ترجمة وتحرير: نون بوست
كانت فيفيان صنصور متحمسة بشأن القمح، فقد أوضحت أنه منذ أكثر من 10 آلاف سنة، قام أصحاب النظر البعيد في الهلال الخصيب بتدجينه وبدأوا في تحويله إلى الكرواسون والخبز البلدي والرغيف الفرنسي التي أصبحت تكتسح العالم اليوم.
وتدرس صنصور البذور كطريقة “لتصميم أشياء جديدة بالطريقة التي فعلها أسلافها”. وفي سنة 2014؛ أسست “مكتبة حفظ البذور الفلسطينية”، ثم أمضت السنوات الأربع التالية في البحث عن أصناف متوارثة من أجل المحافظة عليها وضمان تكاثرها.
وفي الواقع؛ تعتبر العديد من هذه البذور، وجميعها أصلية في فلسطين، مهددة بسبب القوانين التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي على أراضي الفلسطينيين وحياتهم.
لقد فرضت “إسرائيل” على المزارعين الفلسطينيين زراعة أنواع أخرى من البذور من أجل الكفاءة والحجم، على الرغم من أنها تمتلك واحدة من أكبر مكتبات بذور الإرث في معهد وادي عربة. وفي حين يحتفظ المعهد ببستان تجريبي، فإن البذور نفسها محظورة على المزارعين. وتصر صنصور على أنه في حين أن المستوطنين “أخذوا بذورهم منهم، إلا أنهم لا يعلمون حقيقتها ونظام المعرفة المرتبط بالبذرة”.
بدأ اهتمام صنصور بأصناف بذور الإرث الفلسطيني عندما علق أحد أصدقائها على الطبيعة المستنزفة بالكامل جراء العنف الإسرائيلي، والتي شملت تدمير المنازل، وخطف الأطفال للتجنيد العسكري، والرقابة الخانقة، ونقاط التفتيش بين المدن الفلسطينية، وعمليات استحواذ المستوطنين على أراضي السكان الأصليين، وهدم المنازل، والاغتيالات العرضية لرموز النضال الفلسطيني.
وعند رؤيتها في غارقة في حزن عميق وغضب عارم، طرحت صديقة صنصور سؤالًا وتحديًا: “فيفيان، أين قوتك؟”. لقد قادها بحثها عن تلك القوة، وعن “بلسم للألم” إلى قصص أسلافها الفلسطينيين وإلى البذور التي عاشوا بها؛ حيث قالت صنصور إن البذور “تتحدث عن التطور المشترك للناس مع الأرض”.
تعكس جهود صنصور تحولًا حديثًا في صفوف الفلسطينيين، المنهكين من التعلق المستمر بالدولة، تجاه بعضهم البعض. وبذلك، فإنهم يتحركون بالتزامن مع مجتمعات السكان الأصليين الأخرى التي تنخرط في الطفرة الجديدة لتلك المجتمعات.
واشتملت جهودها في البحث لمدة ست سنوات عن بذرة بطيخ “جادو”، والتي عثرت عليها في النهاية في درج قديم لمزارع فلسطيني، وقامت هي وعشرون مزارعًا آخر بعد ذلك بزرع بذور “جادو” مع ثلاثة أنواع أخرى مهددة، وأعادتهم إلى برنامج الزراعة.
وقادتها رحلة صنصور عبر التاريخ الاجتماعي لنبتة قمح فريدة من نوعها ذات “سنابل سوداء جميلة”، يُطلق عليها اسم الحنطة السوداء، التي يعرفها الفلسطينيون عن طيب خاطر باسم أبو سمرة (الرجل الأسمر والوسيم).
استبدلت “إسرائيل” بالقوة بذرة أبو سمرة، التي تنمو بدون ري ويمكن أن تزدهر في البيئة الصحراوية، بصنف عام من البذور. وعلى عكس المحصول العام، قام محصول بذور “أبو سمرة” بأكثر من مجرد إطعام الفلسطينيين، بل ساهم أيضًا في تشكيل حياتهم الاجتماعية وعلاقاتهم ببعضهم البعض.
وقد وصفها الفلسطينيون لصنصور بأنها “حب ضائع منذ زمن طويل” وهي تضفي نكهة مميزة في بسكويت معين. وفي سعيها لتعزيز ارتباط شعبها بالأرض؛ تعاونت صنصور مع موسيقيّ فلسطيني شاب، يُدعى زيد هلال، لكتابة وإنتاج أغنية تدور حول “قصة حب مع تراث القمح لدينا”. وتلك الأغنية، بعنوان أبو سمرة، موجودة على “يوتيوب” وأجبرت الشباب، الذين كانوا مفتونين بسلاسل الوجبات السريعة، على أن يسعوا “لتذوق تاريخنا الفلسطيني”.
ترعرعت صنصور في بيئة متنوعة ثقافيًا، وكان أسلوب حياتها يجعلها أحيانًا متفردة في المجتمعات الريفية التقليدية التي تزورها، ورغم أنها في البداية كانت خائفة من “الرفض”، إلا أنها تؤمن حاليا بأنها تنتمي إلى قواعد نشأت في بوتقة الشتات العالمي.
من خلال حرث الأرض ببذور الإرث، تحاول صنصور “خلق حنان على تلك الأرض حيث يمكن للناس أن يروا أن شيئًا آخر ممكن أن يُعاش”. لذلك عندما يزور الأطفال الفلسطينيون الأراضي “يمكنهم مشاهدة جمال فلسطين؛ الخصبة والغنية مثل الأرض نفسها، الأرض التي تسع جميع الفلسطينيين على اختلاف لغاتهم وثقافاتهم وحياتهم الاجتماعية”؛ حيث تصف صنصور هذا التنوع الاجتماعي بأنه “تقليد بيولوجي” الذي يعكس المجتمع الذي هي على استعداد للقتال من أجله.
إن بحث صنصور عن تاريخ شعبها في الأرض هو في الواقع بحث عن اللبنات الأساسية المناسبة لمستقبل جديد؛ إنه أحد المسارات الممكنة نحو السيادة الفلسطينية، بعيدًا عن المساومة الوحشية مع الاحتلال الإسرائيلي، التي تُقايض الامتثال المحلي لهيمنة المستوطنين مقابل امتيازات إضافية لا ترقى أبدًا إلى الحرية. وفي حين أن الهروب من فخ السيادة هذا ليس واضحًا، فإن الحلول للمضي قدما تكمن في كل من الماضي والحاضر.
قد لا تكون ممارسات السكان الأصليين الصاعدة متغلغلة في المجتمع الفلسطيني، لكنها تتسرب في القاع بين مجموعات الفلسطينيين من جيل إلى جيل؛ حيث يعتمد هؤلاء الأفراد والمنظمات على التقاليد الفلسطينية عبر تاريخ ما قبل الاستعمار لتخيل أشكال جديدة من الثقافة والسياسة والقيادة
تعكس جهود صنصور تحولًا حديثًا في صفوف الفلسطينيين، المنهكين من التعلق المستمر بالدولة، تجاه بعضهم البعض. وبذلك، فإنهم يتحركون بالتزامن مع مجتمعات السكان الأصليين الأخرى التي تنخرط في الطفرة الجديدة لتلك المجتمعات.
وكما أوضح جيف كورنتاسيل، عالم السياسة الذي ينتمي للهنود الحمر الأصليين، فإن هذه تعد بمثابة ظاهرة تعيد تأطير إنهاء الاستعمار من خلال الابتعاد عن الدولة “للتركيز بشكل أكبر على العلاقات المتداخلة المعقدة بين قومية السكان الأصليين، والعلاقات القائمة على المكان، والممارسات التي تتمحور حول المجتمع والتي تعيد تنشيط الأعمال اليومية للتجديد والنهضة”.
هذا التحول لا يدحض الدبلوماسية المتمحورة حول الدولة أو يقوّض النضال ضد سيادة المستوطنين؛ حيث إن الابتعاد الكامل عن مثل هذه المشاركة سيكون قصير النظر وسيؤدي إلى نتائج عكسية، لا سيما بالنسبة للفلسطينيين الذين يظلون منفيين قسريًا من أراضيهم ومحصنين داخل أحياء يهودية عسكرية.
وبدلاً من ذلك؛ يركز مصطلح “عودة السكان الأصليين” على حياة السكان الأصليين وحوكمتهم “طريقة إدارة حياتهم” بالاقتران مع المناهج أخرى؛ حيث يسعى إلى تقويض القوة المنفردة للاستعمار من خلال إعادة الربط بين “الأوطان والثقافات والمجتمعات”. وفيما يتعلق بالفلسطينيين بشكل خاص؛ يوضح العلماء نور جودة، وطارق راضي، ودينا عمر، وراندا وهبي، أن عودة الظهور تسهل “الاعتراف بالذات” الذي يحول “الانقسام إلى قوة” و”التجارب المتنوعة للخسارة” إلى “سياسة رعاية”.
وإذا كان إنهاء الاستعمار عادة ما يضع السكان الأصليين في مواجهة المستوطنين في صراع من أجل الأرض، فإن عودة السكان الأصليين تركز على كيفية الانتماء الأخلاقي إلى حد كبير فيما يتعلق ببعضهم البعض وبالأرض، ويدور الحفاظ على البذور وازدهارها حول تعلم كيفية القيام بذلك.
ولكن هذه المهمة الشاقة – في حد ذاتها، وليست “إسرائيل” من تجعلها شاقة – تستهلك الآن صنصور، التي تشرح قائلة: “أريد أن أعرف من أكون، أريد أن أعرف ذلك جيدًا حتى ننتصر على المستعمر. كنا موجودين من قبل، ونحن موجودون الآن، وسنكون موجودين في المستقبل”.
قد لا تكون ممارسات السكان الأصليين الصاعدة متغلغلة في المجتمع الفلسطيني، لكنها تتسرب في القاع بين مجموعات الفلسطينيين من جيل إلى جيل؛ حيث يعتمد هؤلاء الأفراد والمنظمات على التقاليد الفلسطينية عبر تاريخ ما قبل الاستعمار لتخيل أشكال جديدة من الثقافة والسياسة والقيادة تليق بمستقبل منزوع الاستعمار.
ومثل صنصور؛ لا يتوق أحد إلى ماضٍ ضائع أو ينتظر وعد الحرية مكتوف الأيدي. ومن بين هؤلاء الفاعلين نساء في مؤسسة “التجمع النسوي الفلسطيني”، اللواتي يقمن بتضمين تحرير النوع الاجتماعي في إطار التحرير الوطني، بالإضافة إلى المهندسين المعماريين والمخططين الحضريين الذين يعيدون تصميم القرى الفلسطينية المدمرة المناسبة للشتات العائد. ويوضح التجمع النسوي الفلسطيني وهؤلاء المصممون كيف أن الممارسات المتجددة ذات رؤية ومتأصلة على حد سواء، وتشكل نموذجًا لما يمكن أن يبدو عليه التحرير الفلسطيني بعد الاستقلال الوطني.
في عام 1974 كانت الدويلة الفلسطينية تتمتّع بمكانة الأقلية، وهي لعنة ترتّبت عن الحماسة الثورية التي حركت نضال التحرير وربطته بالثورة المناهضة للإمبريالية في جميع أنحاء العالم
لطالما كان النضال الفلسطيني من أجل التحرر نضالا ثوريا لتفكيك الاستعمار، بينما أصبح التركيز على سيادة الدولة كمشروع وطني – مقابل القومية الثورية – موضوعا حديثا نسبيًا. عندما استولت الفصائل الفلسطينية المسلحة على منظمة التحرير الفلسطينية من النخب القومية العربية في عام 1968، قاموا بتعديل ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية للتأكيد على أن “الكفاح المسلح هو السبيل الوحيد لتحرير فلسطين. وهذه الإستراتيجية الشاملة، وليست مجرد مرحلة تكتيكية”.
كان الهدف هو دعم “الحق في التمتع بحياة طبيعية في فلسطين وممارسة حقهم في تقرير المصير والسيادة”، وسعت منظمة التحرير الفلسطينية إلى استعادة السيادة الأصلية على الأراضي، لكن التزاماتها المناهضة للإمبريالية تجاوزت الإطار القومي، فقد أدان ميثاقها الصهيونية ووصف “إسرائيل” بأنها “قاعدة جغرافية للإمبريالية العالمية. . . و[هذا] مصدر تهديد دائم فيما يتعلق بالسلام في الشرق الأوسط والعالم بأسره”. وصفت حركة التحرير نفسها بأنها في الطليعة مقارنة بالإمبريالية ونيابة عن جميع شعوب العالم الساعية لقلب نظام الهيمنة هذا رأسا على عقب.
بدأ هذا الإجماع المناهض للإمبريالية في التلاشي بعد فترة وجيزة من انتصار “إسرائيل” في حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973؛ حيث كشفت الحرب عن تبلور وضع جديد يخضع لعاملين؛ الأول هو أن مصر وسوريا كانتا ترغبان في الحصول على الوسائل الدبلوماسية لاستعادة أراضيهما المحتلة، مما يعني أنه لن يشن أي جيش عربي كبير حرب تحرير تقليدية ضد “إسرائيل”. والثاني أنه على الرغم من خسارة الحرب، هو أن الجيوش العربية ألحقت خسائر عسكرية كبيرة بـ “إسرائيل” وأعادت تشكيل موازين القوى لصالحها، وحفزت هذه العوامل الاستبطان العميق بين القوى الثورية الفلسطينية وأنتجت في النهاية انقسامًا في فكرهم السياسي.
ركّزت لجنة تكونت عام 1974 في الجامعة الأمريكية في بيروت، ضمت قادة من أهم الأحزاب السياسية الفلسطينية، على هذا التوتر. من ناحية؛ ظلت الفكرة التي تفيد بأن الفلسطينيين يشاركون في حرب تحرير مسلحة ضد الصهيونية تهدف إلى تحرير الأرض هي الفكرة السائدة. ومن ناحية أخرى، أشارت عدة أحزاب سياسية إلى قبولها المشروط لصراع مرحلي، وهو نضال من شأنه تحرير الأرض تدريجيًا. وفي حين أن هذا النضال بدا ممكنا من الناحية التكتيكية كطريق للتحرير، فقد قبل بعض القادة الفلسطينيين بحلول ذلك الوقت فكرة أن التحرير التدريجي يمكن أن يمثّل أيضًا الحل النهائي: وهو إقامة دولة فلسطينية مبتورة.
في عام 1974 كانت الدويلة الفلسطينية تتمتّع بمكانة الأقلية، وهي لعنة ترتّبت عن الحماسة الثورية التي حركت نضال التحرير وربطته بالثورة المناهضة للإمبريالية في جميع أنحاء العالم، لكن في غضون عقد ونصف، تبنى المجلس الوطني الفلسطيني الدولة الفلسطينية المبتورة كنموذج للتحرير. وعَكَسَ هذا القرار إدانة منظمة التحرير الفلسطينية المستمرة منذ عقود لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 للتقسيم وقرار مجلس الأمن رقم 242 الذي أنشأ هيكل عمل لمبدأ “الأرض مقابل السلام”، والذي صوّر إسرائيل كحقيقة سياسية.
بينما يمتنع الإسرائيليون عن منح الجنسية، يدرك الفلسطينيون أيضًا أن ذلك لن يفيدهم كثيرًا.
في الواقع؛ عندما أيد المجلس الوطني الفلسطيني مفهوم الدولة الفلسطينية، وصف وليد الخالدي، الباحث والناشط والدبلوماسي، الذي أيد علنًا نهج الدولة منذ أواخر السبعينيات، هذا الانقلاب بأنه ثوري في الفكر الفلسطيني.
الآن، أصبح مصير الدولة الفلسطينية معروفا على نطاق واسع؛ فإذا لم يكن قد تلاشى بالفعل عند وصولها، فمن المؤكد أن “إسرائيل” قد هدمته خلال ما يقارب الثلاثة عقود منذ توقيع اتفاقيات أوسلو. على خلفية التقاط الصور الهزلية والضجة الدبلوماسية، تعهد كبار المسؤولين الإسرائيليين – بدءًا من إسحاق رابين، الذي وقع الاتفاقات نيابة عن “إسرائيل” – على التوالي بمنع قيام دولة فلسطينية بتاتا.
في الآونة الأخيرة؛ ومباشرة قبيل زيارته إلى الولايات المتحدة في صيف 2021، صرح رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت بوضوح قائلا: “هذه الحكومة لن تضم ولن تشكل دولة فلسطينية…. ستواصل إسرائيل السياسة المعيارية للنمو الطبيعي”. بعبارة أخرى، سيستمر التوسع الاستعماري الاستيطاني المتزايد والمطرد في ظل القوانين الخيالية للضرورة العسكرية وبدعم من المجتمع الدولي.
في حين لم تدرك معظم المنظمات الرئيسية إلا مؤخرًا حقيقة طموحات “إسرائيل” الإقليمية وولايتها القضائية الفريدة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط؛ فقد كافح الفلسطينيون مع الوجود الفعلي لدولة قمعية واحدة منذ انهيار عملية السلام في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. استغرق الأمر قرابة العقدين – عندما أقرت “إسرائيل” قانون الدولة القومية لعام 2018، الذي نص على أن التفوق اليهودي مبدأ دستوري وحدّد حق تقرير المصير كحق حصري لليهود – لكي تعترف العديد من منظمات حقوق الإنسان القديمة بالنقطة التي كان الفلسطينيون يتحدثون عنها.
بين عامي 2020 و2021، أصدرت كل من المنظمات ييش دين وبتسليم وهيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية تقارير خلصت إلى أن “إسرائيل” تشرف على نظام الفصل العنصري بحكم القانون. وعلى الرغم من أنهم جميعًا يحثون على إجراء إصلاح دستوري لتحقيق مساواة حقيقية، يعتقد أكثر من 90 بالمئة من اليهود الإسرائيليين، اليوم، أن “إسرائيل” يجب أن تكون دولة يهودية. ويشير الصندوق القومي اليهودي إلى أنه يجب على “الأقلية غير اليهودية” أن “تفهم أن النضال من أجل المساواة في الحقوق لا يستلزم إلغاء تعريف إسرائيل كدولة يهودية”.
ومع ذلك؛ بينما يمتنع الإسرائيليون عن منح الجنسية، يدرك الفلسطينيون أيضًا أن ذلك لن يفيدهم كثيرًا. وفي هذا الشأن؛ كتب الباحث رائف زريق أن المواطنة لديها القدرة على إنهاء “احتكار المشروع الاستيطاني للقانون”، لكن المشروع لا يزال قادرًا على مواصلة الازدهار. وأشارت عالمة الأنثروبولوجيا أريج صباغ خوري إلى أن الفلسطينيين النازحين داخليًا، مثل أولئك الذين قدموا من مدينتي إيكريت وبريم في الشمال، هم بالفعل من مواطني الدولة، ومع ذلك لا يزالون محرومين ومجرّدين من حق العودة إلى أراضيهم الأصلية.
تتطلب قصص التحرر الوطني أن نسأل عما إذا كان طرد المستوطنين واستعادة السيادة الوطنية هي في الواقع ذروة النضال لتفكيك الاستعمار. وبالنسبة للفلسطينيين؛ في وقت لا يبدو فيه وجود دولة مستقلة واعدة أو حق كامل في الاقتراع ، يجب أن نسأل ما الذي يمكن تحقيقه
وتسبب هذا الطريق المسدود الحالي في انبثاق محادثة جديدة حول إنهاء الاستعمار؛ وهي عملية تبطل كلا من سيادة الدولة وحقوق الإنسان. ويمثل هذا المشروع في جوهره عودة تحليلية للماضي لتفسير أيديولوجية الصهيونية على أنها المشكلة، وليس “إسرائيل”. فخلال انتفاضة الوحدة في أيار/مايو 2021، وثّق الفلسطينيون في جميع المناطق الجغرافية المتفرقة هذه الفكرة في بيان الكرامة والأمل، التي تنص على الآتي:
“لقد سعت الصهيونية للسيطرة علينا، وبهذه الطريقة عملوا على هدم إرادتنا السياسية، ومنع نشوب صراع موحد في وجه الاستعمار الاستيطاني العنصري في جميع أنحاء فلسطين… خلال هذه الأيام، نحن نكتب فصلا جديدًا، فصلًا من انتفاضة موحدة تسعى إلى تحقيق هدفنا الوحيد: إعادة توحيد المجتمع الفلسطيني بجميع أجزائه المختلفة، ولم شمل إرادتنا السياسية ووسائلنا في النضال لمواجهة الصهيونية في جميع أنحاء فلسطين”.
السؤال الأهم الآن هو؛ كيف نواجه الصهيونية بما يتجاوز المقاربات الفقهية التي يقدمها الإصلاح الدستوري؟. وفي ظل ما يسمى بعالم ما بعد الاستعمار حيث تعدّ فلسطين من بقايا الهيمنة الإمبريالية وليست نموذجًا لها، فإن الفلسطينيين يمتلكون منظورًا فريدًا من نوعه؛ لقد تم التخلي عنهم خلال موجات إنهاء الاستعمار التي بشرت باستقلال الشعوب المستعمرة عالميًا في القرن العشرين، لكن هذا مكّنهم أيضًا من مراقبة عدم اكتمال عملية إنهاء الاستعمار.
لقد نجحت جميع دول ما بعد الاستعمار تقريبًا اليوم في استبدال الهيمنة الاستعمارية بحكم السكان الأصليين؛ ومع ذلك استمرت الهيمنة، وحتى في جنوب إفريقيا؛ لم تسلم الأغلبية السوداء التي تتولى السلطة من أضرار الاستعمار التي تشمل التقسيم الطبقي الاقتصادي الجسيم والعنف القائم على نوع الجنس وكراهية الأجانب. وكما يذكرنا أدوم جيتاشيو؛ كان الاستقلال الوطني فقط العنصر المحكوم به لإنهاء الاستعمار، وكان الهدف النهائي هو الإطاحة بالإمبريالية وخلق مجتمعات واقتصادات وأشكال سياسية بديلة للحكم، لكن لا يزال العمل غير منجز بعد.
تتطلب قصص التحرر الوطني أن نسأل عما إذا كان طرد المستوطنين واستعادة السيادة الوطنية هي في الواقع ذروة النضال لتفكيك الاستعمار. وبالنسبة للفلسطينيين؛ في وقت لا يبدو فيه وجود دولة مستقلة واعدة أو حق كامل في الاقتراع ، يجب أن نسأل ما الذي يمكن تحقيقه.
إن النساء الفلسطينيات من بين أولئك الذين يحاولون الإجابة على هذه الأسئلة اليوم؛ حيث إنهن يعتقدن أن أي رؤية لتفكيك الاستعمار يجب أن تبدأ من المنزل. وباستعادة الرؤية التحررية التي كانت سائدة قبل سنة 1988؛ توظف التشكيلات النسوية الفلسطينية الناشئة الماضي لترسيخ نضال تحريري قوي؛ حيث إنهن مهتمات بنفس القدر بمقاومة سيادة المستوطنين وإعادة تشكيل المجتمع الفلسطيني خارج القمع الذي يتعرض له.
في أواخر آب / أغسطس 2019؛ توفيت خبيرة المكياج إسراء غريب البالغة من العمر 21 عامًا والتي كانت تسكن بالقرب من بيت لحم، في مستشفى الحسين متأثرة بجراح أصيبت بها على يد عائلتها، فقد كان عمودها الفقري مكسوراً وجهها وجسمها مصابين بكدمات، فيما أخبر زوج أختها المستشفى ووسائل الإعلام المحلية أنها تعاني من مرض عقلي وقد قفزت من شرفة المنزل. ومع ذلك؛ فإن الأصدقاء والمنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي والتسجيلات الصوتية لصرخات إسراء تكشف أنها تعرضت للضرب المبرح على يد أشقائها وزوج أختها لخروجها علنًا مع متقدم لها كان من ينوي أن يخطبها.
جريمة قتل إسراء تعد واحدة بين ما لا يقل عن أربع وعشرين حالة مماثلة في أنحاء الضفة الغربية وغزة في تلك السنة، موثقة من قبل مركز المرأة الفلسطينية للمساعدة القانونية والاستشارات. فقبل مقتل إسراء بفترة طويلة؛ دفع تصاعد جرائم قتل النساء الفلسطينيات النساء إلى التنظيم بقوة أكبر. في سنة 2019، بدأت المناصرات بتشكيل شبكات غير رسمية في جميع أنحاء فلسطين والشتات للتصدي لوصمة العار التي تلاحق النسوية داخل المجتمع الفلسطيني؛ حيث يعد إنهاء الاعتداء الجنسي والعنف المنزلي وقتل الأقارب أمرًا محوريًا في النضال الفلسطيني من أجل الحرية.
في ذلك الوقت؛ ارتبطت النسوية بالعنف الاستعماري الغربي الذي يُعزى إلى إرث الحرب الفرنسية والبريطانية والأمريكية باسم العدالة بين الجنسين. وعلاوة على ذلك، وبين المواطنين الفلسطينيين في “إسرائيل”؛ تركزت جهود مناصرة المرأة داخل المنظمات الإسرائيلية غير الحكومية. وأدى إزالة الجهود النسوية من المقاربات المجتمعية إلى تقسيم المساواة بين الجنسين والعدالة السياسية من خلال تطبيع الصهيونية على أنها تعزز سلامة المرأة.
كانت النساء الفلسطينيات عبر ضفتي الأطلسي مهيئات للحراك فور مقتل إسراء؛ حيث نظم حراك “طالعات” مظاهرات حاشدة في فلسطين ضد قتل النساء ورفعن لافتات كتب عليها “لا شرف في جرائم الشرف” و”لا وطن حر بدون نساء أحرار” و”التمييز الجنسي قضية تحرر وطني”. في أمريكا الشمالية، قامت النساء اللواتي شاركن في دراسة استمرت لمدة سنة بهدف تحديد مكانة النسوية في التقاليد الفلسطينية بإنشاء التجمع النسوي الفلسطيني؛ حيث يسأل التجمع وحراك “طالعات”: عندما يتحدث الفلسطينيون عن الحرية الفلسطينية، من يشملهم؟ إذا كان الجواب هو كل الفلسطينيين، فإن إنهاء الاعتداء الجنسي والعنف المنزلي وتقييد الأماكن العامة وقتل الأقارب هو أمر أساسي في النضال الفلسطيني من أجل الحرية.
على غرار صنصور؛ ميزت مؤسسة التجمع النسوي الفلسطيني الطرق المناهضة للاستعمار من تلك الداعية إلى تفكيك الاستعمار والتي تهدف إلى العمل على كليهما، فإذا كانت الجهود المناهضة للاستعمار تسعى إلى هدم الهياكل القمعية، فإن تلك الداعية إلى تفكيك للاستعمار تهدف لبناء بدائل، كما توضح الدكتورة لبنى قطامي، وهي عضوة مؤسسة مشاركة في التجمع:
ويقول التجمع النسوي الفلسطيني والنسويات الفلسطينيات إننا مستعمَرون منذ خمسة وسبعين سنة وأن رؤيتنا للتحرر تعني خلق روح ومبادئ وثقافة التحرر الاجتماعي بدلاً من إهمالها على أنها ثانوية للتحرر الوطني…. فنحن نعطل الفكرة القائلة بأننا نحرر أنفسنا سياسيًا أولاً ثم نعيد بناء مجتمعنا من الألف إلى الياء بعد ذلك.
تقود المنظمات النسوية مثل التجمع النسوي الفلسطيني وحراك “طالعات” نموذجًا مختلفًا للقيادة؛ حيث وتشير إلى احتمالات واعدة لتغيير المقاومة الفلسطينية والتنظيم
تسلط قطامي الضوء على أن تمركز النساء يعيد تعريف السياسة أيضًا لأنه يبرز القيادة النسائية التي غالبًا ما تكون غامضة؛ حيث تشرح قائلة: “ليس المقاتل والمنظّر السياسي فقط هو من يجعل الممارسة السياسية ممكنة، بل النساء يشاركن في ما يوصف عادةً بأنه عمل قائم على التمييز الجنسي، وهو ما يجعلها صامدة”. الصمود هو تحمل المشقة والصبر ورفض الإبعاد وهو عنصر أساسي في المقاومة الوطنية الفلسطينية؛ فهو من بين المبادئ التي استعادها تجمع كبيرات السن الأموميات في محاولة لربط الماضي والمستقبل. وتشمل الممارسات الأخرى حل النزاع من خلال الصلح، فضلاً عن الاهتمام الآخرين ببعضهم البعض وترسيخ مفهوم الأسرة والانخراط في النشاط السياسي، وتتعلم الأجيال الشابة هذه الممارسات من خلال التبادلات غير الرسمية التي تمكّنها طبيعة التجمع المتوارثة عبر الأجيال.
إضافة إلى أن المقاربات النسوية للتحرر الفلسطيني تنشر القوة، وعلى حد تعبير قطامي: “يتعلق الأمر باستعادة شعبنا للسلطة بعد اتفاقية أوسلو”؛ حيث تركز المقاربات المؤيدة لمفهوم الدولة السلطة بين النخبة السياسية والاقتصادية، مما يؤدي إلى إضعاف قاعدة شعبية ما، وهذا يعد أعظم رصيد للفلسطينيين على مر التاريخ. وتدعو المقاربات النسوية الجميع إلى تولي القيادة، فتقول قطامي: “هذا جزء من تصورنا لسياساتنا. نحن لا نتنافس على الأماكن أو الموارد. نحن نحاول الخروج من نموذج الندرة الذي فرضته الرأسمالية علينا والذي أوجد فكرة أن هناك مساحة محدودة لنا جميعًا كقادة بطريقة ما”.
بالنسبة للسلطة الفلسطينية – النخب السياسية في فلسطين – فإن هذا النهج يمثل تهديدًا. ففي صيف 2021؛ قاد فلسطينيون بدون تمويل وهيكل حكم مركزي انتفاضة الوحدة، وهي أكبر حشد جماهيري فلسطيني منذ ثورة 1936 الكبرى وانتفاضة 1987. هذا الجهد – المنتشر والأساسي والعفوي على ما يبدو – جمع الفلسطينيين في كل المناطق الجغرافية المتناثرة وأحدث تحولًا تاريخيًا في فهم النضال الفلسطيني باعتباره كفاحًا من أجل الحرية. في غضون ذلك؛ بدت السلطة الفلسطينية متأثرة سلبًا ولا صلة لها بالموضوع.
حرصًا منها على إعادة تأكيد هيمنتها في أعقاب الانتفاضة، قام ضباط السلطة باعتقال واغتيال نزار بنات، وهو صحفي فلسطيني منشق معروف بانتقاداته الجريئة للقيادة الرسمية، فيما تدفق الفلسطينيون، الذين يدركون منذ فترة طويلة تورط السلطة الفلسطينية (وليدة إتفاقية أوسلو) مع كيانات الفصل العنصري الإسرائيلية؛ في الشوارع احتجاجًا، وقام ضباط الأمن في السلطة الفلسطينية باستخدام هراواتهم – التي قدمها إليهم المانحون الغربيون باسم بناء الدولة – على أجساد الفلسطينيين. كانت الرسالة واضحة: قد يكون للقيادة الفلسطينية الخفية القوة والإمكانيات، لكن القيادة الرسمية لديها أسلحة وسجون.
تقود المنظمات النسوية مثل التجمع النسوي الفلسطيني وحراك “طالعات” نموذجًا مختلفًا للقيادة؛ حيث وتشير إلى احتمالات واعدة لتغيير المقاومة الفلسطينية والتنظيم. وتعد هذه المنظمات بالمستقبل الذي يحتاجه الفلسطينيون، خاصة بالنسبة لشتات فلسطيني قوي ومشتت لا يمكن ربطه ببعضه البعض بشكل كافٍ من خلال القومية وحدها. وتنتشر مثل هذه المشاريع التي تتطلع إلى الداخل عبر العديد من قطاعات الحياة الفلسطينية، لا سيما بين الشبكات التي تتوق إلى إعادة بناء فلسطين نفسها.
تنتمي الدكتورة رنا بركات إلى قرية لفتا، وهي قرية مدمرة تقع خارج القدس لم يتم هدمها (دمرت “إسرائيل” حوالي 500 قرية في احتلالها لفلسطين وما زال العديد منها غير مأهول بالسكان أو في حالة خراب)، وقد أصبحت لفتا بينابيعها الطبيعية وجهة للإسرائيليين المتحمسين “للعودة إلى الوطن”، مما سبب موجة كبيرة من الاحتجاج على تخطيط الدولة لبناء المباني الحديثة والحدائق فوق أراضي القرية، ليس فقط من قبل الفلسطينيين الذين يسعون إلى العودة إلى وطنهم، ولكن من الإسرائيليين أيضًا؛ وأدى هذا النزاع إلى اقتراح ببناء متحف للحفاظ على لفتا؛ فيما تسلط بركات الضوء على أنه في الوقت الذي يمنع فيه هذا النهج المحو المادي للحياة الفلسطينية، فإنه يحكم على “لفتا كرمز للماضي الميت وليس كقرية حية تزدهر بما يتعدى مجرد تحويلها إلى متحف والمحافظة عليها”، كما تصر بركات على أن مقاومة ذلك يجب أن “تخطف الأضواء بعيدًا عن عالم الرموز والمجاز المتعلق بالموت وتعيده إلى عالم الحياة والمعيشة”، وهذا هو عمل المهندسين المعماريين والمصممين الفلسطينيين الشباب.
وتدرس الدكتورة نور جودة، العالمة الجغرافية، الخرائط المضادة الخاصة بالسكان الأصليين في فلسطين وهاواي، وتشرح أن العملية لا تتعلق بالعودة إلى الماضي ولكنها “طريقة لتخيل التعبير المستقبلي للمكان… وهو شكل من أشكال البعث والتحدي للرواية الزمنية الخطية للمستوطنين”، ففي حين أن سيادة المستوطنين قد نقلت حياة السكان الأصليين إلى ماضٍ لا يمكن استرجاعه، فإن مجتمعات السكان الأصليين “تتبنى زمانية غير مقيدة” تعيش “من خلال الماضي والمستقبل وفيهما يوميًا” من خلال ممارساتهم في رسم الخرائط المضادة، وتسلط جوده الضوء على أنه في ظل حالة التجريد المستمر من الملكية، يمحو الخط الزمني إرث كبار السن وإمكانات الأطفال الصغار، رافضًا “إمكانية وجود مستقبل أصلي”.
ومن بين موادها العلمية المرجعية؛ اعتمدت جودة على مسابقة سنوية تديرها جمعية الأرض الفلسطينية بقيادة الباحث والناشط واللاجئ الدكتور سلمان أبو ستة؛ حيث تدعو الجمعية طلاب الهندسة المعمارية الفلسطينية والتخطيط الحضري من جميع أنحاء العالم لإعادة بناء القرى الفلسطينية المدمرة، ويُمنح المتسابقون المتحمسون من 50 إلى 100 قرية ليختاروا من بينها، كل منها مصحوب ببيانات عن الأرض: سكانها ومعالمها ومواقعها المقدسة واقتصادها ونباتاتها؛ حيث تعد التصميمات مشاريع إبداعية تتميز بأنظمة النقل والإسكان والحدائق والساحات العامة، وقد درست جودة هذه الإدخالات على مدار السنوات الثلاث الماضية وأجرت مقابلات مع العشرات من المتسابقين، وكانت السمة الأكثر شيوعًا لكل تصميم هي “بيوت الضيافة” و”فنادق لم الشمل” للفلسطينيين الذين يختارون الزيارة دون البقاء، مما يشير إلى الوعي بالآلية التي سيكون عليها مستقبل السكان الأصليين.
ويتم تشجيع المصممين أيضًا على إجراء أبحاثهم الخاصة من أجل إتمام مشاريعهم، والتي غالبًا ما تكون في شكل تاريخ شفهي، حتى يتمكنوا من إظهاره وحفظه أثناء قيامهم بالبناء، ولأن معظم المتسابقين غير قادرين على زيارة مواقع القرية – المحظورة من قبل “إسرائيل” – فإنهم ينتقلون إلى خرائط جوجل لدراسة المشهد الحالي، وإلى الهاتف أو “سكايب” أو “واتساب” للتواصل مع السكان الباقين على قيد الحياة، كما هو الحال في قرية سحماتا التي أعيد بناؤها؛ حيث يجتمع المهندسون المعماريون الشباب بشكل متزايد مع سكان القرية الباقين على قيد الحياة والمنحدرين منها، والذين تم نفيهم قسرًا إلى لبنان، ويقدمون أعمالهم عبر “زوم”؛ ويربطون بين المكان والزمان والصدمات التي تعرضوا لها لتأكيد الأحقية في الحياة.
المسابقة نفسها هي عملية إنتاجية من خلال دمج رؤى العودة والإمكانية، والتاريخ والحاضر الحي، وربط الشتات، وتوفر المنافسة بكل هذا مصدرًا للأمل، وتشير إلى أن حياة السكان الأصليين هي طموح، وليست شوقًا رومانسيًا للماضي.
أدركت النساء الفلسطينيات، حدود الإطار القومي الذي يفشل في معالجة الظروف التي تعيق الحرية؛ حيث إن تركيزهم على مداواة الجروح التاريخية، واستخدام العدالة الإصلاحية؛ يوجه الفلسطينيين لبناء العالم الذي يرغبون فيه، بدلاً من التوسل إلى القوى الإمبريالية
لم يكن التاريخ الوطني الفلسطيني خطيًا وعرضيًا، ولكنه تميز بتجديدات تحليلية بالإضافة إلى الانقسامات السياسية، من النخبة الوطنية التي سعت إلى الاندماج في النظام العالمي في سنوات ما بين الحربين إلى الجماهير الثورية التي حملت السلاح وقاطعت الإمبراطورية البريطانية في الثورة الكبرى سنة 1936، ومن القومية التي سعت إلى التحرر التدريجي كحل نهائي إلى أولئك الذين أصروا على الكفاح المسلح طوال السبعينيات، واليوم تصطدم المواجهة بين التيارات النخبوية الوطنية التي لا تزال حريصة على إقامة دولة – حتى على تلة صغيرة من الأرض المحصنة – مع الحركات الشعبية الجماهيرية التي أظهرت الصهيونية كمشكلة مرة أخرى.
يكشف النضال الفلسطيني من أجل الحرية أن الفلسطينيين اقتربوا من الحرية عندما ابتعدوا عن سيادة المستوطنين وتوحدوا مع بعضهم البعض، فخلال الثورة الكبرى والانتفاضة الأولى على سبيل المثال، بنى الفلسطينيون شبكات تبادل مشتركة لتوزيع الطعام، وقاموا برعاية عائلات بعضهم البعض، وأنشأوا المدارس السرية، والاقتصاديات البديلة، ولا تزال هذه الإمكانيات واضحة بين الفلسطينيين اليوم، بين دعاة الحفاظ على البيئة الذين يعيدون إحياء التاريخ الاجتماعي للبذور، وبين النساء اللائي يواصلن ترسيخ بقاء الأجيال، وبين المصممين الذين يبنون المستقبل حرفيًا.
يُبرز تحويل النظرة الفلسطينية بعيدًا عن الظالم وتوجيهها نحو الفعل أسئلة جديدة حول علاقات الفلسطينيين بالأرض وببعضهم البعض؛ حيث إن صحوة السكان الأصليين هذه تحيي عملية التجديد، وتذهب بنا إلى نقطة ما بعد الاستقلال الوطني، وتوضح أهميتها الحالية، ما هو الشكل الذي ستكون عليه العناية بالأرض؟ وكيف يعزز إعادة بناء القرى الاستدامة في مواجهة كارثة المناخ؟ وكيف يمكن للاجئين؛ الذين يبلغ عددهم الآن عشرة أضعاف من في المنفى، أن يعودوا ويزدهروا؟
لقد أدركت النساء الفلسطينيات، اللواتي قمن على الدوام بدعم وقيادة نضال التحرير بشكل غير رسمي، حدود الإطار القومي الذي يفشل في معالجة الظروف التي تعيق الحرية؛ حيث إن تركيزهم على مداواة الجروح التاريخية، وإعادة إنشاء نماذج للرعاية المتبادلة، واستخدام العدالة الإصلاحية؛ يوجه الفلسطينيين لبناء العالم الذي يرغبون فيه، بدلاً من التوسل إلى القوى الإمبريالية لمنحهم قطعة مشوهة من الأرض، وبعيدًا عن تشتيت الانتباه عن النضال التحريري الذي يهدف إلى إنهاء الهيمنة القاسية؛ فإن هذا العمل يقدم إجابات حول كيفية تحقيق الحرية؛ حيث يمكن للتأكيد على إنهاء الاستعمار أن يخلق البدائل التي يرغبها الجميع ولكن لا يمكنهم تخيلها بالكامل.
عندما استولت حركة زاباتيستا في سنة 1994 على سبعة مقار بلدية مكسيكية واستعادت ما يصل إلى 1.7 مليون فدان من الأراضي، أعلن القائد الفرعي ماركوس، المتحدث باسمها: “هناك وقت لمطالبة السلطة بأن تتغير، وهناك وقت لمطالبة السلطة بالتغيير، وهناك وقت لممارسة السلطة”، والمنظمون في فلسطين يمارسون السلطة، وكما يقول التجمع النسوي الفلسطيني، فإنهم يستخدمون الحب كبوصلة في خطواتهم نحو التحرير.
المصدر: بوسطن ريفيو