يحتفل العالم أجمع، ومنهم العراقيون، برأس السنة الميلادية ودخول عام 2023، إلا أن هذه الفرحة غير مكتمله مع وجود آلاف العراقيين يقبعون في مخيمات النزوح التي سببتها الحرب على تنظيم “داعش”، والتي أرغمتهم على ترك منازلهم عام 2014، بعد أن أعلن التنظيم سيطرته على ثلثَي مساحة العراق.
حوّلت الحرب حياة الكثيرين إلى فوضى ومعاناة استمرت حتى بعد طرد التنظيم من المدن العراقية في يوليو/ تموز 2017، بعد خوض معارك طاحنة استمرت 9 أشهر قادتها القوات العراقية بمساندة طيران التحالف الدولي.
وتختلف أمنيات وأحلام الذين اتخذوا من المخيمات موطنًا لهم منذ أكثر من 8 سنوات، فهي ليست كأمنيات من يعيشون في مناطق آمنة تحت سقف يحميهم وأرض ينامون عليها دون معاناة، فما هي أمنياتهم؟
يشكّل النازحون الإيزيديون غالبية سكان المخيمات الموجودة في إقليم كردستان العراق، وأحد هؤلاء النازحين الذين التقى بهم “نون بوست” هو الشاب خيري مراد (33 عامًا)، الذي يتخذ من مخيم إيسيان التابع لمحافظة دهوك (شمال إقليم كردستان العراق) موطنًا مصغّرًا له، إذ يقول: “ليس لدينا أحلام وإنما أمنيات بسيطة نتمنى أن تتحقق، إذ من يعيش داخل مخيمات النزوح تتبدد أحلامه ويصبح كل ما يتمناه هو العودة إلى بيته”.
تخرّج مراد من كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، ويعمل مترجمًا بأجر يومي لدى إحدى المنظمات في قضاء سنجار (غرب محافظة نينوى)، لكن عمله ليس مستقرًّا وما يجنيه منه لا يكفي لتحمّل تكاليف الحياة الصعبة وتوفير كافة متطلبات الحياة له ولأسرته.
جميع النازحين في مخيم إيسيان من الإيزيديين، ويبلغ عددهم 2470 عائلة نازحة من قضاء سنجار (غرب محافظة نينوى)، وتعد الإيزيدية أو اليزدانية واحدة من أقدم الديانات الشرقية القديمة التي ظهرت في وادي الرافدين قبل آلاف السنين، وهي من الديانات التي تدرّجت من العبادات الطبيعية إلى الوحدانية ولها معتقدات وطقوس خاصة بها.
وكان عدد الإيزيديين في العراق أكثر من 600 ألف نسمة، لكن عددهم الحالي غير معروف على وجه الدقة، بسبب الهجرة المستمرة من العراق بعد الهجمات التي تعرّضوا لها على يد “داعش”.
تردُّد وقلق
بالعودة إلى مراد، الذي هاجر إلى ألمانيا وقت احتلال التنظيم قضاء سنجار بحثًا عن حياة آمنة، إلا أنه لم يتحمل الغربة هناك ليعود إلى عائلته عام 2021، فيقول: “بعد عودتي، لا نشعر أنا وعائلتي بالاستقرار داخل المخيم، لقد مرَّ أكثر من 7 أعوام ونحن لا نستطيع مغادرة هذا المخيم الذي هو بمثابة سجن في فضاء مفتوح، وسط تجاهُل حكومي لحالنا ومعاناتنا. نتمنى الاستقرار في قضاء سنجار حتى نفكر بالعودة إلى منازلنا ذات يوم”.
ويضيف مراد: “الحياة التي نعيشها داخل المخيمات كنا نتوقعها حياة مؤقتة، لكن ما حصل هو بعيد عن توقعاتنا. لم نعد نتحمل الحياة أكثر ممّا تحملناه، من حرارة الصيف و قسوة برد الشتاء والأمطار وسوء البنى التحتية”.
مردفًا: “لكن هناك مخاوف ما زالت تعيش معنا تجعل أمر عودتنا إلى مناطقنا أمرًا صعبًا، وهي عدم الاستقرار الأمني في تلك المناطق حتى بعد تحريرها من “داعش”، حيث ما زالت هناك قوى سياسية وميليشيات ماسكة للأرض ويحصل بينهم قتال وصراعات تهدد حياتنا عند العودة، وقبل أسابيع حدث تفجير إرهابي في المنطقة التي كنت أعيش فيها، فكيف أشعر بعدها بالأمان أنا وأسرتي؟ أعتقد أن العودة في الوقت الحالي مستحيلة”.
ويكمل مراد حديثه لـ”نون بوست”: “في الحقيقة، أمنياتي لعام 2023 هي أمنيات لا تشبه أمنيات الآخرين، أمنيتي الأولى هي الحصول على التعويض أو على عمل في القطاع الحكومي حتى نتمكن من العودة إلى منزلنا”.
لا توجد تعويضات
منذ إعلان تحرير المدن العراقية من قبضة التنظيم، يكافح عدد كبير من الأهالي للحصول على التعويضات الناتجة من العمليات الإرهابية وما سبّبته من ضرر لمنازلهم وممتلكاتهم، وكان مراد أحد هؤلاء الذين تقدّموا بطلب التعويض دون أن يستلم دولارًا واحدًا أو حتى جوابًا كافيًا يعلّق عليه آماله.
“إضافة إلى التحديات التي أشرت إليها، ما يجبرني أيضًا على البقاء داخل المخيمات هو عدم استطاعتي على توفير المبالغ الكافية لإعادة بناء منزلي المهدّم نتيجة الحرب على “داعش”. لقد هدمت الحرب منازلنا بالكامل، تقدّمتُ بطلب التعويض إلى الحكومة العراقية ولم أتلقَّ أي رد إيجابي حول الطلب سوى الوعود الكاذبة والتأجيلات التي نسمعها وتعودنا عليها منذ سنوات. لا أعلم متى يتم تعويضنا، هذا السؤال الذي لا إجابة له”، يقول مراد.
وفي تقرير نشرته المفوضية العليا للأمم المتحدة، أشارت فيه إلى أن النزاع في العراق أدّى إلى نزوح 4.4 ملايين شخص داخليًّا، فيما رجّحت منظمات دولية أن الأرقام الحقيقية قد تكون أكبر ممّا هو معلن.
أما عن حجم الأضرار، فقد أشار تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال”، أن العملية العسكرية ضد “داعش” أسفرت عن أضرار بقيمة 45.7 مليار دولار في المنازل ومحطات الطاقة والمدارس والبنية التحتية في البلاد.
في عام 2015، أُنشئ صندوق بقيمة 400 مليون دولار للإسهام في إعادة إعمار العراق، تلقت منه الموصل -وهي المدينة الأشد تضررًا- ما مجموعه 252 ألف دولار فقط عام 2017، كما تشير التقديرات الحكومية إلى أن العراق يحتاج إلى 100 مليار دولار لإعمار المناطق التي تضررت جرّاء الحرب ضد تنظيم “داعش”.
في مخيم شيخان (محافظة دهوك) يعيش الشاب سالم رشو (24 عامًا) مع أسرته، بعدما غادروا قضاء سنجار في أغسطس/ آب 2014 متجهين إلى محافظة دهوك، سكنوا حينها في مدرسة لرياض الأطفال لفترة 3 أشهر قبل انتقالهم الأخير إلى المخيم الذي يعيشون فيه الآن.
طوال الرحلة الشاقة من سنجار إلى المخيم، عاش رشو وأسرته مثلما عاش آلاف غيره من الإيزيديين، بدءًا من الجوع والعطش وخطورة الطريق، وصولًا إلى المخيم الذي يعيشون فيه، والذي يفتقر إلى أبسط أساسيات الحياة، بحسب تعبيره.
وضع أمني متذبذب
يعيش رشو هو وأسرته المكوّنة من 8 أشخاص موزعين على خيمتَين، بمساحة صغيرة لا تمنحهم الراحة والخصوصية، مناشدًا الجهات الحكومية لتحسين ظروف حياتهم وتعويضهم عن الأضرار التي لحقت بهم، إذ يقول: “من غير المعقول أن يعيش أي إنسان لمدة 8 سنوات داخل المخيمات التي لا تحميهم من حرّ ولا برد، مع فقدانه لأبسط مستلزمات الحياة”.
ويقول رشو: “تصلنا الأغذية الجافة مرة واحدة كل 4 أشهر، لكن بالتأكيد نحن لا نعتمد عليها كليًّا لأنها لا تكفي سوى لأيام معدودة، وهذا الدعم البسيط نتلقاه من المنظمات المحلية والدولية، أما الجهات الحكومية فلا تقدّم لنا شيئًا بالوقت الحالي، فقط قامت بتوزيع 100 لتر من زيت الغاز الذي نستخدمه للتدفئة والطبخ”.
يضيف الرشو: “أمنيتي في عام 2023 هي نفسها أمنية كل شاب عراقي ومواطن يعيش ظروف النزوح، أن نعيد ما خسرناه طوال السنين الماضية، لقد ضاعت منا سنين وأمامنا حياة نريد أن نعيشها بسلام من خلال العودة إلى مناطقنا ونقوم بإعمار منازلنا، لكن الوضع الأمني هو أكثر عائق يقف أمام طريقنا، حيث تسيطر جماعات مسلحة متعددة إضافة إلى القصف التركي على مناطق جبال سنجار، لذلك الوضع ليس آمنًا بما يكفي للعودة”.
يعمل الرشو محاضرًا بالمجان يعلّم الطلبة داخل المخيم، لذا هو يتمنى أن يحصل على وظيفة بالقطاع الحكومي تمكّنه من تأسيس حياته وتأمين مستقبله.
الشاب أحمد كجو علو، البالغ من العمر 35 عامًا، هو الآخر يسكن مخيم إيسيان، يقول: “إن الأوضاع داخل المخيمات يرثى لها، فمنذ بداية عام 2022 قُطعت عنا المساعدات في جميع المخيمات بسبب الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وأصبح الدعم يوجَّه إلى مناطق الحرب، ما أثّر على حجم المساعدات التي تأتي إلينا”.
كان علو يعيش في ناحية القيروان التابعة لقضاء سنجار، غادر بداية احتلال “داعش” المنطقة في 3 أغسطس/ آب 2014، توجّه مع عائلته إلى فوق جبل سنجار وبقيَ عدة أيام، قبل أن يغادر نحو محافظة الحسكة داخل سوريا، ثم العودة من هناك إلى إقليم كردستان العراق.
يقول علو: “خلال تلك الرحلة الطويلة والشاقة، عشنا حياة كنا نتمنى فيها الموت، حيث لا يتوفر أي شيء، لا الطعام ولا الشراب والطريق خطر و”داعش” يرمي علينا بشكل عشوائي عندما غادرنا سنجار من فوق الجبل. بقينا في زاخو لمدة عام، حينها لم تكن المخيمات جاهزة لإيواء الناس، بعدها ذهبنا إلى مخيم إيسيان في 29 يناير/ كانون الثاني 2016 وحتى هذا اليوم”.
كنت أسمع أن “داعش” قتل جميع من وقع في الأسر والنساء تمَّ سبيهن. كان علينا أن نسير على الأقدام من العراق إلى الحدود السورية.
علو هو الآخر يشكو من نقص الخدمات وقلّة الدعم المقدم لهم داخل المخيم، ويقلّ الدعم يومًا بعد يوم، ما يجعل حياتهم صعبة، أما عن عودته إلى منزله يقول: “إن منزلي في سنجار مدمَّر بالكامل، ومجرّد التفكير بالعودة إلى هناك يحتاج أموالًا كثيرة، لقد خسرت كل شيء من أثاث وممتلكات أخرى خلال الحرب الطاحنه ضد “داعش”، ولم نستلم أي تعويض مالي جرّاء الضرر”.
يشكو رشو وغيره ممّن يعيش في المخيمات من صغر مساحة الخيم ورداءة نوعية غطائها وقدمه منذ سنوات، حتى أصبح سهل الاحتراق بسبب تماسّ كهربائي، ما تسبّب في حرائق خيم نتجت عنها أضرار مادية وخسائر بشرية.
وقد خُصِّص مخيم إيسيان لاستقبال النازحين من قضاء سنجار، ويضم 3002 خيمة تحوي 2540 أُسرة، فيما يعيش أكثر من 330 ألف نازح من سنجار في مخيمات محافظة دهوك منذ عام 2024.
“أمنياتي كأمنيات باقي الناس، راحة البال. أنا أتعجّب في بلد مثل العراق الغني بالثروات، يعيش أهله حياة مأساوية ومصاعب وفقرًا شديدًا، لماذا لا نعيش كما تعيش دول الخليج مثلًا؟ أو بقية الدول الأخرى التي لديها موارد وثروات أقل بكثير ممّا يمتلكه العراق. لكن للأسف الفساد والفاسدين هما سبب ما يحصل لنا”، يقول رشو.
ويضيف: “أتمنى أن يأتي ذلك اليوم وأغادر فيه الخيمة التي لا تتجاوز مساحتها 20 مترًا مربعًا. المساعدات تصل إلينا 100 لتر من زيت الغاز، عدا ذلك لا يصل إلينا أي شيء، كانت المنظمات المحلية والدولية تعمل بشكل فعّال لكن قلَّ الدعم في السنوات القليلة الماضية”.
لم تتخيّل الشابة سارة سلو (22 عامًا) أنها ستنجو يومًا من سطوة “داعش”، إذ تقول: “لقد كنت من بين الـ 350 ألف شخص الذين تمّت محاصرتهم في جبل سنجار وبقينا دون ماء ولا طعام، لقد مات مئات من كبار السن والأطفال نتيجة عدم توفر الطعام وتحمُّل الظروف الصعبة، مع معاناة برودة الجو ليلًا وحرارة الشمس نهارًا والجوع والتعب والخوف”.
وتكمل: “كنت أسمع أن “داعش” قتل جميع من وقع في الأسر والنساء تمَّ سبيهن. كان علينا أن نسير على الأقدام من العراق إلى الحدود السورية، في ذلك الوقت كنا نسمع أخبارًا بشكل يومي أن هناك قوة قادمة لفكّ الحصار عن الجبل، ونفرح، ثم تخيب الآمال دون رؤية أي قوة قادمة لمساعدتنا”.
صراعات سياسية تعيق العودة
تعيش الشابة الإيزيدية سلو في مخيم كبرتو التابع لقضاء سميل في محافظة دهوك، بعدما عاشت رحلة طويلة خلال فترة النزوح جرّاء هجوم “داعش”، تقول: “كان حالي خلال فترة النزوح من سنجار يشبه حال آلاف الإيزيديين، بقينا عشرات الليالي دون مأوى، لا نحمل معنا سوى ثيابنا التي هربنا بها. وبعد أن فُتح ممر آمن لخروج العوائل من الجبل باتجاه سوريا، غادرنا باتجاه معبر فيشخابور ومنه إلى محافظة دهوك، بعد ذلك تمَّ بناء المخيمات، ومنها مخيم كبرتو الذي أعيش فيه الآن مع عائلتي”.
يقدّر المركز الدولي للمفقودين، الذي يعمل بالشراكة مع الحكومة العراقية للمساعدة في استعادة المفقودين وتحديد هويتهم، أن عدد النازحين داخليًّا 3.2 ملايين شخص، في حين يحتاج أكثر من 8 ملايين شخص إلى مساعدة إنسانية، كما يقدّر أن عدد المفقودين في العراق قد يتراوح بين 250 ألفًا إلى مليون شخص.
تصف سلو الحياة داخل المخيمات أشبه بحياة الجحيم، والوضع مشابه لحياتها عندما كانت محاصرة مع عائلتها فوق جبال سنجار، “تجرف سيول الأمطار خيامنا في الشتاء، وتحترق خيامنا في الصيف، حتى خسرنا عشرات الأرواح نتيجة الحروق المتكررة”، تقول سلو.
وتضيف: “أتمنى أن يتحقق الأمان والاستقرار في عام 2023 حتى لا يضطر أن يهاجر بقية المكوّن الإيزيدي كما هاجر الآلاف منهم خلال احتلال تنظيم “داعش” مناطقنا، وهذا أبسط ما نطالب به، العيش بسلام وكرامة في أرضنا. كما أطالب الحكومة العراقية بتحقيق العدالة في محاسبة عناصر “داعش” وتقديمهم للعدالة، حيث لا توجد جدّية من قبل الحكومة في محاسبة مرتكبي الإبادة الإيزيدية، وحتى اللحظة لم تعترف الحكومة بالإبادة بشكل رسمي إلا عن طريق فقرة من قانون الناجيات الإيزيديات”.
وتقول: “أحد أحلامي أن يتم إعادة الإعمار لمدينتنا، وأن نتمكن من العودة بكرامة، لكننا كطائفة إيزيدية هناك عدة أسباب لا تسمح لعودتنا في الوقت الحالي، منها الصراعات السياسية والعسكرية بين الأطراف المختلفة، المحلية والإقليمية والدولية، المدينة مدمّرة بالكامل، ولا توجد قوة موحّدة تمسك الأرض، إضافة إلى عدم وجود إرادة أو رغبة حقيقية من قبل الحكومة العراقية في عودة الإيزيديين إلى أراضيهم”، بحسب وصفها.