لم يمضِ سوى شهرين على تكليف رئيس الوزراء الحاليّ محمد شياع السوداني بمهمة تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، بصفته مرشحًا للتحالف الأكبر في البرلمان العراقي، والحديث هنا عن الإطار التنسيقي الشيعي الذي نجح عبر تفاهمات سياسية مع الكرد والسنة من تشكيل تحالف “إدارة الدولة”، حتى بدأت الخلافات تظهر تباعًا بين السوداني والأطراف الرئيسة في الإطار، أبرزها نوري المالكي زعيم ائتلاف دولة القانون وقيس الخزعلي زعيم عصائب أهل الحق، بشأن العديد من الملفات والقضايا المتعلقة بالمناصب الأمنية والعلاقة مع واشنطن، وأخيرًا أزمة انخفاض الدينار مقابل الدولار.
هذه الخلافات تُظهِر بصورة واضحة حجم التحديات التي يواجهها السوداني من جهة، والإطار التنسيقي من جهة أخرى، فالسوداني يحاول على ما يبدو أن يظهر بمظهر رجل الدولة القادر على تقديم حلول تعيد التوازن للنظام السياسي، أما قوى الإطار التنسيقي فهي ترى أن أي خطوة يمكن أن يقدم عليها السوداني بمثابة تهديد لمكتسبات التحالف الحاكم.
ولعل هذا ما دفع إلى اتساع دائرة الخلاف بين الطرفين، لتظهر على السطح حاليًّا، محاولة قوى الإطار عرقلة الاتفاق السياسي بين السوداني والقوى السنية على سبيل المثال، خصوصًا فيما يتعلق بإلغاء هيئة المساءلة والعدالة، فرغم تعهد السوداني بذلك، ما زالت قوى الإطار التنسيقي ترفض تقديم أي تنازلات في هذا الصدد.
المناصب الأمنية
كانت أولى بوادر الخلاف بين الطرفين تتمحور حول المناصب الأمنية التي ما زالت بعض قوى الإطار التنسيقي، تحديدًا المسلحة منها، والحديث هنا عن كتائب “حزب الله” العراقي وعصائب أهل الحق، مصرةً على الاستحواذ عليها، كجهاز الأمن الوطني وجهاز المخابرات وجهاز مكافحة الإرهاب.
فإلى جانب رفض السوداني وضع شخصيات مقربة على رأس هذه الأجهزة، دخلت الولايات المتحدة على الخط، وأبلغت السوداني عبر سلسلة اللقاءات المتكررة التي عقدتها معه السفيرة الأمريكية في بغداد إلينا رومانوفيسكي، أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تتحفظ على مثل هذه الخطوة، وأنها لن تتعامل مع أي مسؤول يوضع على رأس هذه الأجهزة، إذا كان مقربًا من هذه الفصائل أو غيرها.
وعلى الرغم من إجراء السوداني بعض التغييرات العسكرية مؤخرًا، من أجل كسب ود هذه الفصائل، وتحديدًا على مستوى قيادات العمليات ورئيس الاستخبارات العسكرية وقيادات حرس الحدود، فإن هذه الفصائل ما زالت مصرةً على مطلبها، ما دفع السوداني إلى إدارة هذه الأجهزة مباشرة بالوكالة، بسبب عدم قدرته على تقديم مرشح آخر خارج مظلة هذه الفصائل.
فالسوداني يدرك جيدًا مخاطر تسليم هذه المناصب للفصائل المسلحة، خصوصًا على مستوى العلاقة الأمنية مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، والتفاهمات الأمنية والاستخبارية مع بعض دول الجوار الإقليمي، بشأن العديد من الملفات التي يأتي في مقدمتها تنسيق الجهود لمكافحة تهديدات تنظيم “داعش”.
العلاقة مع واشنطن
يدرك السوداني أهمية الحفاظ على المستوى الحاليّ من العلاقات مع الولايات المتحدة، وهو ما ترفضة قوى الإطار التنسيقي التي ترى ضرورة إعادة تشكيل العلاقة بالشكل الذي يخدم رؤيتها السياسية، فقوى الإطار التنسيقي عبرت مرارًا عن رفضها للدور الأمريكي في العراق، وهي رؤية متأثرة بشكل أو بآخر بالعلاقة المتوترة بين طهران وواشنطن.
فخلال إحياء قوى الإطار التنسيقي للذكرى الثانية لمقتل العديد من عناصر كتائب “حزب الله” العراقي الذين سقطوا في غارة جوية أمريكية على قاعدة عسكرية تتبع للكتائب في القائم في 30 ديسمبر/كانون الأول 2019، أشار رئيس تحالف الفتح في خطاب له يوم أمس، إلى أن إنهاء الاحتلال العسكري الأمريكي في يناير/كانون الثاني الماضي، يجب أن يتبعه إنهاء للاحتلال الاقتصادي، لأن الولايات المتحدة سبب المؤامرة التي تحيط بالعراق اليوم.
إذ تحاول قوى الإطار التنسيقي الضغط على السوداني من أجل إدخال تعديلات جديدة على اتفاق الشراكة الإستراتيجية مع واشنطن، خصوصًا أن السوداني أعلن قبل أيام نيته إرسال وفد من الخارجية العراقية لزيارة واشنطن الشهر المقبل، من أجل استكمال جولات الحوار الإستراتيجي بين بغداد وواشنطن، الذي يبحث مستقبل وجود القوات الأمريكية في العراق، إذ ترغب قوى الإطار التنسيقي أن يتضمن التعديل الجديد منع الطائرات المسيرة الأمريكية وغيرها من اختراق الأجواء العراقية، إلى جانب رفع الفيتو الأمريكي على جهود الحشد الشعبي لشراء الأسلحة والمعدات من خارج المنظومة الأمريكية.
السوداني يحاول على ما يبدو أن يظهر بمظهر رجل الدولة القادر على تقديم حلول تعيد التوازن للنظام السياسي، أما قوى الإطار التنسيقي فهي ترى أن أي خطوة يمكن أن يقدم عليها السوداني بمثابة تهديد لمكتسبات التحالف الحاكم
وفي هذا السياق أيضًا ينظر السوداني بحذر شديد إلى أي متغير قد يطرأ على العلاقة مع الولايات المتحدة، خصوصًا أن للولايات المتحدة العديد من مداخل التأثير في الوضع العراقي أبرزها: التأثير السياسي الذي تملكه واشنطن في العراق، سواء عبر تأثيرها في مجلس الأمن الدولي أم من خلال تأثيرها في مسارات العملية السياسية العراقية وارتباط الاقتصاد العراقي بمحركات الاقتصاد الأمريكي، وتحديدًا في مجالات تصدير الطاقة أو حركة العملة أو سياسات مكافحة الفساد، أو حتى فيما يتعلق بملف العقوبات الأمريكية على إيران أو على حلفائها بالعراق، إلى جانب ارتباط العراق باتفاقات أمنية مع الولايات المتحدة، وتحديدًا في مجال تطوير القدرات العسكرية العراقية.
فضلًا عن انخراط واشنطن في التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”، وكذلك في عملية إصلاح قطاع الأمن في العراق، وهي مسارات قد تنعكس سلبًا على الواقع الأمني في العراق، فيما لو قررت الولايات المتحدة الانسحاب في أي وقت من الأوقات، وفق ما تريده قوى الإطار التنسيقي، دون أن يكون هناك التزام إستراتيجي يربط علاقاتها بالعراق، والأهم من كل ذلك ارتباط بغداد بالعديد من برامج الدعم والتنمية والمساعدة الأمريكية مع واشنطن، وهي برامج أعطت واشنطن هامش مناورة سياسية مؤثرة في العراق.
أزمة الدولار
منذ مطلع الأسبوع الماضي بدأت ملامح أزمة اقتصادية جديدة تعصف بالعراق، بعد الارتفاع المفاجئ في قيمة الدولار الأمريكي مقابل الدينار العراقي، وهو ارتفاع جاء بعد سلسلة من العقوبات التي فرضها البنك الفيدرالي الأمريكي على عدد من البنوك العراقية المرتبطة بفصائل مسلحة موالية لإيران، التي يُشتبه بوقوفها خلف عملية تهريب الدولار إلى خارج العراق، وهدفت هذه العقوبات إلى منع عمليات التهريب بسبب ارتفاع مؤشرات الفساد، كما فرض تشديدًا أكبر على حركة الحوالات.
وفي محاولة للحد من هذه الأزمة، أعلن البنك المركزي العراقي حزمة قرارات للسيطرة على سعر صرف الدولار، وناقش مجلس إدارة “المركزي العراقي” تداعيات ومؤشرات ارتفاع أسعار الصرف في الأسواق المحلية، وما يتعرض له سعر صرف العملة الأجنبية منذ أيام من ضغوطات مؤقتة ناتجة عن عوامل داخلية وخارجية، نظرًا لاعتماد آليات لحماية القطاع المصرفي والزبائن والنظام المالي، فمتطلبات التجارة الخارجية (لأغراض الاعتمادات المستندية أو الحوالات) مغطاة بالكامل بالسعر الرسمي، أي 1465 دينارًا للدولار، بالنسبة للاعتمادات المستندية، و1470 دينارًا للدولار بالنسبة للحوالات.
رغم المحاذير السياسية التي تقف خلف هذه الخلافات، فإن كلا الطرفين يدركان مخاطر وصول هذه الخلافات إلى مرحلة اللاعودة
وكانت شبكة “إيران إنترناشيونال” قد كشفت في وقت سابق، الأسباب التي قالت إنها تقف خلف انهيار الدينار العراقي أمام الدولار الأمريكي، متوقعة أن تزداد حدة الهوة بينهما قريبًا، وأوضحت الشبكة في تقرير أن الولايات المتحدة تمنع دخول الدولار إلى إيران، وتفرض على العراق حصر التبادل التجاري معها بالدينار العراقي فقط.
وقالت الشبكة إن إدارة بايدن “تنبهت” أخيرًا الى طبيعة التبادل التجاري بين البلدين، وخرق العقوبات الذي تقوم به بغداد، من خلال تمكين إيران من الحصول على الدولار الأمريكي، بعد زيارة السوداني إلى طهران واتفاق الطرفين على “عقد تجاري مبهم”، حصلت الأخيرة بموجبه على مبلغ 4 مليارات دولار أمريكي، مشيرةً إلى أن الاتفاقية التي تضمنت تقديم المبلغ إلى السلطات الإيرانية مقابل “خدمات طبية، هندسية وخبرات متنوعة” لم توضح طبيعتها.
إجمالًا، كشفت هذه الخلافات التي بدأت تُحيط بالعلاقة بين السوداني وقوى الإطار التنسيقي، دفع البعض من قوى الإطار للتهديد بإقالة السوداني من منصبه، إذ أشارت بعض التقارير إلى أن “قادة الإطار التنسيقي أبلغوا السوداني خلال اجتماع عُقد مؤخرًا، بضرورة إعلام وإطلاع الهيئة القيادية للإطار على أي قرار قبل اتخاذه بشكل رسمي، مع ضرورة إيجاد حلول سريعة لأزمة ارتفاع الدولار في السوق المحلي، وأن استمرار اتخاذ القرارات بشكل فردي، دون الرجوع للهيئة القيادية، سيرفع عنه الدعم والحماية السياسية، وهذا الأمر سيؤدي إلى الإقالة من المنصب”.
وهنا أيضًا يمكن القول إنه على الرغم من المحاذير السياسية التي تقف خلف هذه الخلافات، فإن كلا الطرفين يدركان مخاطر وصول هذه الخلافات إلى مرحلة اللاعودة، خصوصًا أن هناك لاعبين آخرين ينتظرون وصول الطرفين إلى مرحلة الفشل، والحديث هنا عن التيار الصدري وقوى تشرين وتيارات سياسية أخرى، وهو ما قد يجعل السوداني وقوى الإطار يدركان حجم المخاطر التي قد تنجم عن مثل هذه الخلافات على مستقبل وجودهم السياسي داخل العملية السياسية العراقية في المرحلة المقبلة.