عاد الحديث عن قضية الدولار مرة أخرى مدفوعًا بارتفاع مطّرد للعملة الأمريكية أمام الدينار العراقي في الأسواق الموازية، المعروفة محليًّا في العراق بـ”السوق السوداء”، بعد أن وصل سعر صرف الدولار إلى 1590 دينارًا للدولار الواحد، في الوقت الذي يبيع فيه البنك المركزي العراقي الدولار بـ 1460 دينارًا للمصارف المعتمدة لديه.
بدأت قصة الدولار في العراق أواخر عام 2020، عندما رفع البنك المركزي العراقي سعر صرف الدولار رسميًّا من 1182 إلى 1460 دينارًا، بناءً على توصيات من البنك الدولي وتماشيًا مع الوضع الاقتصادي للعراق، الذي شهد أزمة اقتصادية كبيرة مع ذروة تفشي جائحة كورونا وانهيار أسعار النفط العالمية نتيجة الإغلاق الصحي.
وفي هذا الصدد، يقول الخبير المالي، أنمار العبيدي، في حديثه لـ”نون بوست”، إن السبب الرئيسي لتخفيض البنك المركزي قيمة الدينار العراقي يرجع لأسباب تتعلق بعجز الحكومة عن تغطية النفقات، وهو ما وفّر للحكومة قرابة 23% من الأموال التي تذهب للموازنة التشغيلية كرواتب للموظفين والمتقاعدين، لافتًا إلى أن سعر صرف الدولار قد كان استقر في مارس/ آذار 2020 عند 1480 دينارًا للدولار في الأسواق الموازية.
لم يلبث العراقيون أن تأقلموا مع سعر الصرف الجديد، حتى فوجئوا في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بارتفاع وصفه المراقبون حينها بـ”غير المفهوم”، عندما وصل سعر الصرف إلى 1500 دينار للدولار، إذ لم يستقرَّ سعر الصرف عند هذا الحد، حيث شهد اليومان الماضيان ارتفاعا قياسيا للدولار بالسوق السوداء ليصل إلى 1595 وهو ما أدى لموجة ركود اقتصادي غير مسبوق، وسط حالة من القلق والتوتر التي تشهدها الأسواق العراقية نتيجة التخوف من استمرار الارتفاع.
أسباب وتبريرات غير مقنعة
استبعد البنك المركزي العراقي في الأسابيع الماضية 4 مصارف عراقية أهلية -يمتلكها رجل الأعمال العراقي علي غلام- من مزاد بيع العملة، وهذه المصارف هي الشرق الأوسط والقابض وآسيا والأنصاري، إذ جاء الاستبعاد نتيجة توجيهات وتحذيرات من وزارة الخزانة الأمريكية من هذه المصارف المتهمة بتهريب العملة، وتهديد الفيدرالي الأمريكي للبنك المركزي باتخاذ إجراءات إضافية في حال عدم استبعادها.
في غضون ذلك، شهدت نافذة بيع العملة التابعة للبنك المركزي تراجعًا كبيرًا في الأسابيع الماضية، بعد أن شهد المزاد تراجعًا في بيع العملة بنسبة تتراوح بين 40-50%، وهو ما يراه اقتصاديون مرتبطًا بارتفاع سعر صرف الدولار في الأسواق الموازية (السوداء)، ما أدّى إلى ارتفاع سعر الصرف.
من جهته، برر البنك المركزي العراقي بداية ديسمبر/ كانون الأول الجاري انخفاض حجم مبيعات نافذة بيع العملة الأجنبية بتحوّل البنك إلى تأسيس منصة إلكترونية جديدة لبيع الدولار والحوالات الخارجية، معتبرًا أن بعض المصارف ليس لديها الاستعداد الكافي للدخول ضمن نظام “الأتمتة”، الذي جاء عمله متوافقًا مع متطلبات نظام تحويل الأموال الدولي الذي يضمن عدم تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
من جهته، يرى الخبير المالي محمود داغر أن تراجع مبيعات مزاد العملة يعزى إلى منع البنك المركزي 4 مصارف أهلية من شراء الدولار نتيجة العقوبات الأمريكية، مضيفًا أن البنك المركزي العراقي رضخ لمطالبات الولايات المتحدة باعتماد طريقة تدقيق جديدة ونظام تحويل سويفت (Swift) جديد بأسلوب شبيه بالنظام العالمي، ما يتطلب تفاصيل دقيقة عن الحوالات الخارجية، وهو ما أدّى إلى رفض العديد من الحوالات الدولية.
لم تقنع تبريرات البنك المركزي المواطنين العراقيين بأسباب ارتفاع الدولار، لا سيما أن جميع البيانات لم توضّح أسباب ارتفاع سعر الدولار، رغم ضخّ البنك المركزي عشرات ملايين الدولارات يوميًّا.
وبالعودة إلى الخبير المالي أنمار العبيدي، يضيف لـ”نون بوست” أن المطّلع على الأسواق العراقية الموازية يمكنه فهم ما يجري، معلقًا: “هناك سوق سوداء كبيرة للدولار في العراق، وأن عمليات شراء الدولار من الأسواق الموازية ازدادت بشكل كبير بعد استبعاد 4 مصارف من مزاد بيع العملة، ما قد يشي بأن هذه المصارف أو المساهمين بها لجأوا إلى شراء الدولار من الأسواق السوداء، ما تسبّب في ارتفاع أسعاره بشكل جنوني”.
وفي هذا الصدد، يرى الخبير في الشأن المالي والاقتصادي، نبيل جبار التميمي، أن الاجراءات المطلوبة لتفادي مخاطر ارتفاع سعر الصرف تتمثل بالتفاوض مع الخزانة الأمريكية لمنح فرص أكبر لتمرير الحوالات المتوسطة والصغيرة وتخفيف القيود.
وتابع في حديث صحفي لإحدى وسائل الإعلام، أن على الجهات الأمنية في العراق أن تتولى إيقاف عملية تهريب العملة برًّا وفقًا لما وصفه بـ”الحوالات السوداء”، ومنع نقل هذه الحوالات باتجاه تركيا وإيران، المشابهة بعمليات تهريب المشتقات النفطية، بحسب تعبيره.
ضغوط أمريكية
من ضمن أسباب ارتفاع سعر صرف الدولار ضغوط أمريكية مفاجئة على البنك المركزي العراقي، وهو ما أكّده عضو اللجنة المالية البرلمانية، جمال كوجر، إذ يوضّح أن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي كان قد اتخذ قرارات خاصة بعد قضية تهريب الأموال وفساد بعض المصارف العراقية، لافتًا إلى أنه تمَّ استبعاد عدة مصارف من مزاد بيع العملة، مع الشروع بتشديد كبير على الحوالات التي لم تكن تخضع لأي تدقيق كان من قبل.
كوجر، وفي حديث صحفي، أوضح أن هناك فقدانًا للثقة والسيطرة في البنك المركزي العراقي، الأمر الذي تسبّب في ازدهار سوق الصرافة الموازية، لتخلق سوقًا سوداء يستفيد منها أفراد يتحكّمون بالأسعار في ظلّ عدم التدخل الحكومي لمنع مثل هذه الممارسات.
ويذهب في هذا المنحى أستاذ الاقتصاد في الجامعة العراقية ببغداد، عبد الرحمن المشهداني، حيث وصف بيان البنك المركزي العراقي حول أسباب ارتفاع سعر الصرف بـ”غير المقنع”، معلقًا: “قد يكون هناك إرباك في التعامل مع المنصة الإلكترونية الجديدة، ولكن هذا الأمر لا يجب أن يحدث إرباكًا يرفع أسعار الصرف لمستويات قياسية”.
ويعزو المشهداني ما يحصل بالسوق الموازية للدولار إلى فرض البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي تعديلات على إجراءات الحوالات التي تمرّ بنظام سويفت، حيث يعتمد هذا النظام تدقيقًا لمصدر الأموال وحتى المستقبل النهائي، معتبرًا أن ذلك جاء بعد تبعات سرقة القرن، والتي كشفت مخططات لتهريب الأموال بقيمة تقدَّر بنحو 2.5 مليار دولار.
كل ذلك، بحسب المشهداني، أدّى إلى استبعاد ومعاقبة 4 مصارف كانت تستحوذ على حوالي 40% من مبيعات مزاد العملة، ما تسبّب في نقص العملة لدى بعض المتعاملين المعتمدين على هذه المصارف، وهو ما دفع بهؤلاء إلى الاعتماد على السوق الموازية.
الأسوأ قادم؟
أكدت صحيفة “ذا ناشيونال” في تقرير لها، أن الإجراءات التي اتخذتها السلطات الأمريكية مؤخرًا وتشديدها على عملية تحويل الدولار من العراق الى إيران، أدّيا إلى انخفاض قيمة الدينار العراقي في السوق السوداء. وجاء في التقرير أنه، وطوال سنوات، كان يجري تحويل كميات من الدولار إلى إيران وسوريا، اللتين تخضعان لعقوبات أمريكية، من خلال مزاد العملة الأجنبية التابع للحكومة العراقية.
واعتبرت الصحيفة أن عملية بيع الدولار في مزاد العملة كان حافلًا باتهامات الفساد وتبييض الأموال وتهريبها إلى إيران وسوريا من خلال استخدام سندات مزوّرة، وبالتالي أدرجت الولايات المتحدة مجموعة من المصارف العراقية التي تتعامل بشكل أساسي مع إيران على القائمة السوداء.
ونقل التقرير عن مسؤول بالبنك المركزي وعن نائب عراقي أن السفيرة الأمريكية في العراق تقدّمت بشكاوى للمسؤولين العراقيين في عدة مناسبات تتعلق باستمرار إرسال الدولار إلى إيران، إلا أن حكومة محمد شياع السوداني التي تولّت السلطة في نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي لم تعمد اتخاذ أي إجراء.
وبالتالي إن البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بدأ بتطبيق إجراءات تدقيق على الحوالات الخارجية، ما أدّى إلى تأخير عملية الإفراج عن الأموال من جانب الولايات المتحدة، من أجل تغطية الواردات والاحتياجات الأخرى، بحسب نصّ الصحيفة.
في الأثناء، يعتقد الباحث في الشأن الاقتصادي، محمد الحمداني، أنه وما لم تستجب الحكومة العراقية لمطالب الفيدرالي الأمريكي، وتمنع تهريب الدولار إلى إيران وسوريا عن طريق المصارف والحدود، فإن الولايات المتحدة قد تعمد إلى إضافة مزيد من المصارف الخاصة إلى اللائحة السوداء، ما سيؤدي إلى تحول ما وصفها بـ”كارتلات” تبييض الأموال إلى شراء الدولار من السوق السوداء، ما يعني استمرار ارتفاعه محليًّا.
وتابع في حديثه لـ”نون بوست” أن هذا الإجراء قد لا يستمر طويلًا، وقد يعمد الفيدرالي الأمريكي إلى تزويد الحكومة العراقية بكميات من الدولار تغطي النفقات التشغيلية للحكومة، معتبرًا أن ذلك سيدخل البلاد في متاهة اقتصادية لا تُعلم نهايتها، بحسب تعبيره.
ونبّه الحمداني إلى أن إجراءات البنك المركزي وتشديد الفيدرالي الأمريكي من إجراءاته على حركة الدولار داخل وخارج البلاد، أدّيا إلى صعوبات اقتصادية جمّة في إيران وسوريا. لافتًا إلى أنه ومنذ بداية ديسمبر/ كانون الأول الجاري، يشهد التومان الإيراني والليرة السورية انهيارًا قياسيًّا في القيمة السوقية، ما يعني أن إجراءات الفيدرالي الأمريكي استطاعت فعليًّا تقويض قدرة كل من إيران وسوريا على سحب الدولار من العراق، وفق الحمداني.
تداعيات لا مفر منها
لا تقف تداعيات ارتفاع سعر الدولار بالأسواق الموازية في العراق عند حدّ معيّن، إذ ورغم أن القطاع الاقتصادي في البلاد شهد ركودًا كبيرًا منذ بداية ديسمبر/ كانون الأول الجاري، يرى محلّلون أنه وفي حال استمرار هذا الارتفاع، فإن قطاعات حكومية ستتأثر كثيرًا بهذا الارتفاع.
وفي التفاصيل، اعتبر عضو اللجنة القانونية البرلمانية، سالم العنبكي، تذبذب سعر صرف الدولار في البلاد إحدى أبرز المشاكل التي تواجه إقرار الموازنة المالية العامة لعام 2023، لافتًا في حديث صحفي أن قانون الموازنة ومسودتها لا يزالان لدى الحكومة ولم يصلا البرلمان لغاية الآن.
أما عضو اللجنة المالية البرلمانية، جمال كوجر، فقد حدد انعكاسات زيادة أسعار الصرف على الاقتصاد العراقي بـ 4 تأثيرات؛ أولها زيادة التكاليف المعيشية على العراقيين يرافقه ارتفاع التضخم، أما التأثير الثاني فيتمثّل بإرباك السوق، فضلًا عن تخوُّف المستثمرين وأصحاب العمل بالقطاع الخاص من وضع خططهم الاستثمارية للفترة المقبلة، لا سيما أنهم يعتمدون على استيراد البضائع من الخارج بالدولار الأمريكي.
واختتم كوجر حديثه بالإشارة إلى أن استمرار الارتفاع قد يقود الاقتصاد العراقي إلى ركود بسبب حالة عدم اليقين، وسط عدم وجود أجوبة مقنعة لدى الجهات الرسمية تطمئن العراقيين والمستثمرين على حد سواء.
من جهته، أوضح الخبير المالي أنمار العبيدي لـ”نون بوست” أن ارتفاع سعر الصرف بالسوق السوداء سيؤدّي إلى مشكلات كبيرة في قطاع تنفيذ المشاريع الحكومية المحالة للمتعاقدين، مع الأخذ بالاعتبار أن التعاقدات الحكومية تتمّ بالدينار العراقي، وهو ما سيُحدث فجوة لدى الشركات المنفّذة للمشاريع فيما يتعلق بدراسات الجدوى للمشاريع المحالة، ما قد ينعكس بصورة مباشرة على تباطؤ تنفيذ المشاريع وصعوبة إحالة أخرى.
لا يزال ملف المظاهرات التي شهدها العراق في أكتوبر/ تشرين الأول 2019 حاضرًا في ذاكرة العراقيين، نظرًا إلى ما تسبّب فيه من تغيير في العملية السياسية بالبلاد، ومطالبة المتظاهرين في حينها بإصلاحات اقتصادية وسياسية. وفي هذا الصدد، توقّع رئيس حركة “كفى” السياسية، النائب السابق رحيم الدراجي، اندلاع ما وصفها بـ”ثورة الجياع” في العراق، بسبب ارتفاع الدولار المستمر في السوق المحلية.
وقال الدراجي -عمل عضوًا في اللجنة المالية البرلمانية بالدورة السابقة- إن استمرار ارتفاع الدولار أدّى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والأدوية والمواد الأخرى، ما سيدفع إلى رفع نسبة الفقر في البلاد التي سجّلت عام 2022 نسبة 25% وفقًا لوزارة التخطيط، وبالتالي سيؤدي ذلك إلى التأثير المباشر على الطبقة المتوسطة والفقيرة في آنٍ معًا.
وعن احتمالية اندلاع مظاهرات جديدة، أضاف أن “تداعيات كارثة استمرار ارتفاع الدولار المستمر في السوق المحلي، ستؤدي إلى غضب الشعب العراقي، خصوصًا من أصحاب الطبقة الوسطى والفقيرة، وهذا الأمر قد يدفع الى اندلاع ثورة جياع في عموم العراق، وهذا ما نتمنى حصوله لإزاحة أفسد طبقة سياسية حكمت العراق على مرّ السنين، وكانت سببًا بدمار العراق على مختلف الأصعدة”.
رغم مرور أكثر من شهر على بداية ارتفاع سعر صرف الدولار بالأسواق الموازية في العراق، لا تزال الإجراءات الحكومية وإجراءات البنك المركزي العراقي عاجزة عن كبح جماح ارتفاعه وسط حالة من الركود الاقتصادي في البلاد، وتخوُّف من استمرار ارتفاعه، ما قد يؤدي إلى عودة العراقيين إلى حالة الفقر التي كابدوها خلال فترة الحصار الاقتصادي الدولي على البلاد في تسعينيات القرن الماضي.