ترجمة حفصة جودة
في صباح متأخر بالخرطوم، ومن داخل أحد الأبنية المنخفضة المليئة بالتراب في قلب العاصمة السودانية، كان هناك صناديق مليئة بالقطع الأثرية وتمثال طوله 7 أقدام، نسخة طبق الأصل من تمثال حجري عمره 2000 عام لإله نوبي، بينما يتدافع الطلاب عبر الممرات، في الخارج كانت أشعّة الشمس الحارقة وضوضاء المرور وفرعا نهر النيل.
تتوجّه صابرين جمال ونادية موسى وآثار بيلا وصابرين الصادق أسفل السلَّم، حيث يدرسن جميعهن علم الآثار في جامعة الخرطوم، لا يزيد عمر الواحدة منهن عن 24 عامًا، ويعتبرن أنفسهن رائدات يسلكن طريقًا جديدًا في القارة التي جذبت لفترة طويلة البعثات الغربية والمتخصصين والمغامرين، لكن علماء آثار القارة لم يحظوا باهتمام الغرب.
تقول صادق: “من المهم أن يهتم الأفارقة بعلم الآثار الأفريقي، لأنه حينها سيكون لنا تراثنا الأثري، إننا نفهم الكثير لأننا من هنا، ويجب أن تتغير فكرة أن القادمين من الغرب يعلمون أكثر منا”.
تقول جمال القادمة من محافظة كردفان في الجنوب، والتي مزقتها الحرب، إن الصورة النمطية التي عززتها الأفلام وصناعة الأدب في الغرب أصبحت قديمة، وتضيف: “هناك فكرة معينة عن شكل علماء الآثار، لكن لا ينبغي أن يكون لهم صورة معيّنة أو لون أو سمات أو حتى جنس معيّن”.
لعقود، كانت الصورة النمطية لعلماء الآثار في أفريقيا مغايرة للواقع الذي يزداد تنوعًا، تقول الدكتورة غالية جار النبي -القائمة بأعمال مدير المتحف الوطني السوداني- إنها عندما كانت في الجامعة قبل 30 عامًا كان هناك 3 نساء فقط يدرسن علم الآثار، والآن أصبحن 20.
تقول جار النبي: “إنه تغيُّر عظيم وهام، أصبح هناك المزيد من الشابات في السودان المهتمات بمعرفة تاريخهن وهنّ يستحققن ذلك، قبل 12 عامًا لم يكن هناك سوى بعثات أجنبية تعمل في تنقيب الآثار، لكن الوضع تغير، والآن أصبح لدينا العديد من البعثات السودانية التي تنقّب في المواقع”.
يقول أليكس فاينز، مدير البرنامج الأفريقي في معهد “تشاتام هاوس” في لندن، ويعمل عالمًا للآثار في زيمبابوي وشرق أفريقيا منذ أكثر من 30 عامًا: “كان علماء الآثار الغربيين البيض يهيمنون على علم الآثار، لكن الوضع تغير تمامًا، وأصبح السكان الأصليون يقومون بالأمر”.
يقول المدافعون عن مشاركة المزيد من علماء الآثار الأفارقة في التنقيب بالقارة، إن ذلك سيساعد في هذا الجانب من المعرفة الذي أصبح منفصلًا عن الواقع.
تقول سادا ماير، عالمة الآثار الصومالية السويدية التي تعمل الآن أستاذة مشاركة في دراسات التراث بجامعة لندن كوليدج: “يمكن لعلماء الآثار أن يتحدثوا في أمور كثيرة مثل تكلفة المعيشة وأزمة المناخ والهجرة وانعكاس هويتنا، إننا بحاجة لبناء شيء جديد ومنصف وأكثر ثراء وملاءمة لنا”.
ساعدت ماير مؤخرًا في إطلاق مشروع مدّته عامَين في شمال كينيا، والذي يضمّ 35 شخصًا من المجتمعات المحلية لدراسة الفن الصخري، تقول ماير: “هناك أشخاص لم يفكروا أبدًا في علم الآثار، لكنهم يملكون الكثير من المعرفة التي لا نملكها، وقد كشف المشروع عن كيفية قيام الناس بشيء جيد عندما لا يجدون الرعاية، لكن يحصلون فقط على الأدوات والمعرفة اللازمة، إنها طريقة للربط بين عالمَين”.
بدأ الربط بين الاستغلال الاستعماري للقارة والبحث الأثري مبكرًا عام 1798، عندما غزا نابليون مصر بصحبة فريق من المتخصصين الفرنسيين الذين بدأوا بفهم تاريخ البلاد، لكنهم سرقوا أيضًا كمية ضخمة من القطع الأثرية عند عودتهم إلى فرنسا.
كان السودان مستعمرة بريطانية لما يقرب من 60 عامًا، ثم أداره عدد من المستبدين بفضل القوى الخارجية، لم يهتم سوى القليل منهم بعلم الآثار، وفي مثل هذه الظروف كان الدعم الغربي هامًّا للحفاظ على النشاط القليل مستمرًّا.
سافر حفنة من علماء الآثار السودانيين مؤخرًا إلى أوروبا للعمل في مواقع هناك، لينعكس ما كان يحدث قبل قرن مضى.
تقول الدكتورة إجلال المالك، مديرة قسم الحفظ بالهيئة الوطنية السودانية للمتاحف والآثار، إنها ممتنّة لعلماء الآثار الأجانب الذين لم يتوقفوا عن القدوم حتى في أحلك الأوقات، كانت مساعدة كبيرة منهم، لقد ساعدوا السودان حقًّا في الحفاظ على العمل واستمراره، وساعدوا في بناء قدرات علماء الآثار الشباب، “كنا بحاجة إلى محترفين والآن أصبح لدينا العديد منهم”.
سافر حفنة من علماء الآثار السودانيين مؤخرًا إلى أوروبا للعمل في مواقع هناك، لينعكس ما كان يحدث قبل قرن مضى، تقول المالك: “إننا ننتظر اليوم الذي يسافر فيه علماء الآثار الأفارقة بانتظام إلى أوروبا وأمريكا للتنقيب هناك”.
تتفق صادق (24 عامًا) مع ذلك، حيث إنها لم تغادر السودان قط، فتقول: “نودّ أن نكتشف المزيد ونسافر، أريد أن أعلم المزيد عن تاريخي وتاريخ العالم أيضًا، لماذا لا نذهب إلى الغرب وندرس تاريخهم كما درسوا تاريخنا؟ ربما بإمكاننا أن نعلّمكم شيئًا ما”.
لكن الموجة الجديدة من علماء الآثار الشباب في السودان وفي كل أنحاء القارة تواجه بعض العقبات، فبالنسبة إلى النساء خاصة، يواجه اختيارهن لتلك المهنة مقاومة من الأقارب والمدارس.
تقول جمال: “عارضت أسرتي الأمر لـ 3 سنوات، كانت هناك أسئلة كثيرة مثل: ما الذي ستفعلينه بتلك الشهادة؟ لما تصبحين عالمة آثار وأنت امرأة؟ كيف ستسافرين وحدك؟ لكنني كنت مصمّمة على ذلك”.
يواجه الرجال أيضًا إهمالًا وتحيُّزًا، يقول جوشوا كومباني (31 عامًا)، والذي قام بعمل رائد بجنوب أفريقيا حول صناعة الموسيقى في عصور ما قبل التاريخ، إن الناس كانوا يضحكون عندما يقول إنه عالم آثار.
ويضيف: “إنهم لا يفهمون لماذا اخترت تلك المهنة، فهم يعتقدون أنني أعمل في الوحل مع أشياء قديمة، بعضهم اتهمني حتى بأنني حفّار قبور، كان عليّ أن أشرح أن هذا ليس عمل علماء الآثار، أعتقد أنهم اكتسبوا تلك الأفكار من سلسلة أفلام “إنديانا جونز” والسينما، فليس لديهم أية معلومات كاملة”.
هناك نقص حادّ في الموارد، فقد أرهقت جائحة كوفيد-19 والأزمات الاقتصادية حكومات القارة، وفي الخرطوم تنعقد الدروس في مبنى عمره 50 عامًا تنقطع الكهرباء فيه باستمرار، وتصل الحرارة إلى أكثر من 40 درجة سليزية، وحتى في الدول الغنية نسبيًّا مثل جنوب أفريقيا، فإن التمويلات والتسهيلات تكون غير كافية.
يقول فاينز: “التحدي الأكبر الذي يواجهنا هو التوسع، هناك الكثير من التراث الأفريقي الذي لم يُكتشف بعد، والآن يهدده التطور والنمو السكاني”.
كانت مالك في طليعة حملة لإعادة الآثار المنهوبة أثناء فترة الاستعمار عندما يكون الوضع مناسبًا، كما ترى أن تطوير شباب الجامعات أمر مهمّ للسودان، وتضيف: “إننا نؤمن أن الوقت قد حان لنكتب التاريخ من وجهة نظر السودانيين”.
بالنسبة إلى صادق وزملائها في الخرطوم، فهناك الكثير على المحك أكثر من مهمة البحث واكتشاف الماضي مهما كانت أهميته، فالانقلاب العسكري العام الماضي حطّم آمال الانتقال السلس للديمقراطية بعد سقوط الديكتاتور عمر البشير عام 2019.
منذ ذلك الحين، قُتل أكثر من 100 شخص في الاحتجاجات ضد النظام الجديد، الذي تربطه علاقات وثيقة بالكثير من الأنظمة القمعية الخليجية وروسيا، تقول صادق: “لكي نكون بلدًا حرًّا، يجب أن يكون لدينا علماء آثار سودانيين”.
المصدر: الغارديان