قبل القضاء الدولي، مثل سيف الإسلام المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، وقد ذكرت المحكمة قبل سنة أن مذكرة اعتقاله لا تزال سارية المفعول.
ولربما جاء تسليم ضابط المخابرات المريمي رسالة تحذيرية غير مباشرة لمن تسول له نفسه العودة إلى المشهد السياسي بعد الثورة الشعبية عليهم، ولهذا طالب الدبيبة قبل يومَين سيف الإسلام القذافي بالامتثال لمحكمة الجنايات الدولية، وذلك بعد أيام من الحديث عن ظهوره لتوضيح موقفه السياسي ممّا يجري.
إلا أنه غالبًا ما ارتبط الظهور السياسي للموالين للنظام السابق إما بإحياء ذكرى سبتمبر، وإما من خلال بعض الأحداث العسكرية مثل إعلان مساندتهم للهجوم على طرابلس قبل 3 سنوات، خاصة من خلال ظهور نجل القذافي، سيف الإسلام، عندما أعلن نيته الترشح للانتخابات الرئاسية المؤجّلة.
إذن، تسليم أبو عجيلة المريمي ضربة مسبقة لأنصار القذافي، وورقة مفاوضات قادمة لصالح الدبيبة في حال تنظيم أي انتخابات، ما أثار قبيلة القذاذفة التي خرجت للمطالبة بالإفراج عن الضابط، والتسويق لتسليم السنوسي المطلوب أيضًا للمحكمة الجنائية الدولية لقمعه متظاهري بنغازي خلال عام 2011، ناهيك عن قمع سجناء ليبيين مع بقية أركان النظام ومنهم سيف الإسلام.
شاهد | نائب رئيس المجلس الانتقائي السابق عبدالحفيظ غوقة: رئيس الاستخبارات بعهد القذافي عبدالله السنوسي هو المسؤول الأول عن مذبحة أبوسليم ولم يكن هناك حكم بالبراءة كما تدعي ابنته وحكم الإدانة بالإعدام صادر من قبل المحكمة العليا#ليبيا pic.twitter.com/RufjvwTMv1
— قناة فبراير (@FebruaryChannel) August 14, 2021
كما ترغب فرنسا في محاكمة السنوسي منذ عام 1999 بعد حكم غيابي يحمّله المسؤولية عن تفجير طائرة فرنسية فوق النيجر.
وبالتالي لا غرابة أن يصف منافسو الدبيبة خطوته بـ”فتح باب جهنم” عليهم، خاصة أن انتقادات تسليم المريمي لم تحظَ بالتعاطف نفسه مع كارثة إسقاط الطائرة الليبية بوينغ 727 رحلة 1103 عام 1992، التي تمرّ ذكراها هذه الأيام، إذ كانت الطائرة متجهة من بنغازي إلى طرابلس وقُتل فيها قرابة 150 ليبيًّا، فيما وُجّهت أصابع الاتهام إلى نظام القذافي في مسعى لإلصاق التهمة بالأمريكيين.
أتنهى على فعل وتأتي بمثله؟
لسنا في وارد التذكير بأن النظام الليبي السابق كان بدوره قد سلّم مواطنَين إلى السلطات الهولندية لمحاكمتهما، وهما عبد الباسط المقرحي وخليفة فحيمة، وحينها لم يخرج أي متظاهرين للاحتجاج، هذا دون التطرُّق إلى موضوع تسليم برنامج نووي بأسره.
ورغم تأكيد مصادر أمنية وسياسية بطرابلس أن تسليم واشنطن للمتهم الليبي كان بعلم النيابة العامة الليبية، وبإجراءات قانونية سليمة دون أي تدخل خارجي، فإن التساؤل المحوري والأهم هو ما الذي كان وراء تسليم النظام لمواطنيه، وتوريطهم في تفجير طائرة وتحمُّل تداعياتها من حصار وتعويضات، دون محاسبة الضالعين، لا بل تتحمل البلاد عواقب ذلك لليوم؟
لا يُراد للانتكاسات المصطنعة ضد ثورات الربيع العربي اليوم أن تُفهَم بالأسلوب نفسه، فيتم تسويقها على أنها رفض شعبي لـ”وهم الحريات”، والحال أن الشعوب هي التي تحركت من تلقاء أنفسها.
يؤكّد معارضون للقذافي ضلوعه في دعم حركات انفصالية كان يعدّها حركات تحرر، وذلك من دول مجاورة وغير مجاورة، من السودان والنيجر إلى الفلبين، أيرلندا وفنزويلا، وقوميات أخرى، حيث دعمَهم بالسلاح والذخيرة وأغدق عليهم عشرات المليارات من أموال البترول.
وكان يبرر ذلك بنصرة حركات التحرر العالمية في مواجهة قوى الإمبريالية والاستكبار، وأصدر في ذلك قوانين عام 1981، لكن المؤرّخين أكدوا أن تلك الحركات هي مجرد مجموعات متمردة يوظّفها لأهداف سلطوية وتعزيز علاقاته معها عندما تصل إلى السلطة، مثل ما حدث مع بلدان أفريقية، على غرار دعمه انقلاب الرئيس البوركيني بليز كومباوري، الذي لم يصمد طويلًا بعد سقوط نظام القذافي.
وكانت إثارة تلك الأزمات بغية الاستفادة منها سياسيًّا، لرسم عدو خارجي وتهيئة الشعب على القبول بالسياسات في سبيل الحماية من المخاطر، وهذا أحد أهداف حصار “لوكربي” حسب كثيرين، إذ عرفت البلاد حينها أزمات أشبه أو أشد وطأة من الأزمات الحالية، تجويع وتأخير رواتب الموظفين، ونقص سيولة وتموين غذائي، وتوقف لبرامج التنمية.
سوّقت كل تلك الأزمات في العهود البائدة على أنها انتصارات وتصدٍّ ضد الطغيان العالمي، بينما لا يُراد للانتكاسات المصطنعة ضد ثورات الربيع العربي اليوم أن تُفهَم بالأسلوب نفسه، فيتمّ تسويقها على أنها رفض شعبي لـ”وهم الحريات”، والحال أن الشعوب هي التي تحركت من تلقاء أنفسها.