في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، وبنحو غير متوقع، أعاد الجيش السوداني انتشاره في الحدود الشرقية بعد 26 عامًا من انسحابه منها، ليستردَّ مساحات زراعية تقارب المليوني فدان كان يفلحها مزارعون إثيوبيون تحت حماية من جيش وقوات بلادهم.
دخل الجيش السوداني ونظيره الإثيوبي المدعوم من قوات إقليم الأمهرا في معارك عديدة، يزداد عنفها مع بداية فلاحة الأرض وموسم الحصاد الذي يُصادف عادة نوفمبر/ تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأول، وهي معارك أثّرت على علاقات البلدَين السياسية وألقت بثقلها على محادثات ملء وتشغيل سدّ النهضة، لكن في الأشهر الأخيرة انخفض معدل التوتر بعد أن بلغ ذورته في يونيو/ حزيران هذا العام.
لم يبدأ نزاع الحدود البالغ طولها 265 كيلومترًا بين الخرطوم وأديس أبابا في عام 2020، لكنها المرة الأولى التي يخوضا فيها حربًا غير معلنة على مدار عامَين.
اتفاق في غياب السودان
بدأت أولى بوادر النزاع في 15 أبريل/ نيسان 1891، عندما أرسل إمبراطور إثيوبيا، منليك الثاني، عام 1891، تعميمًا إلى دول أوروبا أعلن فيه حدود بلاده مع السودان، وقال إنها تمتد من مدينة تومات عند ملتقى نهرَي ستيت وعطبرة إلى كركوج على النيل الأزرق، وتشمل منطقة القضارف وتصل إلى الخرطوم.
الحدود السودانية – الإثيوبية
في سياق تاريخي (1)
دكتور فيصل عبدالرحمن علي طه
* في 15 أبريل 1891 بعث الأمبراطور منليك الثاني تعميماً إلى رؤساء الدول الأوربية حدد فيه الحدود الفعلية لامبراطوريته وأيضاً ما اعتبره منطقة نفوذه. ورد في التعميم أن الحدود الشمالية الغربية للحبشة تمتد+ pic.twitter.com/sCUIYJsPMC
— Dr Faisal Taha د. فيصل عبد الرحمن علي طه (@ftaha39) June 1, 2020
ويرجّح المؤرخ السوداني، فيصل عبد الرحمن، أن بريطانيا لم تعلم بالرسالة إلا بعد 6 سنوات، لتبدأ في 15 أبريل/ نيسان 1899 مفاوضات بين الإمبراطور وممثل بريطانيا جون هارنغتون، انتهت إلى رسم خط الحدود على الخريطة، وفيها وُضعت منطقة القلابات داخل السودان الذي تقاسم أيضًا مدينة المتمة مع إثيوبيا، التي مُنحت منطقة بني شنقول على النيل الأزرق، والتي تُشيّد فيها إثيوبيا الآن سدّ النهضة الضخم لإنتاج الطاقة الكهرومائية.
لاحقًا، وفي 15 مايو/ أيار 1902، وقّع الإمبراطور وبريطانيا نيابة عن السودان اتفاقية رسمية، نصّت مادتها الأولى على “أن الحدود المتفق عليها بين الحكومتَين ستكون الخط المعلّم باللون الأحمر في الخريطة المرفقة بالاتفاقية من خور أم حجر إلى القلابات، إلى النيل الأزرق، وأنهار بارو، وبيبور، وأكوبو، إلى مليلي، ومن ثم إلى تقاطع خط عرض 6 درجات شمالًا مع خط طول 35 درجة شرق غرينتش”، على أن تؤشّر لجنة مشتركة هذه الحدود.
وفي العام التالي، أي عام 1903، دعا إمبراطور إثيوبيا إلى تعديل المادة الأولى لعدم توفّره على خبراء في مسألة الحدود، لكنه سرعان ما فوّض البريطاني ميجر غوين ليقوم بوضع العلامات، واستمرَّ الوضع هادئًا لأكثر من نصف قرن.
تطور الخلافات
بعد تبادُل السودان وإثيوبيا الاتهامات بدعم كل طرف أنشطة الجماعات الانفصالية المسلحة، عُقدت في أديس أبابا في يوليو/ تموز 1965 محادثات اتفقا فيها من جملة قضايا أخرى على أن الحدود محددة في الاتفاقيات القائمة، مع التعهُّد بوضع حدّ لأي توغل يعترَض عليه من أي من الطرفَين، لكن في العام التالي لم يستأذن المزارعون الإثيوبيون السلطات السودانية في فلاحة الأرض.
يقول المؤرخ فيصل عبد الرحمن، إن مجموعة من المزارعين دخلوا إلى الأرض السودانية، يرافقهم ضابط من الجيش الإثيوبي وموظفين من وزارة الزراعة، ليوقف الأمن السوداني 300 منهم ويستولي على آلياتهم الزراعية في يونيو/ حزيران 1966، وفي نهاية الشهر ذاته عُقدت مباحثات في العاصمة الخرطوم انتهت إلى اتفاق بإنشاء لجنة حدود مشتركة مكوّنة من خبراء لتخطيط الحدود الدولية.
وفي أولى اجتماعات اللجنة، يعتقد المؤرخ عبد الرحمن أن إثيوبيا طالبت بمناطق الفشقة وأم بريقة، لكن الوفد السوداني رفض هذا الطلب، وإزاء هذا الطريق المسدود عُقد في 3 يناير/ كانون الثاني 1967 اجتماع اللجنة الاستشارية الوزارية، وفيه اتفق الطرفان على احترام الحدود القائمة واستمرار المزارعين الإثيوبيين بزراعة الأراضي الحالية إلى حين التوصُّل لاتفاق نهائي.
وبعد أشهر من هذه المباحثات، أعلن وزير خارجية إثيوبيا عدم اعتراف بلاده بتخطيط ميجر غوين للحدود، وظلت الخلافات محل شدّ وجذب بين الدولتَين إلى أن حدث اختراق في يوليو/ تموز 1972، عندما تبادل وزيرَي خارجية الخرطوم وأديس أبابا مذكرات اتفاق بشأن الحدود الشرقية، وفيها تخلت الأخيرة عن مطالبتها بالسيادة على الأراضي السودانية.
وهذا ما جرى تأكيده في عام 2008، حيث اعترفت إثيوبيا بالحدود القانونية، لكن السودان سمح للإثيوبيين بالاستمرار في العيش هناك دون عائق.
الانتقال إلى النزاع
في بداية تسعينيات القرن المنصرم، ومع اشتداد الحرب المندلعة آنذاك في جنوب السودان (انفصل رسميًّا في عام 2011)، بدأ الجيش السوداني يسحب قواته من مناطق الفشقة الكبرى والفشقة الصغرى على الحدود مع إثيوبيا، ليدفع بها إلى جبهات القتال.
استغلَّ المزارعون الإثيوبيون ونافذو حكومة إقليم الأمهرا هذا الوضع وتوغّلوا إلى داخل السودانية، مقيمين عليها عدد من المستوطنات في مساحة تقدَّر بأكثر من مليوني فدان، وذلك تحت حماية ميليشيات فانو المسلحة، وتقول عنهم الحكومة الإثيوبية رسميًّا إنهم عصابات خارجة عن القانون، فيما يقول سودانيون إنها قوات حكومية.
وهذا التغول يصاحبه اعتقاد لدى زعماء الأمهرا بأحقية بلادهم في الأراضي السودانية، ويحاججون بأن اتفاق ترسيم الحدود جرى من قبل المستعمر، وعن هذا يقول مفوّض الحدود السوداني معاذ تنقو: “مبدأ الاعتراف بالحدود التي خلفها الاستعمار تمَّ إقراره في قمة القاهرة 1963، عندما تبنّى الزعماء الأفارقة إعلان منظمة الوحدة الأفريقية، وتمَّ تضمينه في مسودة اتفاق المنظمة، ومن بعده ضمّن النص في اتفاق إنشاء المنظمة، وصادقت عليه الدول في قمة أديس أبابا 1964، وأصبح مادة في صلب ميثاق الاتحاد الأفريقي عام 1998، وكل ذلك يؤكد أنه إذا ذهبت إثيوبيا إلى التحكيم الدولي بتلك الدعاوى، فهي خاسرة”.
ومع إطلاق حكومة إثيوبيا الفيدرالية حملة عسكرية لقمع جبهة إقليم التغراي، أعاد الجيش السوداني في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 انتشاره داخل الحدود الشرقية، ليُعلن بعد 6 أشهر استعادة 95% من أراضيه عقب معارك عنيفة بين الطرفَين، لكن المعارك استمرت ونجحت إثيوبيا في وضع يدها على 500 فدان من المساحات المحررة.
أثّرت هذه المعارك على علاقات البلدَين، ووصلت إلى أعلى مرحلة توتُّر بعد يونيو/ حزيران، عندما أعلن الجيش السوداني عن إعدام إثيوبيا لـ 7 من جنوده ومواطن مدني كانوا أسرى لديه، فيما قالت أديس أبابا إن هؤلاء قضوا في اشتباكات مع ميليشيا محلية بعد توغُّلهم داخل أراضيها.
خفّت حدة التوتر في 5 يوليو/ تموز 2022، عقب لقاء مغلق في العاصمة الكينية نيروبي، بين رئيس الحكم العسكري السوداني، عبد الفتاح البرهان، ورئيس وزراء إثيوبيا، آبي أحمد، ولم يعلن البلدان عن تفاصيل المحادثات سوى مناقشتها قضية الحدود وإعدام الجنود، لكن من الواضح أنهما اتفقا على إنهاء الاشتباكات العسكرية ربما بسبب الضغوط الداخلية لكل دولة.
وبالفعل، لم تندلع أي معارك بين الطرفَين بعد هذا اللقاء، الذي يبدو أنه أعاد الثقة التي تعززت في لقاء ثانٍ عُقد في أكتوبر/ تشرين الأول، وفيه نفى البرهان دعم بلاده لجبهة تحرير إقليم التغراي.
بدأت نتائج اللقاءات ذات الطابع الأمني تؤتي ثمارها، حيث اتفق جهازا مخابرات البلدَين على تبادل المعلومات، ليتمَّ تأكيد الاتفاق ذاته وقضايا أخرى مرة أخرى، وبعد أسابيع من الزيارات المتبادلة لمخابرات البلدَين تمَّ تبادل الأسرى، لكن الاتفاق الأهم هو ما توصّل إليه/ في 25 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، استخبارات كل من السودان وإثيوبيا، حيث يرجّح أن هاتين المؤسستَين هما من يديرا المعارك العسكرية، وهو اتفاق يتعلق بتبادل معلومات أنشطة المجموعات ومهرّبي السلاح على الحدود.
انتعاش آمال الإمارات
الملاحظ أن هذه الاتفاقات ذات طابع أمني وعسكري دون أي تطرُّق لجوانب سياسية لإنهاء النزاع سلميًّا، وهذا ما جعل الخبير بالقرن الأفريقي، إبراهيم موسى، يقول إنها تفاهمات لما هو آتٍ، وفقًا لحديثه لـ”نون بوست”.
ويوضّح أن الجيش السوداني على وشك تسليم السلطة إلى المدنيين وفقًا للاتفاق الإطاري المبرم بينهما، والذي سيطوَّر إلى اتفاق نهائي مطلع العام المقبل، ليطلق حكومة مدنية في فترة انتقال جديدة مدّتها 24 شهرًا.
ويضيف: “سيضغط الجيش على الحكومة الوليدة لتوقّع اتفاقًا مع الإمارات يسمح لها بالاستثمار في الأراضي التي استردّها، خاصة بعد أن حصلت الأخيرة على حقّ امتياز إنشاء ميناء جديد على ساحل البحر الأحمر”.
ويعزّز حديثه بعدم توزيع الجيش الأراضي التي استردّها من إثيوبيا إلى ملّاكها السودانيين، بذريعة قانون الزراعة الآلية في ولاية القضارف الذي يسقط مُلكية الأراضي الزراعية بعد 25 عامًا من عدم فلاحتها، ويشير إلى أن هذه الخطوة يمكن أن تسبب جدلًا قانونيًّا بحجّة أن عدم فلاحتها كان بفعل سيطرة إثيوبيا عليها.
ربما تكون العقبة أمام توقيع سياسي بين الخرطوم وأديس أبابا لإنهاء النزاع على الحدود هي إقليم الأمهرا
ولم تخفِ الإمارات أطماعها في الأراضي المستردّة، حيث طرحت في وقت سابق مبادرة لحل الأزمة الحدودية بين الخرطوم وأديس أبابا، بموجبها يتراجع السودان إلى حدود ما قبل نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، ويحصل على 40% من الأراضي فيما تنال هي نصيب مماثل، على أن يذهب المتبقّي إلى المزارعين الإثيوبيين؛ لكنها اضطرت إلى سحب المبادرة نتيجة رفض الأطراف السودانية، رغم الضغوط التي مارستها عليها.
ربما تكون العقبة أمام توقيع سياسي بين الخرطوم وأديس أبابا لإنهاء النزاع على الحدود هي إقليم الأمهرا، إذ إن الحكم في إثيوبيا فيدراليًّا يمنح الأقاليم سيطرة واسعة على مصالحها، ومعروف أن الأمهرا يعتقدون أن ملكية بلادهم للأراضي السودانية، لذا فإن حل أي خلاف يبدأ وينتهي عندهم.
ويقول الخبير إبراهيم موسى إن الإمارات من واقع استثماراتها في إثيوبيا يمكن أن تتغلّب على مخاوف قادة إقليم الأمهرا، وبالتالي دعم أي اتفاق سياسي.
لكن الناشط والمهتم بنزاعات حدود السودان مع دول الجوار، فاروق محمد علي، تحدث عن إمكانية حل نزاع الخرطوم وأديس أبابا سلميًّا، حال توفر الإرادة السياسية دون تدخُّل من أي دولة.
ويقول لـ”نون بوست”: “أتوقع أن يصاحب الترتيبات في إثيوبيا والخاصة بعقد اتفاق سلام مع جبهة تحرير التغراي من جهة، وانتقال السلطة من الجيش إلى المدنيين في السودان من جهة أخرى، بوادر أمل لحلّ الخلاف بطريقة ودّية”.