صادق نواب المجلس الشعبي الوطني الجزائر (البرلمان)، الثلاثاء، على مشروع القانون المعدِّل والمتمِّم للقانون المتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما، والهادف إلى تسريع استرجاع الأموال المنهوبة من قبل رموز النظام السابق الذين أُودع العشرات منهم الحبس بتهم فساد، وذلك في خطوة تدعم التزام الرئيس عبد المجيد تبون بتعهُّداته التي أطلقها في حملته الرئاسية، حين ترشّح قبل سنوات لانتخابات 12 ديسمبر/ كانون الأول 2019، وجعل ملف استرجاع الأموال المنهوبة أساسها.
ورغم صعوبة استرجاع الأموال المنهوبة التي هرب كثيرًا منها إلى دول أجنبية يصعب الوصول إليها، إلا أن السلطات القضائية الجزائرية باشرت تعديل العديد من التشريعات التي تسهّل الوصول على الأقل إلى أكبر جزء من هذه الأموال، التي كبّدت خزينة الدولة خسائر بمليارات الدولارات.
تضييق الخناق
تسعى الحكومة من خلال هذا القانون إلى توفير حماية أكثر للاقتصاد الجزائري، وإلى سدّ الثغرات القانونية التي سمحت بنهب المال العمومي في السنوات العشرين الماضية تحت غطاء تشجيع الاستثمار الخاص، والتي تورّط فيها رؤساء حكومات ووزراء وبرلمانيون ورجال أعمال ومسؤولون من مختلف الدرجات، والذين قضت العدالة بمصادرة أموالهم وتسليط أقصى العقوبات عليهم.
وحسب وزارة العدل الجزائرية، فإن نصّ القانون المعدِّل والمتمِّم للقانون المتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما، يرمي إلى مواكبة التشريع الوطني للمستجدات الدولية وتكييف المنظومة القانونية بما يتوافق مع المعاهدات والاتفاقيات التي انضمّت إليها الجزائر، فضلًا عن كونه أداة جديدة لحماية الاقتصاد الوطني.
وتكمن أهمية مواكبة الاتفاقات الدولية في كون جزء كبير من الأموال المنهوبة هُرّب إلى الخارج ومودعًا ببنوك أجنبية، في مقدمتها مصارف سويسرا، إضافة إلى أن بعض المطلوبين لا يزالون في حالة فرار بالخارج، مثلما هو الحال لوزير الصناعة الأسبق عبد السلام بوشوارب.
وهنا نصَّ مشروع القانون على “توسيع مجال التعاون الدولي في كل ما يتعلق بطلبات التحقيق والإنابات القضائية الدولية وتسليم الأشخاص المطلوبين، وكذا بين الهيئة المتخصصة الجزائرية وهيئات الدول الأخرى التي تمارس مهام مماثلة مع مراعاة المعاملة بالمثل”.
الرئيس تبون: قيمة الأموال والممتلكات المنهوبة التي تمكّنت السلطات من استرجاعها خلال السنوات الثلاث الماضية بلغت 20 مليار دولار.
ويحدّد القانون الجديد العقوبات الإدارية المسلَّطة على المؤسسات المالية والمؤسسات والمِهَن غير المالية، كالمحامين والموثّقين ومحافظي البيع بالمزايدة أو مسيّريهم أو أعوانهم في حالة إخلالهم بالواجبات المفروضة عليهم، ويلزمهم بإبلاغ الهيئة المتخصصة بكل عملية مشبوهة.
ويتضمّن مشروع القانون الأحكام الجزائية المقترحة وتجريم أفعال جديدة، كما ينص على أنه في حالة عدم إثبات ارتكاب الجريمة الأصلية، تتم متابعة جريمة تبييض الأموال كجريمة أصلية، إلى جانب تعديلات أخرى تتعلق بمصادرة الأموال حتى في حالة غياب حكم بالإدانة.
وقال وزير العدل الجزائري، عبد الرشيد طبي، إن مشروع قانون الوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما سيعزّز آليات حماية الاقتصاد الوطني والمنظومة المالية والبنكية من هذا الشكل الخطير للإجرام.
وبيّن طبي أن مشروع القانون ينص على “إلزام الخاضعين للقانون باتخاذ الإجراءات والتدابير المناسبة لتحديد وتقييم مخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، والتي يتعين أن تتناسب مع طبيعة وحجم أنشطتها وطبيعة الخطر”، مشيرًا إلى أن الأمر يتعلق بالمؤسسات المالية التي “تمارَس لأغراض تجارية أو عمليات باسم أو لحساب زبون، على غرار تلقّي الأموال والودائع الأخرى القابلة للاسترجاع والقروض أو السلفات وغيرها من العمليات الأخرى”.
وزير العدل: 20 مليار دولار من الأموال والأملاك المنهوبة هو مبلغ أوّلي مرشح للارتفاع
ويلزم القانون الجميع بالتبليغ عن شبهات الفساد، إذ يطالب المؤسسات والمهن غير المالية التي “تمارس نشاطات غير تلك التي تمارسها المؤسسات المالية، بما في ذلك المهن الحرة المنظمة مثل المحامين عند قيامهم بمعاملات ذات خصائص مالية لحساب موكليهم والموثقين والمحضرين القضائيين ومحافظي البيع بالمزايدة وخبراء المحاسبة وغيرهم من الملزمين بتطبيق التدابير الوقائية بما فيها القيام بالإخطار بالشبهة”.
ويطالب القانون حتى الجمعيات المدنية بـ”ضرورة اتخاذ قواعد التصرف الحذر، لا سيما الامتناع عن قبول التبرعات والمساعدات المالية مجهولة المصدر أو المتأتّية من أعمال غير مشروعة أو من أشخاص أو تنظيمات أو هياكل ثبت تورطهم داخل تراب الجمهورية أو خارجه والامتناع عن قبول أي مبالغ مالية نقدية دون رخصة من الوزارة المختصة”.
20 مليار دولار
قبل أسبوع، كشف الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، في لقاء تلفزيوني، أن قيمة الأموال والممتلكات المنهوبة التي تمكّنت السلطات من استرجاعها خلال السنوات الثلاث الماضية بلغت 20 مليار دولار.
وبيّن تبون أن المبلغ المسترجَع يتمثّل في الأموال والأملاك والعقارات المصادرة والممتلكات المحجوزة، والمصانع والشركات التي كانت على ذمة رجال أعمال ومسؤولين، حصلوا عليها بطرق نهب المال العام وبطريقة غير قانونية.
وقال تبون إن “هناك أموالًا ضخمة تمَّ تهريبها على مدار 10 إلى 12 سنة لا نعرف حجمها الكامل، وهناك أموال وُضعت في خزائن، خاصة في سويسرا ولوكسمبورغ ودول تمثّل جنات ضريبية، نسعى لاسترجاعها بالقدر الممكن”.
وأكّد الرئيس الجزائري وجود “تعاون كبير من قبل الدول الأوروبية التي عبّرت عن استعدادها للتحرّي وإعادة الأموال إلى الجزائر وفقًا للشروط القانونية، بما فيها عقارات وفنادق 5 نجوم”.
والثلاثاء كشف وزير العدل، عبد الرشيد طبي، لدى مصادقة البرلمان على هذا القانون الجديد، تفاصيل جديدة حول الأموال المسترجعة، بالتوضيح أن 20 مليار دولار من الأموال والأملاك المنهوبة هو مبلغ أوّلي مرشح للارتفاع، بعد صدور أحكام قضائية جديدة قريبًا.
وأشار طبي إلى أن العدالة استرجعت 4213 ملكية عقارية، و211 فيلا وما يزيد عن 1000 شقة و281 بناية و14 مجمعًا سكنيًّا، إضافة إلى استرجاع 236 عتادًا زراعيًّا وأراضي فلاحية، و7 آلاف سيارة و4203 مراكب ما بين شاحنات وحافلات.
وأوضح طبي أن الأحكام القضائية ساهمت في استرجاع 23 ألف عقار وطائرات خاصة، إضافة إلى 213 منشأة صناعية، منها مصانع للسيارات والزيوت الغذائية والسكّر والأدوية.
استرجاع الأموال المهرّبة إلى الخارج يبقى صعبًا إلى أبعد الحدود، حتى لو تعاونت هذه الدول مع السلطات الجزائرية
ولا يوجد رقم محدّد لحجم الأموال المنهوبة، لكن تقارير رسمية قدّرتها بين 100 إلى 200 مليار دولار، بالنظر إلى خروج 1000 مليار دولار من الخزينة العمومية في العقدَين الماضيَين.
وبخصوص التعاون الدولي لاسترجاع الأموال المهرّبة، أكّد وزير العدل ما ورد سابقًا على لسان الرئيس تبون، وذلك لاقتناع الأجانب بمساعي الجزائر وجدّيتها، مشيرًا إلى تنسيق في هذا الاتجاه يجري مع فرنسا والولايات المتحدة وإسبانيا وإيطاليا لاسترجاع الأموال المهرّبة.
وفي سبتمبر/ أيلول الماضي، أفادت صحيفة “العربي الجديد” أن الحكومة تواصل تعقُّب الأموال المنهوبة في عدد من الدول الأوروبية، في مقدمتها فرنسا وإسبانيا وسويسرا.
ونقلت الصحيفة عن مصدر في اللجنة المكلفة باسترجاع الأموال المنهوبة، أن “أعضاء منها سيتوجّهون إلى سويسرا في الأيام القادمة، من أجل التدقيق في ملكية بعض العقارات التي يُعتقد أنها تعود إلى رجال أعمال مسجونين حاليًّا في قضايا فساد، ومحاولة ربط الاتصالات الأولى مع الحكومة السويسرية للوصول إلى الحسابات المالية التي توصّلت إليها التحقيقات القضائية في الجزائر”.
وكشف المصدر أن “اللجنة زارت فرنسا مطلع السنة ثم إسبانيا، واستطاعت استرجاع قرابة 40 عقارًا، بقيمة تلامس 500 مليون يورو من بينها فندق لرجل الأعمال علي حداد بمدينة برشلونة، وشقق فاخرة في باريس وليون وليل الفرنسية، مع العلم أنه توجد عشرات من الإنابات القضائية (تعاون قضائي) موجّهة إلى 11 دولة، هي سويسرا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا ولوكسمبورغ وبنما وأيرلندا الشمالية والصين وأميركا وكندا والإمارات العربية المتحدة”.
ومن خلال التفاصيل المقدَّمة، يتضح أن استعادة الأموال المنهوبة التي لا تزال داخل البلاد يبقى ممكنًا إلى حدّ بعيد في حال ما تمَّ معرفة مكانها، غير أن استرجاع الأموال المهرّبة إلى الخارج يبقى صعبًا إلى أبعد الحدود، حتى لو تعاونت هذه الدول مع السلطات الجزائرية، وذلك بالنظر إلى تجارب أخرى لدول حاولت الاشتغال على هذا الملف كمصر وتونس وليبيا، رغم اختلاف حالة الجزائر وعلاقاتها مع الدول الأجنبية عن هذه الدول العربية.
تخلٍّ؟
شكّل موضوع التسوية الودّية مع رجال الأعمال والمسؤولين المتهمين بقضايا فساد تتعلق بنهب المال العمومي حديثًا متواصلًا في الأوساط السياسية والمالية الجزائرية، بهدف استعادة الحكومة للأموال المنهوبة، ففي 7 سبتمبر/ أيلول الماضي درست الحكومة مشروع قانون قدّمه وزير العدل يتعلق بقمع مخالفة التشريع والتنظيم الخاصَّين بالصرف وحركة رؤوس الأموال من وإلى الخارج.
وجاء في بيان لمصالح الوزير الأول وقتها أن مشروع هذا القانون يقترح إطارًا قانونيًّا جديدًا، يعطي الأولوية لتحصيل الأموال الناتجة عن هذه المخالفات والمحافظة على مصالح الخزينة العمومية من خلال تشجيع اللجوء إلى آليات التسوية الودّية.
وفي الأساس تضمّن مخطط عمل حكومة الوزير الأول، أيمن بن عبد الرحمان، فقرة تحدّثت عن “مراجعة الإطار التشريعي المتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما، واستكمال مشروع القانون المتعلق بقمع مخالفة تشريع وتنظيم الصرف وحركات رؤوس الأموال من وإلى الخارج، من أجل تفضيل التسوية الودية على الإجراءات الجزائية، وذلك قصد تعزيز القدرات المالية للدولة، وستعكف الحكومة على تعزيز الشفافية فـي تسيير الأموال العمومية وتتبُّعه والوصول إلى الصفقات العمومية”.
هذا الملف سيظل محل اهتمام الرأي العام الجزائري، كونه يحدد مدى التزام الرئيس تبون بالوفاء بتعهُّداته.
وقال بن عبد الرحمان خلال عرضه برنامج حكومته على البرلمان قبل عام، إن التسوية الودّية بهدف استرجاع الأموال المنهوبة هي آلية أثبتت فعاليتها في العديد من الدول، مبيّنًا أنها “لا تتعلق بالأشخاص الطبيعيين ولا تمسّ بالعقوبات المسلطة عليهم، بل تخصّ الأشخاص المعنويين والشركات الأجنبية المتورطة في عمليات الرشوة”.
لكن التصريح الذي أدلى به الرئيس تبون في مقابلته التلفزيونية الأخيرة، أوحى بأن الحكومة قد تتخلى عن آلية التسوية الودية هذه، بالنظر إلى عدم تجاوب رجال الأعمال مع اليد الممدودة للحكومة لاستعادة الأموال المنهوبة.
وقال تبون في هذا الإطار لما سُئل عن إجراء مصالحة اقتصادية مع هؤلاء المدانين بنهب المال العام بإرجاعهم للمبالغ المسروقة مقابل تخفيف عقوبتهم: “إن الأخلاق لا تسمح بذلك، فهناك حيل اُكتشفت بعد 3 سنوات لإخفاء العائدات والممتلكات، فقد اكتشفنا لدى أحدهم مئات السيارات الفخمة”، في إشارة إلى رجل الأعمال محي الدين طحكوت القابع في السجن بتهم فساد عديدة.
وسواء اعتمدت الحكومة آلية التسوية الودية لاسترجاع الأموال المنهوبة أو اكتفت بانتهاج الطريقة التقليدية المتعلقة بالتحقيق والملاحقة، فإن هذا الملف سيظل محل اهتمام الرأي العام الجزائري، كونه يحدد مدى التزام الرئيس تبون بالوفاء بتعهُّداته، هذا الوفاء الذي قد يشكّل أهم محاور الحصول على ولاية رئاسية ثانية في حال ما أراد تبون البقاء بعد عام 2024 لـ 5 سنوات جديدة في قصر المرادية.