في أرفع لقاء رسمي منذ 12 عامًا، حققت موسكو اختراقًا كبيرًا بجمعها وزير الدفاع التركي، خلوصي آكار، مع نظيره السوري، علي محمود عباس، وحضر الاجتماع رؤساء الاستخبارات في البلدَين بالإضافة إلى رئيس الاستخبارات الروسي، وذلك بعد أشهر من التصريحات التركية التي بينت رغبتها وعزمها على بدء المسار التطبيعي والتفاوضي مع نظام الأسد، بعد سنوات من القطيعة والعداء بين الجانبَين.
أصدرت وزارة الدفاع التركية بيانًا قالت فيه إن الاجتماع “تضمّن مناقشة الأزمة السورية، ومشكلة اللاجئين، والجهود المشتركة لمحاربة كل التنظيمات الإرهابية في سوريا”، وأوضح البيان أنه نتيجة للاجتماع الذي جرى في “جو بنّاء، تمّ الاتفاق على استمرار اللقاءات الثلاثية، لضمان الاستقرار والحفاظ عليه في سوريا والمنطقة ككل”، بدوره صرّح وزير الدفاع التركي، خلوصي آكار، أنه أكّد خلال الاجتماع الثلاثي “على ضرورة حل الأزمة السورية بما يشمل جميع الأطراف، وفق القرار الأممي رقم 2254″، فيما وصف الجانب السوري لقاء موسكو مع وزير الدفاع التركي بأنه كان “إيجابيًّا”.
كما يبدو أن هذا اللقاء مقدمة لاجتماعات أكبر تصل إلى اجتماع قمة بين بشار الأسد ورجب طيب أردوغان، وهو ما أكّده الأخير بقوله إنه “اقترح على الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تشكيل آلية ثلاثية مع روسيا وسوريا لتسريع الدبلوماسية بين أنقرة ودمشق”، مضيفًا أنه “يمكن أن تجتمع وكالات استخباراتنا أولًا، ثم وزراء دفاعنا، ثم وزراء خارجية، وبعد ذلك يمكن أن نلتقي كقادة، وهو ما يمكن أن يفتح الباب لسلسلة من المفاوضات”، مشيرًا إلى أن الرئيس الروسي رأى المقترح إيجابيًّا، وبالفعل بعد أسبوع من تصريحات الرئيس التركي بدأت الوساطة الروسية تؤتي أكلها بالنسبة إلى تركيا التي غيّرت سياستها تجاه النظام السوري.
أين المعارضة السورية؟
في تصريحات تلت لقاء موسكو، قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إن “عددًا قليلًا جدًّا من الجماعات المعارضة في سوريا، نظرًا إلى مصالحها الخاصة، ردّت على الخطوات التي اتخذتها تركيا فيما يتعلق بسوريا، لكن لم يكن هناك أي رد فعل من ممثلي المعارضة السورية”، مشيرًا إلى أنهم هم “ضامن المعارضة السورية”، وأضاف جاويش أوغلو: “نحن لا نتحرك ضد مصالح المعارضة السورية، بل على العكس، نحن نواصل اتصالاتنا من أجل المساهمة في التوافق على خارطة الطريق التي يريدونها”.
توضّح تصريحات جاويش أوغلو أن المعارضة السورية الرسمية، متمثلة بالائتلاف الوطني السوري والجيش الوطني السوري، إضافة إلى هيئة التفاوض واللجنة الدستورية، لم تبدِ اعتراضًا على التحركات التركية بالتقارب مع نظام الأسد، وهو الأمر الذي يستغربه الكثير من السوريين، إذ إن من الثوابت التي قامت من أجلها الثورة السورية هي إسقاط النظام الذي قتل مئات الآلاف، مهما كانت الظروف أو حجم الضغوط.
لكن يبدو أن كلام جاويش أوغلو حقيقي، خاصة أن مؤسسات المعارضة الأربع، والتي تحمل على عاتقها التحدث باسم السوريين في المحافل الداخلية والخارجية، لم تعطِ أي موقف من محاولات التقارب التركي الأخيرة تجاه الأسد، كما أنها لم تصدر أي بيان يتحدّث عمّا يحصل ولو مواربة، وهو ما يبيّن أن المعارضة استبعدت من الحسابات التركية في المفاوضات مع النظام السوري وروسيا، لكن أنقرة حرصت على إبقائها في حسابات المعارك العسكرية مع الوحدات الكردية، وهو ما أثار غضبًا شعبيًّا سوريًّا.
يقول الكاتب والباحث السوري، عبد الرحمن الحاج، بعد انتشار خبر لقاء موسكو: “انتظار المعارضة وقوع الفأس بالرأس لاتخاذ قرار بشأن المستقبل القريب هو انتحار غبي”، وهنا يجدر بنا السؤال عن موقع المعارضة السياسية والعسكرية من الموقف التركي الجديد من النظام السوري، خاصة أن الائتلاف أو الجيش الوطني لم يصدر منهما أي تعليق على ما يحدث من تقارُب.
في أغسطس/ آب الماضي، أوصلت تركيا تطمينات إلى المعارضة السورية بعد حديثها عن ضرورة إجراء مصالحة بين النظام والمعارضة السورية، إذ قالت الخارجية التركية آنذاك إنها تعلن عن تقديرها ودعمها لمساهمة المعارضة السورية في العملية السياسية في إطار قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 لعام 2015، الذي ينصّ على وقف فوري لإطلاق النار في جميع أنحاء سوريا، وبدء مفاوضات سياسية، وتشكيل حكومة وحدة في غضون عامَين تليهما انتخابات.
عقد جاويش أوغلو، حينها اجتماعًا مع قادة المعارضة السورية، بعد أن كشف وزير الخارجية التركي عن وجود اتصالات بين تركيا والنظام السوري، وأنه التقى نظيره السوري، فيصل المقداد، على هامش اجتماعات دول عدم الانحياز في بلغراد في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وتأكيده ضرورة تحقيق المصالحة أو “التوافق” بين المعارضة والنظام لأن ذلك هو السبيل لإقرار سلام دائم في سوريا.
وعن غياب المعارضة السورية عن المشهد كاملًا، نشرنا تقريرًا في “نون بوست” يوضّح خلفيات الغياب غير المبرر لمؤسسات المعارضة السورية عن المشهد، إذ أوضح مصدر مسؤول من داخل الائتلاف أن تعليمات سالم المسلط، رئيس الائتلاف، كانت واضحة تجاه طلب التصاريح الإعلامية المتعلقة بالتقارب التركي مع النظام السوري، وهي أن تحال إليه جميع التساؤلات والحوارات الإعلامية، التي لا يجيب عليها من الأساس.
#لقاء_موسكو كشف حقيقة متصدري هياكل المعارضة المحنطة التي صمتت صمت القبور وكأن ماحصل هناك لا يعنيها لا من قريب ولا من بعيد.#لن_نصالح
— محمد ياسين نجار (@MyasseinNajjar) December 29, 2022
وفقًا للمصدر ذاته، إن “أعضاء الائتلاف والأمين العام لا يجرؤون على التعليق على العلاقات التركية مع النظام السوري، تخوفًا من أي أضرار أو ملاحقة أمنية من الاستخبارات التركية، بالتعاون مع المسلط الذي لا يجرؤ الخروج عن الإرادة التركية”.
معارضة على الهامش
رغم كل الخطوات التركية التطبيعية مع نظام الأسد، إلا أن الائتلاف يرى أنه “ليس لديه أي بوادر أو معطيات تشير إلى تبدُّل في الاستراتيجية التركية تجاه الملف السوري”، وقال أمين سر الهيئة السياسية في الائتلاف الوطني السوري، عبد المجيد بركات، في تصريحات سابقة، إن “ما يُطرح اليوم فرضيات لا تمسّ جوهر العلاقة بين قوى الثورة والمعارضة والجانب التركي”.
أشار الباحث والكاتب السوري، عباس شريفة، خلال حديثه لـ”نون بوست”، إلى أن “المعارضة غائبة في كثير من الملفات، حالها حال أطراف أخرى مثل إيران حليفة نظام الأسد”، ويبيّن شريفة أنه “ربما تتواجد المعارضة في قادم الأيام ضمن خطة تركيا في محادثاتها، وذلك في اللقاءات السياسية التي ستتمّ بعد الاجتماعات الاستخباراتية والعسكرية”.
يرى شريفة أيضًا أن “تركيا لن تبقى في دور الضامن بالنسبة إلى المعارضة، إنما ستكون وسيطًا بين النظام والمعارضة، وهو ما لا يجب أن تقبل به المعارضة السورية، خصوصًا أن المفاوضات ستكون مباشرة بين الأسد والمعارضة ستبقى خارج إطار القرارات الدولية”.
الباحث في مركز الحوار السوري، محمد سالم، يتفق مع شريفة بأن “المعارضة ستكون موجودة لاحقًا في أي تقدُّم بالخطوات التركية”، مضيفًا: “عدم وجود المعارضة الآن هو نتيجة للحرص الروسي على إظهار أن النظام هو ممثل الدولة السورية”، لكن يرى سالم في مداخلة له لـ”نون بوست” أن “تركيا ستُدخل المعارضة في الحل السياسي القادم، خاصة أنها استثمرت بمؤسسات المعارضة لفترة طويلة، وهذا الأمر ليس من فراغ”.
ما سبق كان على الصعيد السياسي، أما في الجانب العسكري متمثلًا بالجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، يرى أحد القياديين أن ما يحصل “ما زال غير مفهوم”، ويقول القيادي، الذي رفض الكشف عن اسمه، لـ”نون بوست” إن “تركيا لم تبلغنا بأي شيء، أبلغونا منذ فترة وجيزة بأنهم على استعداد للقيام بعملية عسكرية ضد الوحدات الكردية، ويجب أن نكون على أهبّة الاستعداد، لكننا اليوم نرى اجتماعًا في روسيا مع نظام الأسد”.
كما يرى القيادي في الجيش الوطني أن “السياسة التركية بدأت تتغير ولم يعد بالإمكان الاعتماد كثيرًا على أنقرة، كما أننا كمعارضة مسلحة يجب أن نضع الخطط لما بعد ذلك، وألّا نتخلى عن قضيتنا مهما تاجرت بها الدول”، مضيفًا: “يوجد بعض القادة والفصائل الذين يقبلون كل ما يأتي من أنقرة مهما كان، حتى لو كان يمسّ بالقضية”، ويشير القيادي إلى أنه “لا يوجد رؤية واضحة لدى أحد من التشكيلات عمّا يجب أن نفعله في حال تخلت تركيا عنا ورفعت يدها، وكذلك إن الائتلاف الغارق بالمشكلات والفساد المالي لا يُرتجى منه شيء”.
أيها الأحرار:
دافعوا عن ثورتكم في ميادين الحرية، وفي ساحات النضال، وأسمعوا العالم صوتكم، واخترقوا به القلوب الصمّ والآذان الغلف وأعلموهم أنه لا صلح مع القاتل ولا تراجع عن مبادئ الثورة ولو بقينا وحدنا وتخلت عنا جميع دول العالم.#لن_نصالح pic.twitter.com/qL5rUgSBLp— وسام القسوم (أبو عمرو) (@wisamalkassom) December 29, 2022
يتساءل القيادي السوري المعارض عن مصير مسار أستانة وسوتشي الذي قبلت المعارضة بالمشاركة به بضغط تركي، وعمّا إذا كانت تركيا ضربت بالقرارات الأممية عرض الحائط وبدأت مسارًا خاصًّا بها وبروسيا وفق تفاهمات واتفاقيات معيّنة، ويرى أن “الحل بالنسبة إلى المعارضة هو توحيد الرؤية للعمل على أساس أن تركيا ستطبّع مع النظام ويصبح هناك علاقات بينهما”.
إدانة شعبية
في ظل غياب وتواري المعارضة الرسمية السورية عن الحديث في موضوع التقارب التركي مع النظام، ظهرت عدّة مواقف من جهات معارضة وشعبية مندِّدة بما يحصل ومشدِّدة على قيم الثورة السورية، حيث أصدر المجلس الإسلامي السوري بيانًا شديد اللهجة، قال فيه إن “دعوات المصالحة والتطبيع مع النظام تترى على قدم وساق”، مؤكدًا على أن “الموت ونحن نتجرّع السم أهون ألف مرة من أن نصالح عصابة الإجرام التي دمّرت سوريا وأبادت أهلها”.
أوضح البيان أيضًا أن “مصالحة تلك العصابة تعني أن يموت شعبنا ذلًّا وقهرًا، وتعني بيع دماء الشهداء الذين مضوا وهم ينشدون كرامة سوريا وعزة أهلها”، داعيًا إلى “الثبات الكامل على مطالب الثورة السورية، والتمسُّك بوثيقة المبادئ الخمسة التي أصدرها من قبل”. كما أشار البيان إلى أن المجلس الإسلامي “يثمّن دور الدول المضيفة للشعب السوري المهاجر”، مطالبًا إياها “بضمان حقوق المهاجرين، وعلى رأسها العودة الطوعية الحقيقية الآمنة، التي لا تكون إلا بعد زوال عصابة الإجرام”.
قالت كذلك حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام، إن المباحثات التركية مع نظام الأسد “تأتي لأجل إحراز تقدم في ملف اللاجئين قبيل الانتخابات التركية القادمة من جهة، ولممارسة مزيد من الضغط على قوات “قسد” من جهة أخرى، وأوضح بيان الحكومة أن النظام السوري “لا يملك النوايا الحسنة للمشاركة بإزالة المخاوف والتهديدات الأمنية لصالح سلامة وأمن تركيا، فضلًا عن عدم قدرته على ذلك”، مضيفة أنه “السبب الرئيسي في دفع ملايين السوريين للجوء”.
وأكّدت الإنقاذ على أن النظام “لم يتغير سلوكه أو يبدل نهجه ضد الشعب السوري من قتل وتشريد واعتقال، بل تجاوز ذلك بتحويل المناطق التي يسيطر عليها إلى معامل لتصدير الكبتاغون، ورعاية تجارة المخدرات”، مشيرة إلى أنها “تتفهّم الضغوط التي تواجهها تركيا على المستوى المحلي والدولي ونتضامن معها، إلا أننا نرفض ونستنكر أن يُقرر مصير هذه الثورة بعيدًا عن أهلها، لأجل خدمة مصالح دولة ما أو استحقاقات سياسية تتناقض مع أهداف الثورة السورية”.
على الصعيد الشعبي، وجّه ناشطون في العديد من مدن وبلدات الشمال السوري دعوات للتظاهر ردًّا على اللقاء الذي احتضنته موسكو تحت شعار “انتفضوا لنعيد سيرتها الأولى”، وقالت “الفعاليات الثورية” في مدينة الباب إن هدف المظاهرات هو “التأكيد على ثوابت وأهداف الثورة ورفض كل المخططات التي تهدف إلى تعويم النظام السوري”، فيما عنونت الدعوى بجملة “فليصالح من يصالح إنّا على ثورتنا قابضون”.
تمضي تركيا وفقًا لما تقتضيه سياستها الداخلية والمتغيرات التي تطرأ على السياسة الإقليمية أيضًا، وبذلك تحول الملف السوري بكل أبعاده الإنسانية إلى ورقة انتخابية بالنسبة لحزب العدالة والتنمية الذي بدل أوراقه ومبادئه من أجل الفوز بمصافحة مع الأسد قبل موعد الانتخابات العامة في تركيا.