ترجمة وتحرير: نون بوست
على مدى السنوات الثلاث الماضية، لم يكن الموت والدمار العنصرين البارزين الوحيدين لتذكّر جائحة كوفيد-19، ذلك أن الجائحة أدت كذلك إلى توسيع نطاق عدم المساواة إلى حد كبير في جميع أنحاء العالم.
وفقًا لمؤشر بلومبرغ للمليارديرات، ضاعف 131 مليارديرا صافي ثروتهم خلال الوباء. فعلى سبيل المثال، بلغت ثروة أغنى شخص في العالم وهو برنار أرنو، الرئيس التنفيذي لمجموعة لوي فويتون، 159 مليار دولار في 27 كانون الأول/ ديسمبر 2022 بزيادة بنحو 60 مليار دولار مقارنة بأوائل سنة 2020. ومن جهته، تفاخر إيلون ماسك – ثاني أغنى رجل في العالم – بثروة ناهزت 139 مليار دولار بعد أن كانت أقل من 50 مليار دولار قبل الجائحة. كما تضاعفت ثروة الهندي غوتام أداني، ثالث أغنى رجل حسب هذا المؤشر، بأكثر من عشر مرات خلال هذه الفترة من 10 مليارات دولار في بداية سنة 2020 إلى 110 مليارات دولار في نهاية سنة 2022.
في سنة 2020 وحدها، وقع في براثن الفقر المدقع ما يقارب 97 مليون شخص أي أكثر من عدد سكان أي دولة أوروبية، بمدخول أقل من 1.90 دولار في اليوم (وهو خطّ الفقر الذي حدده البنك الدولي). وتشير التقديرات إلى أن معدل الفقر العالمي قد ارتفع من 7.8 في المائة إلى 9.1 بالمئة بحلول أواخر سنة 2021. والآن، يؤثّر ارتفاع معدل التضخّم بشكل كبير على نموّ الفعلي للأجور ويقوّض الدخل المتاح للناس في جميع أنحاء العالم.
للحد من ارتفاع الأسعار، تعمل البنوك المركزية على تقليل تدفق الأموال إلى الاقتصاد عن طريق الترفيع في أسعار الفائدة وسحب السيولة الزائدة، لكن نتائج هذا الوضع ارتدّت مرة أخرى على القوة العاملة إذ أعلنت الشركات – من شركات التكنولوجيا مثل أمازون وتويتر وميتا إلى المؤسسات المصرفية مثل غولدمان ساكس – عن تسريح عدد من موظفيها في نهاية سنة 2022 التي شهدت فعليًا اضطرابًا.
تحدثت “الجزيرة” إلى عدد من الخبراء الاقتصاديين لفهم سبب ازدياد ثراء الأغنياء حتى خلال الأزمات وما إذا كان ذلك أمرًا لا مفر منه في كل مرة يحدث فيها تباطؤ اقتصادي.
الجواب المختصر: تتبنى العديد من البلدان سياسات تشمل تقديم الإعفاءات الضريبية والحوافز المالية للشركات من أجل تعزيز الاقتصادات خلال أوقات الأزمات مثلما حدث أثناء الجائحة. تغرق البنوك المركزية الاقتصاد بالمال لتسهيل الإقراض والإنفاق، وهذا يساعد الأثرياء على تنمية أموالهم من خلال استثمارات السوق المالية. مع ذلك، من الممكن تجنب توسيع فجوة عدم المساواة.
ازدهار سوق الأسهم
في بداية الجائحة، اعتمدت البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم إجراءات لحماية الأسواق المالية التي تعرضت لضربة شديدة بعد أن بدأت الحكومات في فرض قيود الإغلاق. ومن أجل إنقاذ الاقتصاد من الانهيار، خفّضت البنوك المركزية أسعار الفائدة، وبذلك قلّصت من تكاليف الاقتراض وزادت المعروض من النقد. ضخّت البنوك أيضًا تريليونات الدولارات في الأسواق المالية بهدف تشجيع الشركات على الاستثمار في الاقتصاد، وبدورها ضخّت البنوك المركزية الكبرى أكثر من 11 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي منذ سنة 2020.
نتج عن هذه التدخلات طفرةٌ في قيمة الأسهم والسندات والأدوات المالية الأخرى، لكن الارتفاع في أسعار الأصول لم يقترن بزيادة في الإنتاج الاقتصادي. وحسب فرانسيسكو فيريرا، مدير المعهد الدولي لعدم المساواة في كلية لندن للاقتصاد، فإنه “بدلاً من تحفيز المزيد من الإنتاج الاقتصادي، ساهم الضخّ المفاجئ للأموال في النظام المالي في ارتفاع كبير في أسعار الأصول، بما في ذلك الأسهم، التي استفاد منها الأغنياء”.
بعد مرور سنة على انتشار فيروس كوفيد-19، ارتفعت قيمة أسواق رأس المال بمقدار 14 تريليون دولار، وحققت 25 شركة – معظمها في قطاع التكنولوجيا والمركبات الكهربائية وأشباه الموصلات – 40 بالمئة من إجمالي المكاسب وفقًا لتحليل أداء أسهم أجرته شركة “ماكينزي” الاستشارية شمل 5000 شركة.
في تصريح للجزيرة، قال مدير العدالة الاقتصادية في أوكسفام أمريكا نبيل أحمد إن “النتيجة تمثلت في تحقيق أكبر زيادة في ثروة المليارديرات خلال فترة الجائحة منذ بداية توثيق السجلات. وما زلنا نحاول استيعاب مدى استثنائية هذه الزيادة”.
وفقًا لتقرير أوكسفام بعنوان “الربح من الألم” الصادر في أيار/ مايو من هذه السنة، شهدت قيمة ثروات المليارديرات زيادةً خلال 24 شهرًا تعادل ما حقّقوه خلال 23 عامًا، ليشهد الاقتصاد العالمي خلال الوباء ولادة ملياردير جديد كل 30 ساعة بينما يدفع ارتفاع أسعار المواد الغذائية ما يقارب المليون شخص إلى حافة الفقر المدقع.
عوامل ما قبل الجائحة
في الواقع، كانت التفاوتات في الدخل والثروة آخذة في الارتفاع منذ الثمانينيات عندما بدأت الحكومات في جميع أنحاء العالم تحرير الاقتصاد لتشريك القطاع الخاص أكثر. ويشير التفاوت في الدخل إلى الفجوة في الدخل المتاح للأغنياء والفقراء، بينما يرتبط عدم المساواة في الثروة بتوزيع الأصول المالية والحقيقية، مثل الأسهم أو الإسكان، بين الفئتين.
من بين أمور أخرى، أدت فترة ما بعد تحرير الاقتصاد إلى تراجع قدرة القوى العاملة على المساومة. ووفق كبير المحاضرين في الاقتصاد بمدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بلندن، يانيس دافيرموس، فإن الشركات بدأت تتجه بشكل متزايد نحو الأسواق المالية لاقتراض الأموال لاستثماراتها. وأضاف دافيرموس أن تمويل الاقتصاد على وجه الخصوص، هو الذي ولّد الكثير من الدخل للأثرياء الذين يستثمرون في الأصول المالية. وكلما تقع أزمة اقتصادية، تسعى البنوك المركزية إلى إنقاذ السوق المالية من الانهيار لأنها مرتبطة إلى حد كبير بالاقتصاد الحقيقي. وهذا الأمر يساعد أسواق الأسهم والسندات على الازدهار ويؤدي إلى خلق المزيد من الثروة وانعدام المساواة”.
خلال الأزمة المالية العالمية 2008-2009، ضخّت البنوك المركزية الكبرى السيولة في السوق من خلال أدوات مختلفة مقابل خفض أسعار الفائدة لتشجيع الشركات على الاقتراض والاستثمار.
أوضح أستاذ الاقتصاد بجامعة ماساتشوستس أمهيرست جاياتي غوش للجزيرة أن “سياسة المال السهلة التي ظهرت بعد الأزمة المالية العالمية خفّضت أسعار الفائدة إلى مستويات سلبية وأتاحت سيولةً كبيرة في النظام المالي وهو ما جعل الشركات في السنوات الخمس عشرة الماضية تختار إعادة استثمار الأموال في شراء المزيد من الأصول المالية التي تدرّ عوائد عالية بدلًا من زيادة إنتاجها”.
من جهته، أكد أحمد من منظمة أوكسفام أن الجائحة سرّعت عمل الهياكل المسؤولة عن تفاقم عدم المساواة – سواء عن طريق تحرير سوق العمل أو زيادة القوة الاحتكارية أو تآكل الضرائب العامة. ومن الأمثلة على ذلك، قيام 143 بلدًا من بين 161 بلدًا حللتها منظمة أوكسفام بتجميد معدلات الضرائب على الأغنياء خلال فترة الجائحة مقابل تخفيضها في 11 بلدًا.
التضخم يضرب الدول ذات الدخل المنخفض
عندما بدأت البلدان تخفيف قيود كوفيد-19، تسبب الارتفاع الحاد في طلب المستهلكين إلى جانب صدمات العرض في وصول التضخم العالمي إلى مستويات قياسيّة، وهو ما أجبر البنوك المركزية على إنهاء سياساتها التي تسمح بالوصول إلى الأموال السهلة. كما أعلنت عن زيادة حادّة في أسعار الفائدة. ويتمثّل الهدف الحالي في تقليل الطلب إلى حين انخفاض الأسعار، خاصةً في الاقتصادات المتقدمة مثل الولايات المتحدة، أملًا في استقرار سوق العمل أيضًا.
حفاظًا على أرباحها في أعقاب هذا التحوّل السياسي، شرعت كبرى الشركات في الوقت الراهن في الإعلان عن تقليص عدد موظفيها، حتى في الوقت الذي يتسبب فيه التضخم في تقلّص مدخرات الفقراء.
وقد أكد دافيرموس أنه “حتى مع ارتفاع التضخم، لم تنخفض هوامش ربح الشركات”. وأضاف أن الشركات الكبرى تحتفظ بالأرباح لتوزيعها على مساهميها بدلا من زيادة الأجور، رغم معاناة الشركات الصغيرة من نقص استثمارات الشركات الكبرى.
أسفر الترفيع في أسعار الفائدة عن زيادة تكاليف الاقتراض مما أثر أيضًا على قدرة البلدان منخفضة الدخل والنامية على زيادة الإنفاق على خطط الرعاية الاجتماعية نظرًا لارتفاع مستويات الديون العامة والخاصة على حد سواء.
أوضح دافيرموس أنه “بسبب طريقة عمل النظام المالي العالمي سيكون هناك الكثير من الضغط على الدول النامية لتنفيذ إجراءات التقشف وهو ما يمكن أن يخلق المزيد من عدم المساواة – وهذا أكثر أهمية بالنسبة لي – لأنه يحد من قدرة هذه الدول على توفير الحماية الاجتماعية للفقراء”.
ووفقًا لمنظمة أوكسفام، أنفقت البلدان ذات الدخل المنخفض حوالي 27 بالمائة من ميزانياتها في سداد ديونها – وهو ما يعادل ضعف الأموال التي تُنفق على قطاع التعليم وأربعة أضعاف ما يخصص للصحة.
عدم المساواة خيار سياسي
بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت الدول – حسب ما بيّنه أحمد للجزيرة – اتباع سياسات ضريبية تصاعديّة واتخذت خطوات لمعالجة قوة الاحتكار. وبينما عكست العديد من الدول هذا النهج خلال الجائحة، خالف القليل منها هذا الاتجاه. ومن أجل إعادة توزيع الثروة، رفعت كل من كوستاريكا ونيوزيلندا معدل الضرائب بنسبة 10 بالمائة و6 بالمائة على التوالي. وذكر أحمد أن “هناك أمثلة عن دول تقوم بما هو صحيح وهو ما يذكرنا بأن عدم المساواة أمر يمكن تجنبه، وهو في نهاية المطاف نتاج السياسة وخيارٌ سياسي”.
إذا ما تُركت مسألة عدم المساواة في الثروة دون حلّ، فإن هذا الوضع يمنح الأغنياء القوة للتأثير على السياسات لصالحهم ما قد يعمّق فجوة الدخل أكثر بغض النظر عن طبيعة فترات الازدهار والكساد للدورات الاقتصادية. ويرى فيريرا من كلية لندن للاقتصاد أن “الثروة المرتفعة ترتبط باستحواذ النخبة على مؤسسات الحكومة والدولة”. وهذا الأمر يمكن أن يتخذ أشكالا مختلفة في سياقات ديمقراطية مختلفة ولكن النتيجة واحدة “تزداد قوة الأثرياء في المساومة بفضل الأدوات المختلفة التي يستخدمونها مثل الضغط لينتهي الأمر بصياغة سياسات تخدم مصالح الأثرياء، وهو ما يخلق دورة أخرى ولكنها مختلفة هذه المرة؛ إنها دورة سياسية”.
المصدر: الجزيرة